العالم يحتفل بميلاد الفستان الأسود الناعم

ابتكرته كوكو شانيل في العشرينات.. واشتد عوده بعد فيلم «إفطار في تيفاني»

TT

خمسون عاما مرت على صدور فيلم «إفطار في تيفاني»، وعالم الموضة لم ينس ذلك الفستان الأسود الناعم الذي ظهرت به الراحلة أودري هيبورن. فستان بسيط التصميم تحول إلى قطعة أيقونية لا تتأثر بالزمان أو المكان، وبالتالي لا تغيب عن أي موسم أو مناسبة مهما حاولت الألوان القزحية أن تزحزحه عن مكانته لتأخذ الصدارة. لذلك ليس غريبا أن يمر نصف قرن وهو القطعة الأساسية التي لا تستغني عنها أي أنيقة مهما تغيرت توجهات الموضة وإملاءاتها الموسمية.

شخصية هولي كولايتلي، بطلة الفيلم التي أدت دورها أودري هيبورن، مثيرة للجدل من نواح كثيرة، نظرا لفلسفتها في الحياة ونظرتها الغريبة إلى الأمور. فهي التي قالت في الفيلم: «يمكنك دائما معرفة رأي الرجل في شخصية المرأة من خلال أقراط الأذن التي يهديها لها»، كما أنها هي التي قالت: «أي شخص يمنحك الثقة بالنفس، فأنت تدين له بالكثير». بيد أن الجدل يقف هنا ولا يمتد إلى أناقة السهل الممتنع التي تتبناها، والتي من المستحيل ألا تثير الإعجاب.

في لقطة من الفيلم، مثلا، تستيقظ على صوت جرس. لم تكن جاهزة لاستقبال أي أحد، لكن ما إن وقعت عيناها على الفستان الأسود مرميا إلى جانبها، حتى طالته يداها وكأنها، بحسها العفوي، عرفت أنه يكفي لإنقاذها من أي إحراج. وبالفعل ما إن لبسته حتى تغيرت في دقيقة من أميرة نائمة إلى أميرة في غاية الحسن والجمال مستعدة لمواجهة العالم الخارجي.

ولا شك أن هذه العملية هي التي تمنح هذا الفستان الناعم مكانته الأيقونية، وهي أيضا التي دفعت مجلة «فوغ» أن تشبهه بسيارة «فورد» في عام 1926، عندما طرحته كوكو شانيل أول مرة. في تشبيهها هذا انطلقت «فوغ» من فكرة أن سيارة فورد ساعدت على دمقرطة السيارات وجعلت شرائح أكبر من الناس تمتلكها وتقودها، تماما مثلما أدخل الفستان الأسود الناعم معظم النساء عالم أناقة السهل الممتنع. أيضا فإنه، مثل المحرك، الذي لا يتوقف عن الدوران، يحتاج لصيانة بين آن وآخر، لكي يخرج دائما متألقا وجذابا، مما يعني أنه لم يقف مكانه سر لا يتجدد، بل العكس، ففي كل موسم تدخل عليه تغييرات وتفاصيل تزيده حيوية وتضخه بالعصرية، إلا أنها تبقى تغييرات وإضافات بسيطة ضمن المعقول. فالمصممون قد لا يقاومون إغراءه، لكنهم أيضا لا يمكن أن ينسوا دورهم في المحافظة على أساسياته وشخصيته، التي لا تحتمل أي شطحات مجنونة تخرجه عن إطاره الكلاسيكي العصري. ونظرة إلى أي عرض أزياء، بما فيه عروض دار «شانيل»، عرابة هذا الفستان، تشير إلى أنه نضج وتطور وأصبح أكثر ثقة حتى في زخارفه وتفاصيله، إلى حد ما. ثقة، لا شك، يستمدها من لونه الأسود، الذي يقول البعض إنه بمثابة النعمة والنقمة في الوقت ذاته.

نعمة بالنسبة للمرأة، التي وجدته سهلا ومثل الكنفس بالنسبة للرسام، يمكنها أن تضيف إليه أي شيء لمزيد من الإبهار والتجديد، عدا أنه يساعدها على إخفاء بعض العيوب ويوحي بالرشاقة. ونقمة بالنسبة للمصممين لما يمثله لهم من تحد في كل موسم حتى يأتي بشكل جديد يراعي العصر من جهة، وتاريخه من جهة ثانية. بيد أنه حتى في الحالات التي يستغله فيها بعضهم للشطح بخيالهم والمبالغة في استعمال تطريزات وزخرفات، فهو يثير الإعجاب ومقبول في غالب الأحيان ما دام مصممه لا يتوقع منه أن يدخل خانة الكلاسيكي الذي لا يعترف بموسم معين. بل حتى المرأة التي تعودت على فستانها ناعما وبسيطا لا تمانع، في الكثير من الأحيان، أن تستمتع بالمزخرف، لبضع مواسم من باب التغيير، ومن باب أنه أسود، علما بأن المزخرف هنا لا يعني المبتكر المجنون، بل فقط المزين بالريش أو بأحجار شواروفسكي والخرز وغيرها، أو الذي تدخل فيه أقمشة غير مألوفة. المصمم مارك فاست، مثلا، متخصص في الصوف، ولم ير أن هذا التخصص يشكل عائقا يمنعه من الإدلاء بدلوه فيما يخص هذا الفستان. في تشكيلته الأخيرة، مزج صوف المورينو بصوف الموهير لخلق بعض الدراما. ولأنه توقع أن ينتقده البعض من منطلق أن الصوف يتنافى مع مناسبات المساء والسهرة بسبب رفعه درجات الحرارة في الجسم، فإنه عمد إلى إضافة فتحات جانبية، كان الغرض منها أيضا تسهيل حركة المرأة ومشيتها. ستيلا ماكارتني أيضا أدلت بدلوها، مثل الكثير من المصممين، وطرحت فستانا أثار الكثير من الإعجاب وظهرت به الكثير من الشخصيات في مناسبات كثيرة. الفستان زاوج بين السميك والشفاف حول العنق وجوانب الصدر والأكمام وظهر منقطا في بعض الأجزاء.

