الكل يريد أن يكون مصمما ويتملص من صفة «خياط»

«الهوت كوتير» في لبنان بين الاستنساخ والإبداع

TT

في الماضي كانت المرأة العربية عموما تستعين بخياط يفصل لها فستانا خاصا على مقاسها، تضع فيه بصمتها وتختار هي قماشه. مع الوقت تغير هذا المفهوم وأصبح التفصيل على المقاس مرادفا للهوت كوتير. أسباب كثيرة ساهمت في هذا التغيير، منها التسويق وتغير الثقافة الاجتماعية والاقتصادية، ليبقى السؤال: ما هو مصير الخياطين والخياطات الماهرات الذين لا يزلون موجودين بيننا لكنهم لا يرقون إلى درجة المصممين العالميين الذين يعرضون في باريس أو روما، من حيث الأهمية والشهرة والسعر.

ألفرد محشي ومدام صالحة وجورج وإيلي شويتر ووليم خوري ومدام جيني (الروسية) التي عاشت في بيروت وافتتحت مشغلا خاصا بها، كلها أسماء عريقة لخياطين كبار عرفتهم مدينة بيروت في عزها، قبل أن يسحب البساط من تحت أقدام مهنة الخياطة لصالح مهنة تصميم الأزياء التي ساهمت بالترويج لأسماء وصلوا إلى العالمية.

ولأن الموهبة لصيقة بصاحبها ولا تنتقل بالوراثة، فلقد رحلت مدام صالحة، الاسم الأبرز بين الخياطين اللبنانيين، ورحلت موهبتها معها. أما ألفرد محشي فاختارت زوجته وابنه بعد وفاته مهنة بيع الأقمشة الراقية، بينما اختار وليم خوري والشقيقان جورج وإيلي شويتر الجمع بين مهنتي الخياطة وتصميم الأزياء، وهما لا يزالان حتى اليوم من الأسماء الرائدة في المجال.

المصمم حنا توما الذي بدأ مشواره كخياط للأزياء الجاهزة، أوضح أنه كان يسافر كغيره من الخياطين اللبنانيين إلى أوروبا لمشاهدة العروض التي كانت تنظم في الخارج ثم يعودون إلى بيروت لنقل ما شاهدوه في تلك العروض وتطبيق التصاميم على الملابس التي كانوا ينفذونها للزبائن البيروتيين. ومع الوقت عمل كل واحد منهم على تطوير نفسه، وإلى جانب استنساخهم التصاميم بحذافيرها بدأوا يعملون على إدخال تغييرات وتنفيذها بمواصفات عالية الجودة.

ويؤكد توما روح التعاون بين المرأة وخياطها في تلك المرحلة قائلا: «المرأة تحتاج إلى من يساعدها بطريقة تصب في مصلحتها إذا كانت تحرص على أناقتها، ولذلك كان الخياط يشاركها في اختيار نوع القماش، الألوان والقصة التي تناسب جسمها، بخاصة إذا كان خياطا ماهرا لديه عين صائبة قادرة على اكتشاف العيوب والعمل على إخفائها».

ويشدد توما على أهمية استعادة المرأة لدورها وفرض ذوقها على المصمم: «أتمنى أن تعود المرأة للعب هذا الدور، وأنا شخصيا أتمسك بهذه الناحية، وأستمع لرأيها باهتمام، لأنها هي من سيرتدي الفستان، ولذلك أردد دائما أن حصة المرأة من الفستان هي 50 في المائة، والحصة الباقية لي؛ لأن دوري أن أبرز عملي وأسلوبي ومهارتي».

