تشكيلة «الريزورت» 2013.. رحلة فنية إلى الماضي لإغناء الحاضر

دار «سلفاتوري فيراغامو» تدخل متحف اللوفر بدفعة من ليوناردو دافنشي

TT

العلاقة بين الموضة والفن موضوع غير جديد، فمنذ العشرينات من القرن الماضي ومصممون من أمثال بول بواريه يستوحي تصاميمه من لوحات فنية من الفن الشرقي، كذلك إلسا شياباريلي وكريستيان ديور ممن تعاونوا مع رسامين معروفين من دون أن ننسى إيف سان لوران وهلم جرا.

لكن دار «سلفاتوري فيراغامو» أخذت هذه العلاقة إلى مرحلة جديدة يوم الثلاثاء الماضي عندما فتحت أبواب متحف اللوفر الفرنسي ودخلته لتقدم تشكيلتها الخاصة بـ«الريزورت» 2013، في ما يعتبر التجربة الأولى من نوعها. فرغم أن المتحف يسمح لبيوت الأزياء باستعمال ساحاته الخارجية كمسرح لعروضهم، مثل ساحة «كور كاريه»، و«كاروسيل دو لوفر» و«إيسابس غاردان دو لوفر» فإن أبوابه الداخلية ظلت موصدة في وجوههم. ثم جاءت الدار الإيطالية لتعلن أنها تمكنت من ذلك بمساعدة خاصة من ابن بلدها ومدينتها فلورنسا، الفنان ليوناردو دافنشي. فالدار ترعى معرضا في المتحف الفرنسي للوحته الشهيرة «العذراء والطفل مع القديسة آن» من خلال نحو 130 من الرسوم التحضيرية والدراسات التي قام بها وتلاميذه في عصر النهضة. ويعود تاريخها إلى 1510، ومات الفنان في عام 1519 من دون أن يكملها. وسيمتد المعرض الذي افتتح في شهر مارس (آذار) الماضي إلى 25 من الشهر الحالي، وبلغ عدد زواره حتى الآن 200.000 زائر. ومما لا شك فيه أن الأمر كلف الدار الإيطالية العريقة من الناحية المادية، لكنه أضاف إليها الكثير من الناحية الإعلامية، كما عزز مكانتها كدار أزياء ترتبط بالفن. وهي علاقة تعود إلى الثلاثينات من القرن الماضي منذ عهد المؤسس سلفاتوري فيراغامو، ولا تزال الأجيال التي تعاقبت عليها تحرص عليها. ولا شك أنها بدخولها اللوفر تريد أن تكتب فصلا آخر من تاريخها تستعرض فيه حرفيتها وإرثها بأسلوب يصل إلى العالم بسلاسة ولغة عصرية سريعة، وهذا ما نجحت فيه إلى حد كبير. مصممها الفني ماسيمليانو جيورنيتي ردد عدة مرات خلال مؤتمر صحافي عقده قبل العرض «إنها فرصة للتعبير عن العلاقة بين فيراغامو الإيطالية والحرفية العالية التي بنيت عليها الدار ولا تزال منطقة توسكاني تتمتع بها». هذه الحرفية تعتبر فنا قائما بحد ذاته، حسب قوله، وإلا كيف يمكن تفسير أن تتحول أقمشة بسيطة مثل الرافيا أو القطن إلى قطع لا تعترف بزمن؟

