جاكيت «شانيل» الأسود يتجاوز العادي إلى الأيقوني

معرض وكتاب يتتبعان تاريخ هذه القطعة ووجوهها المتعددة

TT

قد لا تعرف العديد من أنيقات العالم لون أو شكل العلم الفرنسي، لكن أغلبيتهن، إن لم نقل كلهن، يعرفن جاكيت التويد من «شانيل» من النظرة الأولى. وهنا تكمن قوة هذه القطعة التي أصبحت لصيقة باسم الدار الفرنسية التي أسستها امرأة أرادت تحرير المرأة من كل ما يقيد حركتها من دون أن تحرمها من أنوثتها وقوتها. ولأن الجاكيت يعتبر جزءا من جينات الدار، فإن المصمم كارل لاغرفيلد يعود إليه في كل موسم، يجدده ويطوره ويضفي عليه لمسات مبتكرة، مرة على شكل تطريزات أو ترصيعات، ومرة بتقصيره أو تطويله، لكن دائما من دون المساس بأساسياته.

الجاكيت ليس هو المولود الوحيد للآنسة كوكو شانيل، فقد أبدعت لنا الفستان الأسود الناعم وبنطلون الجيرسيه الواسع والمظهر الاسبور، لكن مع الوقت أصبحت هذه القطع مشاعا للكل. فهيبار جيفنشي، مؤسس دار «جيفنشي» أبدع أيضا الفستان الأسود الناعم الذي ظهرت به أودري هيبورن في فيلمها «إفطار في تيفاني»، بينما أصبح المظهر الاسبور مرتبطا بالأسلوب الأميركي عموما، ليبقى الجاكيت خاصا جدا بـ«شانيل» لا يتقنه بالطريقة نفسها سواها.

في غاليري «ساتشي» بلندن، وإلى 28 أكتوبر (تشرين الأول) الحالي، يعرض ما لا يقل عن 113 جاكيت من خلال صور فوتوغرافية تؤرخ له منذ الخمسينات إلى اليوم، التقطها المصمم كارل لاغرفيلد بنفسه، بتنسيق من كارين روتفايلد، رئيسة تحرير مجلة «فوغ» النسخة الفرنسية سابقا والمتعاونة مع «هاربرز بازار» حاليا.

جولة سريعة في المعرض، تؤكد أنه مهما كان تاريخ تصميمها، فإنها كلاسيكية لا تعترف بزمن، كما أنها تتحدى الأعمار وتتعدى الحدود الجغرافية. بعبارة أخرى فهي تناسب امرأة في الثمانين كما تناسب فتاة في العشرين وفي كل حالة تبدو أنيقة ومتميزة. الفضل في هذا يعود إلى أوجهها المتعددة التي تستمدها من أسلوب صاحبتها، سواء ارتدتها مع تنورة مستقيمة أو بنطلون جينز. صحيح أنها صممته لامرأة نحيلة ورشيقة، إلا أنه أكد مع الوقت أنه يناسب كل المقاييس إذا تم تنسيقه بشكل جيد وبذوق. إذا ساورك أدنى شك حول هذه الحقيقة، فإن نظرة واحدة لصورة يظهر فيها كيني ويست بهذا الجاكيت مع بنطلون من الجينز وكثير من البريق، أو صورة لعارضة الدار السابقة، إينيس دي لافريزونج وهي تلبسه مع قميص من الدينم بطريقة «كاجوال»، أو الممثلة جاين بيركين وهي ترفع أكمامه إلى الكوع أيضا بطريقة منطلقة و«اسبور»، من شأنها أن تغير رأيك.

