بيوت الأزياء تعود إلى ماضيها.. لكتابة فصل مهم من مستقبلها

أسبوع الـ«هوت كوتير» الباريسي لشتاء 2012.. يعيش عصرا جديدا

سيتفان رولان
TT

أسبوع الـ«هوت كوتير» بباريس هو الأسبوع الذي تستعرض فيه بيوت الأزياء الكبيرة والمصممون الشباب قدراتهم الفنية التي يحاولون موازاتها بقدرات زبوناتهم المادية؛ فكل قطعة هنا لا يقل سعرها عن 20 ألف دولار، والكلام هنا عن قميص بسيط أو بنطلون، لأن فساتين السهرة والمساء يمكن أن تتعدى مئات آلاف الدولارات. هذه الأسعار لها ما يبررها، فالأقمشة مترفة والتطريزات قد تستغرق أكثر من ستة أشهر تقريبا، كما هو الحال بالنسبة لفستان الزفاف الذي قدمه إيلي صعب لعروس شتاء 2012؛ فكل صغيرة وكبيرة هنا تنفذ باليد، إذ من الضروري أن يكون ظاهر الفستان وجمالياته بأهمية باطنه وتبطينه، وأن تكون كل غرزة محسوبة ولها شكل مميز. الأنامل العاملة في هذا المجال أيضا ليست هي الأنامل نفسها التي تنتج الأزياء الجاهزة. ففي دار «شانيل» مثلا هناك 200 عامل في هذا المجال وحده، إلى جانب ورشاتها المتخصصة في عدة مجالات مثل «لوساج» و«لوماريه» و«ماسارو» وغيرهم ممن يتحفوننا دائما بتطريزات فريدة وأحذية مبتكرة وريش وغيره من التفاصيل. مثلا في عرض «شانيل» لشتاء 2012، ما بدا للوهلة الأولى كأنه قماش التويد، وهو خطأ مفهوم بحكم أن الدار ترتبط بهذا القماش، كان عبارة عن آلاف الخيوط والأحجار التي نفذت على قماش التول لتعطي هذا التأثير. بعبارة أخرى فإن هذه التقنيات تحتاج إلى وقت طويل ونفس أطول ولا تتوفر في أي مجال آخر، وهي التي تعطي الموسم مفهومه وقوته.

يخرج المتابع لهذا الموسم من الـ24 عرضا، وهو مجموع ما تم عرضه على مدى أربعة أيام، وإحساس بأن عالم الـ«هوت كوتير» يشهد عصرا جديدا. فلعدة سنوات، ظلت الأقلام وبعض المتشائمين ينعونها ويتوقعون موتها في أي لحظة، خصوصا بعد أن أفلست بعض بيوت الأزياء وأغلقت أبوابها، مثل كريستيان لاكروا، إلا أن هذه الأقلام نفسها والمتشائمين، بدأوا يصرحون بأنها تعافت، ويهللون لتجدد شبابها وحيويتها المكتسبة بفضل الأسواق النامية المتعطشة لكل ما هو فريد وخاص جدا. هذه الأسواق أيضا شجعت بيوت الأزياء على زيادة عيار الفخامة والبذخ. فإلى جانب الفنية العالية، التي لمست حتى التصاميم الهندسية ذات الخطوط البسيطة، يمكن القول إن كثيرا من بيوت الأزياء زادت العيار فيما يتعلق بالبذخ وكأن الأزمة المالية لا أساس لها من الحقيقة. ففي الوقت الذي تتصدر أخبار فضيحة التلاعب بالقروض الصفحات الأولى في الصحف، خصوصا بعد استقالة بوب دياموند المدير التنفيذي لبنك «باركليز» البريطاني وما تشهده الأسواق العالمية من تذبذبات مخيفة، وفي الوقت الذي يشد فيه معظم الناس العاديين الأحزمة بسبب عدم وضوح الرؤية المستقبلية للاقتصاد العالمي، فإن المستقبل بالنسبة للأزياء الراقية لا يبدو مضمونا ومستقرا فحسب بل ورديا، بالنظر إلى ما تم عرضه في الأسبوع الماضي.

والحقيقة أن عالم الـ«هوت كوتير» لا علاقة له بواقع أغلبية الناس، فهو عالم تحتكره زبونات يقال: إن عددهن لا يتعدى الـ200 امرأة، وإن زاد في الآونة الأخيرة بفضل تنامي الاهتمام بهذا الجانب في الصين وروسيا، كذلك تنامي اهتمام الشابات به في الشرق الأوسط، مما يبشر بانتعاشه واستقطابه المزيد من الزبونات. وهذا يعني، بعملية حسابية بسيطة أن العدد تضاعف، إلا أنه رقم يمثل نقطة في بحر بالمقارنة بعدد نساء العالم.