توما يرى أن تصميم الأزياء مهنة يقبل عليها الناس تماما كما يقبلون على مهن أخرى، «لكن المشكلة أن الكل يريدون أن يكونوا مصممين ويرفضون أن يكونوا خياطين، مما يدفعني للتساؤل: ألا يحتاج هؤلاء إلى خياطين ينفذون تصاميمهم؟ لا أعرف، ربما هؤلاء يبحثون عن شهرة لا توفرها لهم مهنة الخياطة، وربما أيضا لأن مهنة تصميم الأزياء تدر عليهم أمولا أكثر وتجعلهم من أصحاب المليارات. شخصيا لست متمسكا بلقب مصمم وهو لا يهمني على الإطلاق، بل أعتبر نفسي خياطا كأي خياط عادي. فأنا أعمل في المهنة لأنني أحبها وليس بحثا عن جمع الأموال. بالنسبة لي من الضروري جدا أن يكون المصمم خياطا، وعلى الرغم من ذلك فإنه يوجد مصممين ليسوا بخياطين ونجحوا بفضل ذوقهم الرفيع ومهارتهم، كما يعود هذا الفضل إلى الخياطين الذين يتعاملون معهم».

وتحدث توما عن دور الإعلام في تغييب دور الخياطين لمصلحة المصممين، مشيرا إلى أنه «في السابق لم أكن أومن بأهمية هذا الدور، ولكن مع الوقت وجدت أن كل الذين لجأوا إليه كانوا محقين، لأن الإعلام هو الذي سوق للمصمم على حساب الخياط».

من جهتها تؤكد المصممة بابو لحود أن لبنان عرف خياطين ماهرين وليس مجرد مصممين عاديين كانوا يحضرون «الباترون» من باريس وينفذونها في لبنان بطريقة رائعة جدا، وفي طليعتهم مدام صالحة وألفرد محشي وسواهما. وتضيف: «في هذا الوقت أيضا برز ما يعرف بتصميم الأزياء المسرحية، وكنت أول مصممة أزياء تعمل في هذا المجال الذي دخلته عن طريق الصدفة. بدأت مع شقيقي روميو لحود، وكنت لا أزال في صف (البريفيه)، ومن ثم تعمقت في المهنة، وصار الناس يطلبون مني أن أصمم لهم أزياء خاصة بهم. في تلك الفترة كنا نعاني من عقدة الغرب، وكانت عبارة ماركة Made In Lebanon مرفوضة عند الزبون اللبناني آنذاك، ولكن مع الوقت أعجب الناس بتصاميمي وصار الكل يتحدث عني، مما دفع بالكثير من الصبايا والشباب إلى تعلم أصول مهنة تصميم الأزياء، وتحديدا في فترة الحرب اللبنانية، وبرز بعضهم وأصبحوا من الأسماء الكبيرة في المجال».

لحود برعت في المهنة لأنها تملك الموهبة، ولكنها لم تدرسها على الإطلاق: «أنا تخصصت في هندسة الديكور في باريس، وكانت فكرة دراسة تصميم الأزياء بعيدة تماما عن تفكيري على الرغم من أنني كنت أحبها كثيرا، لأنني وجدت أنني لا أستطيع أن أخوض معركتي كمصممة في بلد صغير كلبنان وأن أتخذها مهنة لي. ومن تصميم الأزياء المسرحية انتقلت صدفة إلى (الهوت كوتير) بناء على طلب الفتيات اللواتي كن يطلبن مني أن أصمم لهن فساتين العرس، لأنهن لم يكن يرغبن بفساتين فرح تقليدية. يمكن القول إني لم أختر مهنتي بل هي التي اختارتني، والاختصاص الذي درسته ليكون مهنتي تحول إلى مجرد هواية في حياتي».

وترى لحود أن عمل المصمم يتلازم مع عمل الخياط «فهما فنانان متكاملان»، موضحة: «أنا تعلمت الخياطة بالممارسة، ولكن على كل من يفكر بالتخصص بمهنة تصميم الأزياء أن يتعلمها بمجاليها كخياطة وكتصميم. المصمم هو من يخترع الموديل ويرسمه ومن ثم يطلعه على الخياط، أما الخياط فهو فنان تقني، والمشكلة في لبنان أنهم يخلطون بينهما، ولا أعرف لماذا البعض يعتبر أن كلمة خياط تقلل من قيمتهم، ولذلك يصرون على كلمة مصمم، على الرغم من أن المصمم لا يقل شأنا عن الخياط على الإطلاق».

