الشرق الأوسط يلهم الغرب بعباءاته وجلابياته وقفاطينه

ذوق المرأة العربية وقوتها الشرائية من الأسباب

TT

صورة مثيرة من الصعب تجاهلها تتكرر في عروض الموضة العالمية في الآونة الأخيرة، وتشير بما لا يترك مجالا للشك بأن الشرق الأوسط كان نصب أعين المصممين عندما عكفوا على تصميم أزيائهم وإكسسواراتهم. فهم، إن لم يستقوا من جلاليبه وأثوابه وقفاطينه أفكارهم، فهم حتما يتوددون له إما بتقديم أسلوب يناسبه، أو إكسسوارات يعرفون أنه لن يقاومها، وبالتالي سيجنون من ورائها الربح الكثير.

البعض يعيد السبب إلى القوة الشرائية التي تتمتع بها المنطقة، التي حتى إن لم ترق لمستوى القوة الشرائية في الصين بحكم عدد سكانها، فإنه من الصعب الاستهانة بها، خصوصا عندما يتعلق الأمر بالمنتجات المترفة والمميزة، التي كلما علا سقفها كان هذا هو عز الطلب. الشرق الأوسط خصوصا والشرق عموما، شاء المشككون أم أبوا، زادت أهميته بعد انفجار الأزمة المالية العالمية، التي أصابت أسواق أوروبا وأميركا بشلل لا يعرف أي أحد متى ستتعافى منه تماما. أما على مستوى الإبداع، فإن تأثير الشرق ليس جديدا، إذ اغترف منه الكثير من الفنانين المستشرقين مثل الرسام كريستيان لاكروا وغيره، ومن عالم الموضة، يتبادر اسم الراحل إيف سان لوران لأنه من عصرنا، رغم أن الاستشراق طال عالم الموضة منذ بداية العشرينات من القرن الماضي على يد مصممين من أمثال بول بواريه. لكن ما قام به إيف سان لوران، بالإضافة إلى أنه اغترف من سحره طوال السبعينات والثمانينات بنهم، أنه نجح في تعميمه للجميع وليس لشرائح نخبوية فحسب. جذوة الانبهار وأحيانا الحب لم تنته معه، فالمتتبع لعروض الموضة في المواسم الماضية لا بد وأن يشعر بأن التودد أو الافتتان أخذا منعطفا جديدا، من خلال الطول الذي يكاد يلامس الكاحل، أو الياقات العالية أو المجوهرات الراقية أو الإيشاربات والعمامات التي يمكن أن تحل محل الطرحة وغيرها، مع الاستغناء التام، في بعض الحالات، عن أي فتحات جانبية أو «ديكولتيه» يمكن أن يتنفس منه الجسم. وكأن هذا لم يكف، طرحوا أيضا أزياء مستلهمة من العباءة والجلابية والقفطان، وبترجمات تثلج الصدر لما تتضمنه من إجلال لتراث عريق تعتز به المرأة العربية ولا تستغني عنه في الكثير من مناسباتها المهمة، من ستيفان رولان إلى جون بول غوتييه، وأليساندرا ريتش، مرورا ب «هيرميس» وغيرهم.

تعلق كارمن هايد، مؤسسة موقع «أتولييه ماير دوت كوم» (Atelier-Mayer.com) المتخصص في أزياء الفينتاج وتتعامل مع مصممين من الشرق والغرب، بأن «تأثير الشرق الأوسط على الموضة ليس جديدا، بل يعود إلى عقود سابقة. فالعديد من المصممين استلهموا منه، وعلى رأسهم إيف سان لوران، الذي سحرته ألوان المغرب وقفاطينه وجلابياته، فأعاد صياغتها بشكل غربي، مستعملا أقمشة وتطريزات مستوردة من الشرق. الفرق أن عدد المصممين المهتمين بالمنطقة زاد، من دون أن ننسى أن علاقة التبادل بين الغرب والشرق دائما موجودة وليست وليدة اليوم».

المصمم ستيفان رولان، الذي يعتبر نجما ساطعا في الشرق الأوسط، تلبس له جميلات الأسر المالكة والطبقات المخملية، كونه يفهم بيئتها وثقافتها، يوافق كارمن هايد رأيها، ولا يخفي أن الحب بين الشرق والغرب متبادل ويعود إلى أبعد من إيف سان لوران. يقول إنه «يعود إلى بداية القرن العشرين مع المصمم بول بواريه، الذي قدم مجموعة تحاكي مظهر السلطان سليمان إلى جانب تصاميم واسعة بأقمشة مترفة ومطرزة بسخاء. كانت تصاميمه لا تخفي افتتانه بالشرق، الأمر الذي ظهر في فساتين مستوحاة من الجلابيات والقفاطين العربية. إلى جانب بول بواريه، عرف رسام الموضة إيرتي، كيف يدخل هذه الأزياء إلى الغرب بفضل قدرته العجيبة على تجسيدها على الورق بشكل ساحر وغامض في الوقت ذاته، من دون أن ننسى التطرق إلى ملابس راقصات الباليه التي صممها ليون باكست وكانت مستوحاة من قصور الحريم». يتابع رولان: «هكذا ظل الشرق مثيرا للخيال على مر السنين، ليصل إلى قمته في حقبتي السبعينات والثمانينات، حين أصبح إيف سان لوران سفيرا للثقافة الشرقية بسبب حبه لمراكش، ولا يزال المصممون إلى اليوم يبحثون عن سحر المنطقة ويحاولون فك ألغازها».