كانت كوكو شانيل في السبعينات من عمرها عندما أبدعت هذه القطعة من التويد، وكان ذلك في عام 1953 أي بعد الحرب العالمية الثانية، وفي مرحلتها الثانية في عالم الأزياء. بشكلها الذي يبتعد عن الخصر كانت مضادا لظاهرة «ذي نيو لوك» التي أبدعها الراحل كريستيان ديور، والتي تتميز بخصر مشدود وتنورة مستديرة سخية بالقماش.. هذا الأخير كان أنيقا وموجها لامرأة مترفة تريد إبراز أنوثتها أولا وأخيرا، لهذا عانقته المرأة بحرارة بعد الحرب العالمية الثانية وما عانته فيها من تقشف كاد أن ينسيها كيف تكون أنثى. جاكيت شانيل، في المقابل، كان موجها لامرأة أنيقة، لكن أيضا عملية بتصميمه الواسع نوعا ما وجيوبه المصممة لكي تمنح صاحبته حرية في استعمال اليدين بالإضافة إلى افتقاده لأي ياقة تضفي عليه الأنوثة. لم تكن الفكرة منه معانقة الموضة الدارجة في ذلك الوقت، لأن الموضة برأي كوكو شانيل متغيرة تتبخر بعد كل موسم، بل كانت معانقة أسلوبا خاصا يدوم للأبد. من هذا المنطلق، كان بمثابة ثورة صعب على العديدين تقبلها من أول وهلة، وإن كان بعضهم تحامل عليها فقط بسبب الحملة التي شنها كثير من الأوساط ضد المصممة بعد الحرب العالمية الثانية بسبب ارتباطها بصداقات مع ألمانيين. ما أكدته الأيام وكتب الموضة، أن نظرتها كانت صائبة ومستقبلية، وكانوا هم على خطأ. وهذا ما فهمته المرأة الأميركية قبل الفرنسية، فما إن ظهرت جاكي كيندي بنسخة منه باللون الوردي في اليوم الذي قتل فيه زوجها في دالاس، حتى تغيرت النظرة إليه واكتسب مكانته الأيقونية. تجدر الإشارة إلى أن التايوور الوردي التي كانت تلبسه جاكي كيندي كان نسخة غير أصلية. فقد طلبت من مصممها الخاص أوليغ كاسيني أن يفصله لها بمقاييس دار «شانيل» ورضاها، حسب ما نشر مؤخرا.

وإذا كانت كوكو شانيل هي مبدعته، فإن الفضل الكبير في حقنه بجرعات شبابية وعصرية قوية يعود إلى كارل لاغرفيلد، الذي خلفها بعد 11 عاما من وفاتها. فمنذ عام 1982، وهو يفاجئنا بتطوير هذه القطعة وإدخال لمسات عصرية عليها، وكأنه ساحر ما إن يحرك عصاه حتى يظهر تفصيل جديد فيها. عبقرية المصمم، المشهود له بها، قد لا تكمن في قدرته على الإبداع، لكنها حتما تتجلى في قدرته على التطوير والابتكار. فكل أبجديات الدار ورموزها تحضر في كل موسم تقريبا، لكن بلمساته الخاصة، سواء تعلق الأمر باللؤلؤ أو بالفستان الأسود الناعم أو الحقائب المبطنة، وطبعا جاكيت التويد. في تشكيلته الأخيرة من الأزياء الراقية، «الهوت كوتير»، مثلا، قدم لنا خدعة بصرية مثيرة، كان فيها العديد من القطع مطرزة بآلاف الأحجار الصغيرة على شكل مربعات بحيث تظهر من بعيد كما لو أنها من التويد، لتكون النتيجة تحفا فنية بكل المقاييس. على يده تحرر الجاكيت أيضا من ارتباطه بامرأة في الأربعينات من العمر فما فوق، ودخل خزانات فتيات في مقتبل العمر. كانت النقلة حثيثة في الثمانينات، وصاروخية في التسعينات بظهور العارضة كلوديا شيفر به مع تنورة قصيرة جدا من الجلد. بين ليلة وضحاها، التقطته شريحة جديدة من الزبونات رأت فيه فجأة قطعة حيوية تضج بالشباب. كارل لاغرفيلد، بدوره لاعب هذه الشريحة، بتطعيمه دائما بالجديد، سواء كان هذا الجديد ترترا أنم خرزا أم فروا أم أزرارا من اللؤلؤ. فحسب قوله، هو قطعة يحلم «كل مصمم بأن يبدع فيها.. إنها هناك مع بنطلون جينز أو (تي – شيرت).. لقد أصبحت ترمز لموضة أبدية تجسد أناقة أنثوية منطلقة.. إنها قطعة لكل موسم وكل حقبة وتناسب الكل. فهي أنيقة في النهار وكذلك في المساء، ويمكن ارتداؤها بشكل كاجوال أو بشكل رسمي. فرغم أن الكل يتكلم عن الفستان الأسود الناعم، فإن هناك أيضا الجاكيت الأسود الناعم».

* إعجاب كارل لاغرفيلد بالقطعة تجسد في كتاب جمع فيه 113 صورة التقطها بنفسه بالتعاون مع كارين روتفايلد، بعنوان «The Little Black Jacket: Chanel›s Classic Revisited » صادر عن دار النشر (Thames&Hudson)، ومعرض يطوف 9 عواصم عالمية. وقد حرص المصمم على أن تكون القطعة المصورة أقرب إلى التصميم الأصلي الذي أبدعته الآنسة كوكو شانيل.

سيمتد المعرض إلى 28 أكتوبر الحالي في غاليري «ساتشي» (saatchi-gallery.co.uk).