من جانب آخر، فإن انتعاش جانب المنتجات المرفهة عموما والأزياء خصوصا، ساعد على دخول مصممين شباب وبيوت أزياء هذا المجال، بعضهم لقضم قطعة من الكعكة الشهية، وبعضهم تم تجنيده من قبل بيوت الأزياء الكبيرة لتجديد هذا الجانب وضخه بدم جديد بهدف استقطاب زبونات جديدات يفهمن لغة العصر، وبالتالي فإن الـ«فينتاج» أيضا يجب ترجمته لهن بلغة عصرية سلسة يفهمنها، وهي عملية قام بها المخضرم كارل لاغرفيلد على أحسن وجه بتسمية تشكيلة «الفينتاج الجديد»، بحيث عاد إلى أرشيف الآنسة كوكو شانيل وحمله إلى المستقبل لكي يناسبهن ويناسب بناتهن. ميزون مارتن مارجيلا، أيضا دخلت هذا المجال لأول مرة من خلال عرض أقل ما يمكن أن يقال عنه إنه كان تجريبيا، استعملت فيه أقمشة مثل القطن الخام، وهو خامة ليست أول ما يتبادر إلى الذهن عندما تذكر الأزياء الراقية، لكن فريق الدار أعطاه لمسة حداثية جذابة. كما أن خط «فرساتشي أتولييه» الذي غاب لـ8 سنوات، وعاد في الموسم الماضي من خلال عرض صغير، ازداد قوة وثقة هذا الموسم؛ فقد أقيم في فندق «الريتز» الذي سيغلق أبوابه لمدة عامين في نهاية هذا الشهر، حيث سيخضع لترميمات وعمليات تجديد كبيرة. وكانت القاعة التي أقيم فيها العرض بلوحاتها المرسومة على السقف والجدران خلفية رائعة لتشكيلة استعرضت فيها الدار خبرتها في تقطيع الجلد وجعله يبدو كأنه دانتيل يعانق الجسم ليظهر أنوثته، وفي البريق الذي يستحضر الأرت ديكو، ويكشف عن جانب من شخصية دوناتيلا؛ فقد قالت: إنها استوحت النقوشات التي طبعت كثيرا من قطع أوراق التاروت. وقراءة بسيطة للألوان والروح التي طبعت التشكيلة، تقول بأن مستقبل الدار الإيطالية التي تعرضت لعدة تذبذبات بعد مصرع مؤسسها، جياني فرساتشي، مشرق وبراق.

لكن الحدث الأكبر في الأسبوع الماضي كان بلا شك أول عرض قدمه البلجيكي راف سيمونز لدار «ديور»؛ فالكل ترقبه بلهفة وترقب منتظرا كيف سيترجم هذا الشاب البالغ من العمر 44 عاما إرث الدار ويحمله إلى المستقبل. جواب المصمم كان أن المستقبل هو الماضي، حيث عاد إلى العشر سنوات الأولى للدار، في أيام المؤسس كريستيان ديور، وترجمه في 54 قطعة اعتمد فيها على حرفية الأنامل الناعمة التي تعمل في الدار. وجاءت النتيجة خلطة مثيرة تجمع بين أسلوبه الحداثي البسيط وأسلوب الخمسينات الذي أرساه السيد كريستيان ديور، وعندما ابتكر أصبح يعرف بـ«ذي نيولوك». كانت هناك كثير من الخطوط الهندسية والألوان الباستيلية اللذيذة في تصاميم تجمع بين الأنوثة والرومانسية وهما من سمات الدار، وبين الألوان المتوهجة بألوان النيون والديناميكية وهي من سمات أسلوب راف. جدير بالذكر أن هذا الأخير هو خامس مصمم يتسلم المشعل من السيد كريستيان ديور الذي توفي فجأة في عام 1957. ولم يكن هو الخيار الأول، فقد ترشحت عدة أسماء للوظيفة الشاغرة، بعد خروج جون غاليانو من اللعبة، على رأسها مارك جايكوبس، ألبير إلبيز، حيدر أكرمان، وهلم جرا. لم يكن أحد يتوقع أن يفوز سيمونز بهذا الدور، لأن أسلوبه العملي والهادئ مختلف عن أسلوب الدار التي بنت سمعتها على الرومانسية، وعلى أمتار وأمتار من الأقمشة في وقت كان التقشف هو الدارج والمقبول بعد الحرب العالمية الثانية، لكنه برهن في هذه التشكيلة أن بداخله رجلا رومانسيا كان يحتاج فقط إلى من يوقظه ويحفزه. وإذا كان السيد ديور يعشق الورود، فقد ظهرت في ديكور خمس قاعات خصص كل واحدة لنوع من الورود ولون منها، أما في الأزياء فركز على ألوانها أكثر، وإن كانت خلفية رائعة لما عرضه مثل معطف بسيط من الكشمير بلون أحمر وآخر بلون رمادي. لكن هذا لا يعني أن المصمم الجديد لم يفهم أن واحدا من جينات الدار هي السخاء والكرم، سواء في استعمال الأقمشة أو التفاصيل، فقد كانت هناك تنورة طويلة من الأورغنزا مزينة بمئات القطع من الشيفون الصغيرة جدا، وأخرى طرزت بالكامل بقطع ريش صغيرة بلون سماوي خفيف.

المهم، بالنسبة له ولمسؤولي «ديور» وعلى رأسهم المالك برنار أرنو، وهو المصمم الشاب الذي نجح في العودة بها إلى أصولها، في رغبة واضحة للتخلص من إرث سلفه غاليانو، الذي أخذ رومانسية الدار إلى مرحلة من الفانتازيا والحلم يصعب مضاهاتها فنيا كما يصعب تسويقها. راف سيمونز تجنب كل هذا وجنب نفسه أي مقارنات، وفي الوقت نفسه قدم تشكيلة ناجحة بكل المقاييس، رغم أنها أول تجربة له في مجال الـ«هوت كوتير» مما يبشر بأن الآتي سيكون أجمل.