ثيري واسر: أي مبدع معرض للانتقاد وأن تجرح مشاعره.. وأنا لست مختلفا

«أنف» دار «غيرلان» عن عطره الجديد «شاليمار إينيسيال» وذكرياته

TT

«شاليمار» اسم عطر تعرفه الجدات والحفيدات على حد سواء، بالنظر إلى عمره الذي يقدر بـ85 عاما، لكن على الرغم من كل هذه السنوات، فإنه لم يتوقف عن التجدد، حيث يخضع بين الفينة والأخرى لعمليات تطوير تعيد له توهجه وقوته، أحيانا بإدخال مكونات جديدة عليه، وأحيانا باستبدالها بأخرى مع مراعاة تغيير شكل قارورته وألوانها لترقى إلى مستوى التحف.

مؤخرا طرحت «غيرلان»، وهي الدار المبدعة له، نسخة أكثر شبابا تخاطب الصغيرات وتدخلهن نادي دار «غيرلان» المثير أطلقت عليه اسم «شاليمار إينيسيال». وتقول القصة إن مبتكره ثيري واسر، أنف الدار، تلقى طلبا خاصا من ابنة أخته تطلب منه ابتكار عطر «شاليمار» بنسخة خاصة بها، أكثر خفة وعصرية. أثارته الفكرة، وشعر بأن الوقت فعلا مواتٍ لكي يجدده من دون أن يغير روحه التي تفوح منه حلاوة السنين. والنتيجة كانت عطرا يعبق بخلاصات الفواكه وباقة من الأزهار مثل البرغموت والورد تتراقص على نغمات دافئة تستمد حرارتها من البهارات والتوابل، لكن المهم بالنسبة لثيري واسر كان الحفاظ على النغمات الأساسية ومزجها بأسلوب جديد يجعل العطر يهمس عوضا عن أن يصرخ. وبقدر ما كان العطر الجديد مثيرا في رقته وقويا في خفته، كانت شخصية مبدعه ثيري واسر. كان اللقاء في المقر الرئيسي لـ«ميزون غيرلان» الواقع بشارع الشانزلزيه بطوابقه المتعددة وخدماته المتنوعة، وبالكثير من الفخر والزهو تحدث عن مولوده الجديد وتاريخه في عالم العطور من دون أن ينسى أن يعبر عن امتنانه للسيد جون بول غيرلان، الأب الروحي، الذي أعطاه فرصة العمر..

* المبدع لا يرضى عموما عن أي شيء يقدمه، فهو يحتاج دائما إلى تحسينات، لكنك تبدو راضيا عن «شاليمار إينيسيال» وتتحدث عنه بفخر؟

- بالفعل، فقد شعرت بكامل الرضا ما إن انتهيت منه، لكني لا أنكر أن المشكلة بالنسبة لأي مبدع هي رغبته الدائمة في التجويد، فهو لا يعرف متى يتوقف عن التطوير والتجويد، ولولا عامل الوقت لما توقف. فما أصبح كل «أنف» يعرفه أنه إلى جانب عملية الإبداع هناك عملية الإنتاج والتسويق وغيرها من الأمور التي تجعلك تشعر بأن الوقت من ذهب. جون بول غيرلان مبدع عطر «سمسارا» مثلا، اشتغل عليه طويلا وقام بعدة اختبارات تقدر بـ600 اختبار، لأنه في كل مرة كان يشعر أن ثمة شيئا ناقصا، وعلى الرغم من أن المرأة التي كان يصنعه لها قالت له إنها تفضل محاولته الـ32.

* في أي مرحلة تبدأ ضغوط الإنتاج التجاري في التأثير على عملية الابتكار؟

- (بابتسامة تحمل عدة معان) لحسن حظي أن علاقتي بالمعمل جيدة، وأحاول دائما أن أسعدهم بأن أتقيد بالمواعيد المقررة. لكن في حال طلبت منهم التأجيل لبعض الوقت، فإني أتوقع منهم أن يتعاملوا معي بالمثل، أي أن يجاملوني.

* عندما طلبت منك شركة «غيرلان» الالتحاق بها منذ بضع سنوات، هل شعرت ببعض الخوف، كونك أول «أنف» غريب يدخلها بحكم أن كل من عمل فيها قبلك كانوا من أفراد من العائلة؟

- عندما اتصلوا بي فكرت أن المسألة مزحة.. لماذا أنا؟ فهناك العديد من صناع العطور العاملين في بيوت معروفة. لكن بعد فترة وضعت تواضعي جانبا، وفكرت أنهم اختاروني لأني الشخص الذي يناسبهم. فعملي لا يقتصر على ابتكار عطور فحسب، بل تمثيل الدار واسمها، والبحث عن مكونات جديدة، وغيرها من التفاصيل المهمة. جون بول غيرلان، خير من فسر الأمر عندما قال في عدة مناسبات إنه لو لم يستعن بي، لكانت الأمور أكثر صعوبة بالنسبة له.

* ما هي علاقتك بجون بول غيرلان؟

- إنه بمثابة الأب الروحي بالنسبة لي، أحترمه كشخص أكبر مني وكمعلم في مجاله.

* هل كانت وضعيتك في الشركة ستختلف من دون دعمه؟

- بل قولي إن الأمور ستكون مستحيلة.. فهو الذي قدم لي مفاتيح العمل وأسراره. في عملي السابق، كنت كمن يعيش في شرنقة مغلقة، أما هنا فأنا في الواجهة، ولدي مسؤوليات أكبر، بما في ذلك اختيار الخلاصات والمكونات والبحث عنها في أماكن متعددة من العالم، لهذا ليس لدي عذر، ولا مجال للخطأ هنا. فدوري أن أكون مسؤولا على كل شيء من الألف إلى الياء.