بيد أن زيادة الإقبال على فهم المنطقة والتقرب منها، لا يعني أن المصممين غيروا نظرتهم إلى الأناقة فجأة ومن دون قراءة للسوق، لأن المصمم الناجح بات يعرف أن عليه مراعاة الجانب الفني بقدر مراعاته الجانب التسويقي، ونظرة إلى المحلات الكبيرة والمهمة في لندن في الصيف تؤكد أن المرأة العربية مؤثرة. فالمحلات مزدحمة بهن وحركة البيع لا تتوقف عندما يكن في العاصمة.

ويمكن الذهاب إلى أبعد من هذا والقول إن قدوم رمضان في الصيف والإجازة السنوية سببا «خضة» لهذه المحلات. فقد بدأت مواسم التنزيلات قبل أسابيع عن موعدها المتعارف عليه منذ عقود، للتخلص من موضة الموسم الماضي وإيجاد مكان لعرض موضة الموسم المقبل، تأهبا لهذه الشريحة المهمة من الزبونات، اللاتي لا يقبلن بالقديم، بل فقط بآخر صيحات الموضة.

هذه النظرة التسويقية التي تستهدف أسواق الشرق الأوسط لا تلغي أن بعض المبدعين فعلا وقعوا تحت سحرها وجمالها، بدءا من بول بواريه، الذي كان أصلا يخاطب بتصاميمه الشرقية زبونات غربيات، وبالتالي لم تكن له مصلحة مع المنطقة، كذلك الأمر بالنسبة لإيف سان لوران بحكم مولده في الجزائر وعيشه في المغرب.

ستيفان رولان، أيضا لا يخفي حبه للمنطقة وما تتضمنه من جماليات ثقافية وفنية تجعله يغترف منها بأسلوبه الخاص. يقول: «سحرتني المنطقة منذ زمن بعيد، حتى أني لا أذكر متى، وكأن ثقافة الشرق كانت جزءا من جيناتي الوراثية. ربما يعود الأمر إلى أن والداي عاشا في مدينة الدار البيضاء المغربية، أو ربما لجدتي التي غذت خيالي بقصص علاء الدين ومغامراته، وتعزز انبهاري وافتتاني بالشرق بعد مشاهدتي فيلم (لورانس العرب)، الأمر الذي دفعني أن أدرس تاريخ المنطقة وأغوص فيه، وبالفعل وجدت أنه بحر لا ينتهي. أما كمصمم فكنت مسحورا بكيف تظهر هذه الثقافة من الخارج لغير العارف وكأنها موحدة الملابس واللون مع أنها غنية ومتنوعة بشكل كبير».

وإذا كان اهتمام ستيفان رولان بالمنطقة وثقافتها نابعا من حب، فإن الجيل الجديد من النساء العربيات له أيضا فضل كبير في تغيير النظرة النمطية المترسخة في أذهان الغرب، فهن زبونات أبعد ما يكن عن ضحايا موضة، بل على العكس، اكتسبن من خبرات أمهاتهن وأخطاء غيرهن، وأصبحن يمثلنها أحسن تمثيل، برشاقتهن وذوقهن الرفيع. فكم واحدة يمكنها أن تلبس بنطلون جينز ضيق من «بالمان» أو «بالنسياجا» تحت عباءة سوداء من الحرير وطرحة وتظهر في غاية الأناقة مثلهن؟ والأهم من هذا فقد أكدن أن الحشمة وتغطية الجسم من الرأس إلى أخمص القدمين فيه الكثير من السحر والإثارة، وليس بالضرورة محاولة للتمويه عن عيوب. ولن نستغرب إن قلنا إن الفضل في تسويق الملابس المحتشمة نسبيا في الأسواق الأوروبية، لا يعود فقط إلى قوتها الشرائية بل أيضا إلى ذوقها الخاص. فالموضة لا تحتاج إلى كشف مفاتن الجسد لكي تضفي الجاذبية والرقي على صاحبتها، وهذه حقيقة تعزز ما كانت تعرفه العائلات المالكة في الكثير من بلدان العالم، بعدم تقبلها كشف الأكتاف في المناسبات الكبيرة وتصر على الأكمام وعلى طول معين في الفستان.

نتيجة هذا التأثير أننا سنشهد في المواسم المقبلة تحولا نحو الفساتين المنسدلة، والياقات العالية والأكمام الطويلة. مظهر تبنته بعض النجمات في عدة مناسبات ولم يؤثر على جمالهن، بل العكس. أما معانقة الغربيات لهذه الموجة، فتشير إلى أن المرأة عموما لم تعد ترتدي أزياء لتغري الرجل، بل تريد فقط التميز على قريناتها وإظهار ذوقها الشخصي.