الحنين إلى الماضي يولد ساعات المستقبل

تحية للمبدعين المؤسسين.. أم لعب على المضمون؟

TT

العديد من صناع الساعات يدركون أن بعض الأساطير تستمد قوتها من عصرها والزمن الذي ولدت فيه. يدركون أيضا أن سحرها، في بعض الأحيان، يكون في غاية القوة، مما يستدعي إعادتها إلى الواجهة، لكن بعد ضخ دم جديد فيها يجعلها تتنفس، وتصبح أكثر جمالا. كل هذا من دون المساس بهالتها الأصلية. من هذا المنطلق، عادت الكثير من الشركات إلى أرشيفها للغرف منه واستلهام تصاميم أو تقنيات، تفننوا فيها وأعادوا صياغتها وتطويرها لتناسب الحاضر والمستقبل على حد سواء. لهذا كان لافتا خلال معرض جنيف للساعات الفاخرة هذا العام، تكرار مصطلحات مثل «كلاسيكي»، «تقليدي»، «تاريخي» و«إرث عريق». والمقصود هنا هو الساعات المستلهمة من الماضي بتعديلات عصرية، أو ما يطلق عليها ساعات الـ«فينتاج». نعم، فعلى ما يبدو، لم تعد موضة «الفينتاج» تقتصر على الأزياء المستوحاة من العشرينات أو الأربعينات وغيرها من حقب القرن الماضي فحسب، بل وصل تأثيرها إلى عالم المجوهرات والساعات تحديدا، وهذا ما كان واضحا طوال الأربعة أيام التي احتضنتها جنيف. الجميل في المعروضات أنها لا تحترم ماضيها فحسب، بل أيضا قانون التغير الذي لا يموت، بل فقط يتحول.