* كيف سمع عنك أساسا؟ وكيف كان اللقاء الأول؟

- قابلته من خلال صديق مشترك في جنوب فرنسا، إذ كنت أعمل مع «غيرلان» كممون للمكونات التي كانوا يستعملونها، قبل أن ألتحق بهم ببضع سنوات. خلال وجبة العشاء تحدثنا عن كل شيء وكان بيننا كيمياء. عندما علم أني درست على يد موريس تيبو، رئيس قسم العطور في شركة «جيفودان» علقت بباله عندما احتاج إلى «أنف» خاص بالدار.

* قلت إنه في عملك السابق، يعامل خبير العطور وكأنه وردة يجب حمايتها من العالم الخارجي بمعنى إبعادها عنه، على العكس من عملك مع «غيرلان». هل كان التغيير صعبا أم جاء تدريجيا حتى تتأقلم مع وضعك في الشركة؟

- هناك أمور لا تتعلمها، فإما تتمتع بها وإما لا. لكني أؤمن بأن العمل يخلق الإنسان ويشكله، فنوعه يغير عقليتك وطريقة تعاملك، أحيانا بشكل إيجابي وأحيانا سلبي. ومنذ أن التحقت بـ«غيرلان» أشعر بما لا يترك مجالا للشك بأني تغيرت كثيرا، فأنا أكثر هدوءا، وأكثر انسجاما مع نفسي ومع من حولي. هذا لا يعني أنني تخلصت من كل الشكوك والمخاوف التي كانت تنتابني، فأنا أشعر بها أحيانا كلما أطلقت عطرا جديدا.

* الخوف من الفشل أم من أن تخيب آمال وثقة جون بول غيرلان فيك؟

- الاثنان.. وكذلك لأن صانع العطور يضع نفسه في قارورة، أي في وضع حساس معرض للكسر في أي لحظة لأنه يكون مكشوفا للآخرين، خصوصا انتقادات محرري المدونات، لأنهم عندما يقولون إن العطر سيئ، فهم كمن يقول إنك أنت السيئ. كل فنان معرض للانتقاد، ولأن تجرح مشاعره، وأنا لست مختلفا.

* أبدعت العديد من العطور، هل هناك عطر تفتخر به بوجه خاص؟

- هناك العديد، أذكر منها على سبيل المثال «ديور أديكت»، الذي أحبه وقدمته في التسعينات. حقبة كان يناسبها جدا عطر قوي وجريء. هذا العطر له مكانة خاصة في نفسي، وجاء في مرحلة مهمة من حياتي. فقد كنت أعيش في نيويورك لمدة 9 سنوات، ولم أكن سعيدا على الإطلاق هناك، ثم فجأة طلب مني أن أذهب إلى باريس لصنع هذا العطر. لهذا فإن أهميته بالنسبة لي تتعدى كونه مجرد عطر ناجح، فهو يمثل جزءا من حياتي وفترة مهمة فيها. فالعطور دائما ما تمثل مرحلة أو ترتبط بشخص مهم في الحياة ليس فقط لمن يشمها بل لمن يصنعها أيضا.

* لكن أي عطر حقق لك النجاح التجاري؟

- بصراحة.. لا أعرف.

* قلت إن الولايات المتحدة سوق مهمة؟

- لكن ليس لعطور «غيرلان»، فسوقنا الأهم هنا في فرنسا.

* ماذا عن الشرق الأوسط؟

- لا يتميزون بالولاء لعطر واحد، فهم يغيرون ويبحثون دائما عن آخر إنتاج، لكن من الصعب مضاهاة حبهم للعطور المميزة. حتى الرجال العرب يحبون الحديث عن العطور وأنواعها وخلاصاتها وتاريخها، لأنها جزء من حضارتهم وتاريخهم.

* هل تحاول مغازلة هذه السوق بخلاصات تعرف أنهم يميلون إليها؟

- ليس بالضرورة أن تصنع عطورا مصنوعة بالعود العربي لكي تجذبهم، لأنهم يتقبلون أي شيء جديد ما دام مترفا، مثل الورد، وزهرة البرتقال، وغيرهما، شريطة أن تكون بطريقة مميزة. في عام 2008، استعملنا العود في بعض العطور، ثم إنك عندما تختارين أسماء عطور مثل «سمسارا» أو «شاليمار» فأنت تنجذبين بالضرورة نحو الشرق وخلاصاته المترفة مثل العود.

* تتحدث كثيرا عن الصدف وكيف غيرت حياتك، هل كان للصدفة دور في دخولك مجال العطور؟

- كيف عرفت؟! بالفعل.. وربما أدين للإعلام بذلك، فعندما أنهيت دراستي في جنيف كمساعد خبير عطور، قام أحد أصدقائي بتصوير فيلم خاص عن عملي. كنت مبتدئا وقبلت التصوير لكي أساعده فقط، وما لم أكن أعرفه هو أن الفيلم سينجح في إثارة انتباه صحافي يعمل في «لاسويس»، وهي صحيفة سويسرية محلية كتب مقالا عني غير مجرى حياتي، قال فيه ما معناه أني «الأنف» القادم في عالم العطور. عندما قرأه المدير العام لشركة «جيفودان» اتصل بي مباشرة مقترحا علي العمل معهم. كان عمري 19 سنة آنذاك، والباقي أصبح من خبر كان.