بين برودة الجو وبريق الأزياء.. ذاب الجليد

أسبوع باريس لربيع وصيف 2013: الـ«هوت كوتير» استقوى أكثر من أي وقت مضى

TT

كان الجو في باريس الأسبوع الماضي سيئا للغاية، لا يضاهيه سوءا وتعكرا سوى مزاج سائقي التاكسي، الذين كانوا يعرفون أنهم عملة نادرة في هذه الأيام، فتسلطوا. فالطرقات غير صالحة للمشي عليها ولو لمسافة قصيرة، وبالتالي كان خطر التزحلق والسقوط في أي لحظة وارد بسبب الثلج الذي تحول إلى جليد في بعض الأحيان، أو إلى ثلج طيني في مرحلة الذوبان في أحيان أخرى. بعبارة أخرى، لم تكن باريس في أجمل حلتها، وكانت تحتاج إلى دفعة قوية من مصمميها لكي تستعيد بريقها. وهذا ما اجتهدوا على تحقيقه بإدخالنا إلى حدائق غناء تعطي الأمل بأن البرد حالة مؤقتة، وبأن الربيع مقبل عما قريب. فالأسبوع كان موجها للربيع والصيف، وبالتالي كانت الأزياء، بتصاميمها وألوانها وأقمشتها، تعكس هذا الأمر، كذلك القاعات التي نظمت فيها العروض. ففي حدائق التوليريز، نصبت دار «ديور» خيمة ضخمة زينتها بالأشجار الوارفة والنباتات الخضراء، بينما حولت دار «شانيل» «لوغران باليه» لما يشبه المدرج الأولمبي غرست على جوانبه أشجار جلبتها من منطقة النورماندي لتخلق أجواء تشبه أجواء مسرحية «حلم ليلة في منتصف الصيف» لشكسبير، لم يقتصر الحلم فيها على الأزياء، بل أيضا على تسريحات الشعر المنفوش ومشية العارضات المتثاقلة وكأنهن في حلم. بيد أن التشكيلة التي قدمها المخضرم لاغرفيلد كانت تضج بالفنية والعصرية في الوقت ذاته، لتذكرنا بمفهوم الـ«هوت كوتير» كما أرساه البريطاني تشارلز فريدريك، وورث في منتصف القرن التاسع عشر، وتؤكد لنا أن هذا القطاع لا يزال قويا ومستمرا.

«شانيل» دار الـ«هوت كوتير» بكل ما تحمله الكلمة من معنى، لهذا عندما يصرح واحد مثل بيير بيرجيه بأن الـ«كوتير» انتهت، أشعر بالأسف عند سماع ذلك، وأرد عليه بأنها باقية ومستمرة بفضل زبونات جديدات لهن إمكانيات هائلة. فإذا كانت زبونة الماضي تشتري 4 أو 5 فساتين من التشكيلة، فإن زبونة اليوم تشتري نحو 30 فستانا. هذا ما قاله كارل لاغرفيلد في الأسبوع الماضي، ردا على مقولة صرح بها بيير بيرجيه، شريك الراحل إيف سان لوران ورفيق دربه في عام 2004، الذي صرح بأن الـ«هوت كوتير» انتهت بغياب زبونات متذوقات من جهة، ومصممين كبار من أمثال إيف سان لوران من جهة ثانية. هذا الأخير، بدوره صرح حينها مبررا تقاعده بأنه لم يعد يطيق أن يستمر في تصميم هذا الخط بعد أن أصبح يعتمد على العطور ومستحضرات التجميل لكي يعيش ويتنفس، هو الذي كان في يوم من الأيام فنا قائما بحد ذاته، يتعاون فيه المصمم مع فنانين مثل سلفادور دالي، جون كوكتو، بيكاسو وغيرهم.

مرت السنوات، وكادت نبوءة بيير بيرجيه تتحقق، لولا ظهور أسواق جديدة أهمها الصين والبرازيل وروسيا والشرق الأوسط، أنعشت هذا القطاع وشجعت البعض على دخوله مثل بشرى جرار، أو العودة إليه مثل دوناتيلا فيرساتشي بعد غياب 8 سنوات.