لكن يبقى السؤال الملح على البعض: لماذا هذا الحنين إلى الماضي، هل هو من باب التعبير عن الفخر والاعتزاز باختراعات المؤسسين، أم هو لعب على المضمون وتجنب الدخول في أي مغامرات في أوقات الأزمات الاقتصادية، أم هو من باب إرضاء أذواق عشاق البساطة، ممن أصبحوا يشكلون فئة لا يستهان بها من الأثرياء الجدد الذين تستهدفهم هذه الصناعة؟. الجواب قد يكون كل هذه الأسباب مجتمعة. فالتقنيات والوظائف القديمة، مثل الكرونوغراف وغيرها، لا تزال قوية رغم مرور عشرات السنوات عليها، كما أن تصاميمها لا تفتقر إلى التميز. كذلك لظهور أسواق جديدة مثل الصين، دور مهم. فهي سوق حديثة باتت تشكل أهمية كبيرة لصناعة الساعات، والصينيون يمثلون عملاء ما زال العديد منهم ينمون أذواقهم. فهم مثلا أكثر ميلا إلى الأشكال المستديرة والأحجام الأصغر من الساعات، التي يراعى فيها أدق تفاصيل الجماليات، مما يفسر المجموعات الكلاسيكية المطروحة هذا العام. إضافة إلى كل هذا، فإن أي اختراع يطرح هذا العام، يكون العمل فيه بدأ قبل مدة طويلة، وفي هذه الحالة، ليس بالمستبعد أن يكون بدأ حين كانت الأزمة الاقتصادية في أوجها. ومن ثم، فإن العودة إلى الموديلات الناجحة مضمونة أكثر، خصوصا إذا كان هذا القديم مميزا ومن الموروثات المحترمة. من هذا المنطلق استعملت كلمة إرث في الكثير من البيانات الصحافية والعروض التقديمية. على سبيل المثال، صرح بيان صحافي صادر عن «فاشيرون كونستانتين» أن «الجاذبية المؤكدة التي تمثلها مجموعة الموديلات التراثية بالنسبة لمقتني الساعات تأتي من كونها تمثل علامات مهمة في التاريخ المميز للعلامة التجارية». و«فاشيرون كونستانتين» لم تكن وحدها التي استعملت هذه اللغة ووجهت عيونها صوب الماضي لتقدم إبداعات عصرية ومستقبلية. فشركة «جيجير - لوكولتر» Jaeger Lecoultre أيضا طرحت موديل «غراند ريفيرسو ألترا ثين تريبيوت» المستوحى من موديلات الشركة لعام 1931، العام الذي ولدت فيه فكرة ساعة قادرة على حماية نفسها من الصدمات وتقدّم في الوقت نفسه قعرا للعلبة محفورا وموسوما بعلامة تدلّ على أنها ملك خاصّ لشخص معيّن. وبعد مرور ثمانين سنة، أصبحت Reverso بمثابة قطعة أيقونية، تطوّرت أحجامها، واكتسبت أحجاما أصغر للنسخ النسائية وأكبر للنسخ الرجالية، لكنها بقيت محافظة على أسلوبها الفريد حتى عندما تحوّلت علبتها من الشكل المستطيل إلى المربّع. هناك أيضا مجموعة «فينتاج بولسوغراف» من تشكيلة «مون بلان فيلوريه 1858». Montblanc Collection Villeret 1858The New Vintage Pulsographe التي يشعر الفرد بمجرد وقوع نظره عليها كما لو أن الزمن قد عاد به إلى فترة الثلاثينات من القرن الماضي، الفترة التي ازدهرت فيها كرونوغرافات ساعات اليد. ويتمثل أحد الجوانب الاستثنائية في الكرونوغراف الجديد من «فليريت» في قطر العلبة البالغ 39.5 ملم، وهو ما يجعله الكرونوغراف الأول في تشكيلة «مون بلان فليريت 1858» الذي يقل قطره عن 40 ملم. حجم استلهم من كرونوغرافات فترة الثلاثينات، حين «كانت الأشياء الصغيرة جميلة». على الرغم من أن قطر الحركة لا يتعدى 29.5 ملم (13 خطا)، فإن معيار كرونوغراف MBM 13.21 يتمتع بكل مزايا ميكانيكا الكرونوغراف الكلاسيكي وحرفية التصنيع التقليدية في المصنع، مثل تحكم ترس العمود وربد الترس الأفقي. شركة «جيرار بيريغو» أيضا عادت إلى قديمها وقدمت ساعتها فينتاج 1945 إكس إكس إيل Girard-Perregaux Vintage 1945 XXL المتميزة بتصميم الآرت ديكو وعلبة من الذهب الوردي وأرقام عربية وحركة تدوير ميكانيكية للمزيد من التفرد، علما أن المجموعة لم تتجاهل المرأة وقدمت لها مجموعة مرصعة بالماس بألوان أكثر نعومة.

نفس التحية قدمتها «أوديمار بيغيه» إلى إرثها الغني، فأخذت منه تصميمها الجديد «جيل أوديمار إكسترا ثين» Jules Audemars Extra Thin الذي يحن إلى الستينات من القرن الماضي، بتصميمه الكلاسيكي الهادئ وعلبته الرقيقة، التي تجعله مواكبا للعصر. أما دار «فريدريك كونستان» فجمعت روح الـ«فينتاج» بالرياضي في تشكيلتها «فينتاج رايسينغ»Frédérique Constant Vintage Racing Collection والتي كانت بمثابة تحية لسيارات السباق القديمة. وقد ضربت بهذه التشكيلة عصفورين بحجر؛ إرضاء محبي ساعاتها المميزة، وإغراء عشاق السيارات القديمة، خصوصا أنها ساعات لا تفتقد التقنيات الحديثة والوظائف المعقدة التي يميل إليها الهواة. جدير بالذكر أن عمليات إنتاج الموديلات القديمة، خصوصا النماذج الأيقونية منها، ليست بالعملية السهلة، بل العكس تماما. فالمسؤولية التاريخية كبيرة، والتحديث التكنولوجي يتطلب إصرارا، فضلا عن أن طريقة توصيل المنتج يجب أن تكون مثالية بهدف جذب العميل، لهذا عادة ما تلقى فكرة إعادة طرح الموديلات القديمة قبولا على وجه الخصوص لدى المتخصصين وهواة اقتناء الساعات. فهي تتضمن جماليات وتقنيات تجمع مجد الماضي بقوة الحاضر وتطوراته، وهذا ما يفسر أيضا أن أي ساعة «فينتاج» تطرح مرغوب فيها اليوم وغدا.