لحود التي عادت بالزمن إلى الوراء فرقت بين نوعين من الخياطين: «عند الخياط الصغير كانت تحضر السيدة ومعها قطعة القماش والمجلة التي نشر فيها الفستان الذي تريد مثله، أما الخياط الكبير فكان يوجد في مشغله موديلات (ديور)، (بالمان) وسواهما، فتختار من بينها ما يعجبها. في هذه الحالة كان هو المسؤول عن تأمين القماش؛ لأن الفستان الذي سوف يخيطه يجب أن يكون مطابقا بمواصفاته للفستان الذي اختارته».

وتعيد لحود أسباب التغييرات التي طرأت على مفهوم الخياطة كمهنة بقولها: «هذا المفهوم تغير كما تغيرت أشياء أخرى كثيرة. مثلا إيلي صعب هو من أوائل المصممين الذين برزوا في الخارج، وهو يجمع في الوقت نفسه بين الخياطة والتصميم، ولكنه لم يتعلم المهنة، وهذه تعتبر موهبة بحد ذاتها وتحسب له، بخاصة أنه نجح كثيرا في المجال، ومع الوقت اتجه الكل نحو تصميم الأزياء، كما يحصل في أي مهنة أخرى يلمع فيها اسم شخص معين، وكما حصل معي أنا شخصيا».

وبشيء من العتب تقول لحود: «في الماضي كان الأهالي يوجهون أولادهم نحو تصميم الأزياء عندما يفشلون في الدراسة، مع أنه فن ويحتاج إلى موهبة، وتطلب الأمر كثيرا لكي يفهم الناس أن العمل في المجال يتطلب الموهبة، وأن الخياطة فن وبالتالي يجب أن لا يشعر بالخجل من يعمل في هذا المجال، بل عليه أن يقول بفخر (أنا خياط ماهر). لا أعرف أسباب الخجل من كلمة خياط مع أن ترجمة عبارة (هوت كوتير) تعني (خياطة راقية). من الصعب جدا على أي مصمم أن يصل إلى مرحلة (الهوت كوتير)، حتى في فرنسا نفسها فإن عدد المصممين الذين برعوا فيها قليل جدا، لأنها تحتاج إلى الكثير من الأبحاث والدراسات والتفنن وتصميم فستان واحد يتطلب أياما طويلة من العمل».

وتختم لحود: «الخياطون موجودون ولكنهم لا يحبون أن يقال عنهم خياطون، بل يفضلون لقب مصممين». المصممة سامية صعب المتخصصة بتصميم أزياء المسرح والتي تعاملت مع الكثيرين من بينهم الأخوان رحباني في بعلبك كما صممت أزياء مسرحية «ومشيت بطريقي» للموسيقار ملحم بركات، تحدثت عن انطلاقة خياطة «الهوت كوتير» عالميا قائلة إنها «بدأت في بداية القرن الماضي، ومن ثم وصلت إلى لبنان. ويعتبر Erte في مقدمة المصممين الذين بدأوا مشوارهم بتصميم «الهوت كوتير» الخاص بأزياء المسرح. ومن ثم برز «بواريه» في فرنسا في عام 1920، ومن بعده برز اسم «ديور» و«شانيل». ومن هذه الأسماء استوحى الخياطون في لبنان تصاميمهم، مضيفة أن الخياطين الكبار يطبعون القطعة بأسلوب خاص يتبعه الناس، وإلى جانب هؤلاء يوجد ما يعرف بـ«خياطات البيوت»، ولكن البعض منهن يعتبرن أنفسهن مصممات.

وعن أسباب تراجع أسهم الخياطين تقول صعب: «لأن الأزياء الجاهزة هي التي طغت، فاتجه جميع الناس نحوها، وهذه الظاهرة بدأت مع انتشار موضة (الجينز) والإقبال الكبير عليها، كما أن العامل التجاري طغى على مهنة تصميم الأزياء؛ لأن الموضة تتجدد بشكل دائم، من دون أن ننسى أن صناعة النسيج تراجعت، ومن يعملون في المهنة لا يستخدمون الأنواع الجيدة من القماش، وهذه الناحية لا يلتفت إليها إلا الأشخاص الذين لديهم الخبرة. إلى ذلك فإن من يعمل في الخياطة لا يكتسب شهرة واسعة ولا فلوس المصمم، ولذلك يفضل الجميع أن يكونوا مصممين».