لا داعي للقول إنه كان من القطع الأكثر مبيعا هذا العام، وتم تقليده من قبل الكثير من محلات الموضة بأسعار أرخص حتى لا تشعر المرأة غير المقتدرة بأنها خارج لعبة الموضة. لكن يبقى الفرق بين هذا التصميم وتصميم جيفنشي الذي ظهرت به أودري هيبورن أنه يوحي بالمرح والشقاوة ويواكب موضة العصر، فيما يقطر فستان جيفنشي بالأناقة الرفيعة والكلاسيكية التي لا تعترف بموسم أو عصر. وفي آخر المطاف، فإن المرأة عموما، لا تمانع في معانقة المبتكر والحديث، لكنها أيضا تريد زيا يحملها من النهار إلى المساء من دون عناء، وهذا ما يوفره لها الفستان الأسود الناعم الخالي من التفاصيل الكثيرة، خصوصا أنه يمنحها فرصة وضع لمساتها الخاصة عليها، تارة بتنسيقه مع قطع أخرى مثل جاكيت قصير من الجلد لمظهر حيوي وشاب، وتارة بإضفاء البريق عليه من خلال قلادة من الماس أو سلاسل بصفوف متعددة من الذهب أو اللؤلؤ.

مراحل من تاريخ هذه القطعة الأيقونية

* رغم أن الفستان الأسود الناعم اكتسب شهرته الأيقونية مع أودري هيبورن، لكن كوكو شانيل كانت هي أول من ابتكره. كان ذلك في العشرينات من القرن الماضي، وكان هدفها منه التمرد على التقاليد وقلب كيان الطبقات المخملية، إذ يقال إنها استوحت تصميمه ولونه من زي الخادمات لتبيعه للسيدات. ورغم أن المرأة التواقة للتحرر، خصوصا في أميركا عانقته، إلا أن حرارة هذا العناق لم ترتفع إلا بعد ظهور النجمة أودري هيبورن به في فيلم «إفطار في تيفاني».

* مصمم فستان الفيلم، الذي بيع في عام 2006 في مزاد علني بسعر 467.200 جنيه إسترليني، هو هيبار جيفنشي. وتقول بعض الإشاعات، إن فيكتوريا بيكام هي التي اشترته. ربما لأنه بمقاس 6 وخصر 26 إنشا، وهي المقاييس التي كان البذرة التي روجت للصدر الضامر وغيرت مفهوم الجمال القائل بأن الصدر النافر هو رمز الجمال والأنوثة. بعبارة أخرى فإن هيبورن هي التي عبدت الطريق لما أصبح يعرف الآن بالشكل الصبياني في عروض الأزياء.

* الطريف أن هيبورن لم تكن الخيار الأول لفيلم «إفطار في تيفاني» الذي دخل ضمن الأفلام الكلاسيكية الرومانسية وحقق نجاحا كبيرا، فعندما كتب ترومان كابوت القصة في عام 1958 وضع نصب عينيه مارلين مونرو، لكن هذه الأخيرة رفضت الدور لأنها لم ترغب في تجسيد دور فتاة ليل.

* الفستان الأسود الثوري الذي طرحته كوكو شانيل أول مرة، نشرته مجلة «فوغ» النسخة الفرنسية في عددها لشهر نوفمبر (تشرين الثاني) 1926 على شكل رسم كتبت تحته عنوان «زي المرأة العصرية الأنيقة»، كان خاليا من التطريزات، ومن دون أزرار لافتة أو ما شابه من تفاصيل، بل كان بسيطا من قماش الكريب بياقة عالية وأكمام ضيقة ويصل إلى الركبة.

* الفستان الأسود الناعم، دخل قاموس اللغة الإنجليزية رسميا. الـ«إيل بي دي» LBD وهي الأحرف الأولى للفستان الأسود الناعم باللغة الإنجليزية يمكن الآن إيجاد تفسير لها في قاموس أكسفورد للغة الإنجليزية من بين 2000 كلمة جديدة أدخلت على نسخته الثالثة. من بين الكلمات الأخرى هناك «تويتآب» ومعناها اللقاءات المنظمة عبر «تويتر»، و«تشيز بول» للدلالة على شخص يفتقد الأناقة والذوق، و«برومانس» وهي العلاقة الأفلاطونية التي تربط بين صديقين.

* أجريت في عام 2004 دراسة حول هذا الفستان أفادت بأن المرأة البريطانية وحدها تنفق ما لا يقل عن عشرة مليارات جنيه سنويا على اللون الأسود، سواء كان أزياء أو إكسسوارات.