لكن هل كل شيء يقدم على منصات العروض في الوقت الحالي يدخل ضمن الفنية التي تكلم عنها الراحل إيف سان لوران؟ بالطبع لا، فكون الأزياء أنيقة ومنفذة بشكل احترافي وبتطريزات غنية لا يعطيها دائما الحق بأن تنتمي إلى هذا النادي المترف والنخبوي. لكن الحاجة أم الاختراع، فالأسبوع الذي تقلص من 5 أيام في السابق إلى 3 أيام فقط الآن، تعرض أيضا لتقلص عدد المشاركين فيه، بعد أن غابت أسماء كبيرة مثل إيمانويل أونغارو، «بالنسياجا»، «فيونيه» وهذا الأسبوع «جيفنشي». كل هذا استدعى إسعافات من غرفة الموضة الباريسية تمثلت في إدراج أسماء شابة، قد لا تكون بالضرورة متمرسة في هذا المجال، لكنها تعرف كيف تصوغ أشكالا متميزة ومتقنة، كما في استضافة أسماء عالمية ليست بالضرورة فرنسية، مثل جيورجيو أرماني، «فالنتينو» وجيامباتيستا فالي وإيلي صعب، الذين أصبحوا وجوها مألوفة، ولا يكتمل الأسبوع الباريسي من دونهم.

ما ساعد على تقبل التغيرات التي أجريت على الـ«هوت كوتير» عبر السنين، أن تحديد معنى الـ«هوت كوتير» مفتوح للتأويل، لا سيما أنها عندما بدأت في منتصف القرن التاسع عشر، كانت هي الأسلوب الوحيد للموضة، بحكم أن الأزياء الجاهزة لم تكن قد ولدت بعد، ولا خطوط أخرى مثل الـ«كروز» أو الـ«بري فول» وغيرها. كان البريطاني تشارلز فريديريك وورث ومن تلاه من المصممين، يقدمون مجموعة من التصاميم لزبوناتهم، يخترن منها التصميم الذي يعجبهن، ليتم تفصيله فيما بعد على مقاسهن وبالألوان التي يخترن. وإذا أرادت الواحدة منهم إضافة بعض التفاصيل البسيطة عليه، فلا بأس، وإن كان المعروف عن الأب الروحي لهذا الخط، وورث، أنه لم يكن يحب أن تتدخل الزبونة في الكثير من التفاصيل، ولا يقبل أن يجري تغييرات كثيرة على التصميم. وعلى عكس المتوقع، أكسبه عناده وتمسكه برأيه ثقتهن وزاد من احترامهن له ولعمله، الأمر الذي ساهم في تبلور مفهوم الكوتير عموما. وفي عهد «لابيل إيبوك» (الحقبة الجميلة) ومع ظهور شريحة جديدة من حديثي النعمة، انتعش هذا المجال وزاد الإقبال عليه، ليتحول المصمم في تلك الفترة من مصمم يلبي طلبات الزبونة واحتياجاتها إلى فنان مبدع يتحكم في أدواته كما في ذوق زبوناته. ولعل أكثر من استفادوا من هذا التحول هم بول بواريه في بداية القرن العشرين، ثم فيونيه وبالنسياجا فيما بعد. فهؤلاء أصبحت لهم سطوة وقوة ونزوات، إلى حد أن بعضهم لم يكن يطيق مقابلة الزبونات، ويتجنبهن قدر الإمكان. فقد أصبحوا يتعاملون مع إبداعاتهم كتحف فنية قد تختلف أدواتهم عن أدوات الرسامين أو النحاتين، لكن النتيجة واحدة.