مهمة ماسيمليانو جيورنيتي لم تكن سهلة، لأن إقامة عرض في داخل معقل فني مثل اللوفر من شأنها أن ترفع ضغط أي مصمم، خصوصا أن كل الأنظار ستكون موجهة إليه، لكنه تعامل مع ذلك بهدوء قائلا إن «إقامة عرض بداخل اللوفر لها معنى أكبر من مجرد عرض أزياء.. إنها طريقة تعبير، واستمرارية لتاريخ طويل من الجمال والأحاسيس، ومن حب الفن.. إنها رسالة إيجابية وطريقة للاحتفال بالروح الإيطالية وبثقافتنا». هدوؤه الظاهر، في المقابل، لم يصب الحضور بالعدوى، بالنظر إلى دقات القلب المتسارعة وحجم الترقب والتلهف الذي ارتسم على وجوه الحضور قبل العرض. ففي جهة كانت هناك لوحة «القديسة آن» بكل روعتها ومراحلها المختلفة تستعرض فنية ليوناردو دافنشي وعبقريته في مزج الألوان والخلفيات وانعكاسات الضوء والطبيعة، وفي الجهة الأخرى تراصت الكراسي تحت أعمدة بهو «دينون» على طول ممر يبلغ طوله 140 مترا (400 قدم) مما استدعى من كل عارضة المشي ما يقارب الثلاث دقائق تقريبا، وهو رقم قياسي. ميشيل نورسا، الرئيس التنفيذي للدار، قال مازحا «نريد بهذا أن نؤكد أن أحذيتنا للمشي الطويل»، ولحسن الحظ أن العرض كان لسلفاتوري فيراغامو المعروف بأحذيته المريحة، وإلا فإن الأمر كان بمثابة عقوبة تستحق عليها العارضات أضعاف أجورهن.

قبل العرض أتيحت للحضور، بمن فيهم النجمات هيلاري سوانك، فان بينغ بينغ، فريدا بينتو وغيرهن، فرصة التجول في المتحف لمشاهدة تطور لوحة القديسة آن، قبل الانتقال إلى جناح دينون المخصص للعرض بأعمدته الضخمة ومعماره المتميز المفتوح على الهرم الزجاجي في الخارج. عند دخوله سرت قشعريرة في الأبدان. في البداية ألقيت التهمة على درجات الحرارة المنخفضة والأمطار المتساقطة في عز شهر يونيو، لكن عندما لم تخف هذه القشعريرة حتى بعد أن غطى بعض الحضور أنفسهم بملاءات صوفية تم توزيعها عليهم تحسبا من الدار لانخفاض درجات الحرارة، تبين أن سببها الحقيقي يعود إلى المناسبة نفسها وهيبة مكانها الذي تتنفس كل جوانبه بعبق تاريخ يعود إلى أكثر من 900 عام. بدأ العرض وقدم المصمم الفني ماسيمليانو جيورنيتي لوحات عصرية مطبوعة بهندسية ناعمة تلاعبت فيها الجلود مع الصوف ليخلق حركة مثيرة. الألوان الغالبة على التشكيلة تعكس أجواء اللوفر وألوانه الهادئة حيث تباينت بين البيج والرمادي والوردي المطفي «لأني أردت أن تتناغم الدرجات مع أجواء المتحف ومع باريس». ما لم ينكره المصمم ولا الرئيس التنفيذي للدار السيد نورسا أن «دار (فيراغامو) أتت من فلورنسا إلى باريس وهي تكن كل الاحترام لباريس» وهذا ما كان واضحا في بعض الخطوط التي اقترحها المصمم سواء في بنطلونات من الجلد أو أحذية عالية الرقبة من دون كعوب أو فساتين سهرة منسابة.

ولا شك أن هذا العرض، وبداخل المتحف الفرنسي، يسجل إشارة مهمة في مستقبل الموضة، بمعناها المترف والمرفه، إلى جانب العلاقة بين الفن والموضة والجدل الأزلي بينهما. ما يؤجج قوة هذه الإشارة والعلاقة كون دار «سلفاتوري فيراغامو» بمثابة البوصلة التي تعكس توجه الموضة عموما. فقراءة سريعة إلى تجاربها السابقة تؤكد أنها من بيوت الأزياء التي تتمتع بنظرة مستقبلية لا تخيب. فهي، مثلا، أول إيطالية تنتبه إلى أهمية السوق الصينية، وتفتتح فيها العديد من المحلات، الأمر الذي يحسب لها وتحصد ثماره الآن. فهي من بين قلائل ممن سجلوا أرباحا لا يستهان بها العام الماضي رغم الأزمة المالية العالمية، ولا تزال تتوسع في كل أنحاء العالم بافتتاح محلات جديدة فيها. رعايتها لمعرض ليوناردو دافنشي تشير أيضا إلى ذكائها التسويقي، لأنها بتركيزها على عبقرية دافنشي تسلط الضوء على حرفيتها وتلمع صورتها العالمية. فهي الآن تسجل لمرحلة قادمة وجديدة في تاريخها، بقيادة جيل جديد من العائلة ومصمم شاب هو ماسيمليانو جيورنيتي، بدأ نجمه يسطع أكثر بفضل هذه السياسة الجديدة، التي تدفعه إلى الواجهة. وهذا أمر لم يكن معمولا به في السابق في إيطاليا. فمعظم بيوت أزيائها مملوكة لأشخاص أو عائلات تتوارثها حفاظا على تقاليدها وإرثها من الغرباء، لكن «سلفاتوري فيراغامو» خرجت عن هذا التقليد بمنحها مقاليد الدار لمصمم شاب لا ينتمي إلى العائلة لكن تتوسم فيه الموهبة والولاء لتاريخها، والأهم من هذا تعمل جهدها لتلميع صورته والدفع به إلى الواجهة ليمثلها.