من هؤلاء نذكر الراحل إيف سان لوران، الذي حقق ثورات في هذا المجال، وبعد تقاعده في عام 2002 وتقاعد نظيره إيمانويل أونغارو في 2004 أعتقد البعض أن الـ«هوت كوتير» ستتقاعد معهما، لكنها بفضل دماء جديدة، وغير فرنسية، مثل البريطانيين ألكسندر ماكوين وجون غاليانو، بقيت تلعب على الفنية والإبهار، بل وبلغت مع جون غاليانو، في دار «ديور» مرحلة الدراما المسرحية بكل إبهارها وتشويقها. لم تكن بالضرورة تدر أي أرباح يمكن الاعتماد عليها، لكنها في المقابل، كانت ولا تزال تمنح المصممين والمجموعات الكبيرة المالكة لبيوت الأزياء المتخصصة فيها، الـ«بريستيج»، الذي كان أداة ناجحة للترويج لمنتجات أخرى في متناول اليد، مثل مستحضرات التجميل أو الإكسسوارات. فمن لا تقدر على شراء قطعة أزياء تقدر بأكثر من 20 ألف دولار أميركي، مثلا، تغذي حلم الانتماء إلى هذا النادي النخبوي بشراء عطر يحمل اسم الدار أو أحمر شفاه أو حقيبة يد في أحسن الحالات. لكن كما يعرف كل من كارل لاغرفيلد، مصمم دار «شانيل» ودوناتيلا فيرساتشي، وسيدني توليدانو، الرئيس التنفيذي في دار «ديور» فإن الـ«الهوت كوتير» في السنوات الأخيرة فاجأت الجميع وبدأت تحقق الأرباح ربما لأول مرة منذ عقود. توليدانو صرح في الأسبوع الماضي لوكالة الصحافة الفرنسية بأنها بدأت تستقطب زبونات جديدات في الصين خصوصا، الأمر الذي ظهر واضحا في انتعاش الدار. انتعاش عكسه عدد النجوم والشخصيات التي حضرت العرض الثاني لمصممها راف سيمونز، ووصل عددها إلى 22 شخصية من بينها الأميرة شارلين أوف موناكو، ولي رادزويل، أخت الراحلة جاكلين كيندي أوناسيس، برناديت شيراك، بالإضافة إلى باقة من النجمات.

في أسبوع الـ «هوت كوتير» .. الكبير كبير!

* رغم الدماء الشابة التي التحقت بالأسبوع، فإن الكبار أكدوا أهم لا يزالون كبارا، لأنهم أكثر من أتحف وجاد عليها بالتحف، بدءا من كارل لاغرفيلد إلى راف سيمونز في دار «ديور» أو جيورجيو أرماني أو جون بول غوتييه أو إيلي صعب. «شانيل» أثبتت هذا بعرض حالم جدد فيه المصمم رموز الدار القديمة سواء تايور التويد أو الفستان الناعم أو زهرة الكاميليا، التي ظهرت في كثير من الفساتين الناعمة. راف سيمونز أيضا اعتمد على الأنامل الناعمة التي تعتز بها «ديور» وزرع لنا حدائق متفتحة بالأزهار والورود على فساتين تتباين بين المفصل على الجسم أو المستدير. جيورجيو أرماني، قدم لنا ترجمة للبنطلون كما لم نره من قبل، إذ نسقه مع كل القطع التي تخطر على البال من الجاكيت إلى التنورة الطويلة والفستان القصير. كما كانت تشكيلته للمساء بريقا سينافس بريق النجمات اللواتي سيظهرن بها في حفل توزيع جوائز الأوسكار في نهاية الشهر المقبل. جون بول غوتييه، ترجم الساري والكاري بأسلوب باريسي أثار جدلا وردود أفعال متضاربة، لكنها في أغلب الحالات إيجابية تذكر بأسلوب المصمم الراقي وشقاوته التي تضفي على الأسبوع مرحا. إيلي صعب أيضا قدم تشكيلة تبرق بالتطريز الذي أخذ أجمل الأشكال في فستان مطرز بالكامل بالورود والأزهار، إلى حد أنه يبدو من بعيد وكأنه مرسوم بتقنيات الـ«ديجيتال» أو الـ«غرافيك».