وفي الحقيقة، فهذا الشاب الإيطالي يمتلك كل عناصر النجومية التي تخول له القيام بهذا الدور على أحسن وجه، بوسامته وأناقته الإيطالية التي لا يعلى عليها، عدا عن تشبعه بروح الدار. فرغم أنه عين كمصمم فني للجانب النسائي منذ عامين فقط، فإنه عمل في الدار لأكثر من 12 عاما، كمصمم أزياء رجالية مما يجعله واحدا من أبنائها. لكن الملاحظ في عرضه الثاني من خط «الريزورت» الذي قدمه يوم الثلاثاء الماضي، أنه هو الآخر ابن بيئته ويتميز بأسلوبه الخاص.

فبحكم أصوله المنحدرة من مدينة كارارا المعروفة برخامها، فإن ما قدمه يعطي الإحساس بروعة هذا الحجر وعمقه، على الأقل من ناحية الألوان الهادئة التي اختارها. لكن عند سؤاله، رده كان مختلفا، حيث رد أنه كان عليه تطويع التشكيلة لتناسب أجواء اللوفر «ألوان التشكيلة مستقاة من المكان بهدوئها، إذ كان من المهم أن تتناغم مع ألوان الحجر الهادئة في اللوفر، ومن هنا غلبت عليها درجات البيج والوردي والرمادي الخفيفة»، فيما منح الجلد التصاميم قوة هندسية واضحة وفي الوقت ذاته جعلها تنساب على الجسم أو تعانقه براحة حتى تناسب كل قطعة أي مكان أو زمان. وهذا أمر آخر يحسب للمصمم الذي لم يجعل فكرة العرض في المتحف الفرنسي العريق تقيده أو تؤثر عليه، بل العكس اكتفى منها بالألوان وبلمسة باريسية خفيفة، وإن كانت هذه اللمسة مطبوعة بالـ«هوت كوتير» تجلت في طريقة التنفيذ والحياكة والتفاصيل.

كانت هناك أيضا لمسة خفيفة من إيحاءات أميركية تجلت في الأهداب المتدلية من بعض القطع وألوان الصحراء العسلية، لكنه في كل الحالات ظل مخلصا للعملية والراحة، أهم عنصرين يدخلان في جينات الدار التي يوجد مقرها الرئيسي بمدينة ليوناردو دافنشي، فلورنسا، خصوصا إذا أخذنا بعين الاعتبار أن المؤسس السنيور سلفاتوري فيراغامو درس علم تشريح الأقدام في أميركا لفهم تضاريسها وتشكيلاتها وحتى يتميز عن غيره.

* تشتهر «سلفاتوري فيراغامو» بأحذيتها وجلودها، كما بعلاقتها بنجمات هوليوود من مارلين مونرو وصوفيا لورين إلى أودري هيبورن وغيرهن، ولم تدخل مجال الأزياء إلا في السبعينات من القرن الماضي، لهذا ظلت الأزياء تعيش في الظل وعلى بريق الأحذية وباقي الإكسسوارات. لكن على ما يبدو فإن الدار تريد أن تخرج أزياءها من ظل الإكسسوارات التي تمثل نسبة 74 في المائة من أرباحها السنوية مقارنة بـ18 في المائة من مبيعات أزيائها وإكسسواراتها الحريرية. طموحاتها كبيرة والدليل أنها تحاول في السنوات الأخيرة الخروج من ظل الإكسسوارات، بكل قوتها، حتى وإن تطلب الأمر أن يكون هذا الخروج بدخول المتحف الفرنسي العريق.