سانتوني: ما قدمته قليل ولدي آفاق لا حدود لها

الابن الذي تسلم بذرة من الأب وزرعها في الكثير من أنحاء العالم

جيسوبي سانتوني
TT

عندما تسلم جيسوبي سانتوني المشعل من والده أندريا لإدارة أعمال الشركة، كان يعرف أن آفاق التوسع لا حدود لها، وأنه تسلم كنزا لا يقدر بثمن. وبالفعل، لم يمر سوى وقت وجيز حتى أنجز ما يحلم به أي أب، أن يرى ابنه قادرا على إدارة المركب بالاتجاه الصحيح. فقد ارتقى بالشركة إلى مستوى العالمية، وهو يقول، بكل تواضع، إنها لم تكن مهمة صعبة، لأن الشركة تتمتع بكل العناصر التي تجعل لاسمها وقعا قويا في ساحة الموضة العالمية، وإن كل ما كانت تفتقده هو تعريف العالم بها. أول ما يلفت الانتباه عند مقابلة جيسوبي، إضافة إلى أناقته الإيطالية التي تميل إلى الرسمية، جديته في التعامل مع الآخر. فهو بالكاد يبتسم، لكنك في الوقت ذاته تشعر بالدفء الإيطالي ينبعث من حماسه عندما يتحدث عن البدايات والطموحات والمسؤوليات العائلية، إلى حد أنه قد يصيبك بالعدوى، وينقل لك بسهولة إحساسه بأنه جزء لا يتجزأ من الاسم الذي ورثه وينتظر منه أن يحافظ عليه لكي يورثه للجيل القادم وهو معافى. عند التلميح لهذا الحماس الذي يقارب الشغف، يقاوم ابتسامة كادت تظهر على محياه، لكنها اختفت بسرعة البرق لتحل محلها نظرة عميقة وهو يقول:

«عندما كنت طفلا، كان معمل والدي بمثابة ملعب صغير بالنسبة لي، كنت أتحين الفرص لكي أذهب إليه بعد خروجي من المدرسة. كانت تغمرني السعادة وأنا أراقبه وهو يعمل وأحلم بأن أصبح مثله. لم أكن مثل باقي الأطفال أحلم بأن أكون طبيبا أو مهندسا أو فنانا، بل كانت كل طموحاتي تتلخص في صناعة الأحذية مثل والدي. أذكر أن المعمل في تلك الفترة، لم يكن أكبر من المكتب الذي نحن فيه الآن، وكان يعمل فيه من ثلاثة إلى خمسة عمال فقط، لكنه كان بالنسبة لي كل العالم، والمكان الذي أجد فيه راحتي».

إلى جانب الإعجاب بوالده، كان يسكنه الفضول وهو يراقب كيف يجري تصميم الحذاء وتنفيذه من الألف إلى الياء. وهكذا، شب الطفل وأصبح شابا ولم تتغير أحلامه، لكنها أخذت حجما أكبر يتناسب مع تخصصه في مجال إدارة الأعمال. لهذا، التحق بشركة والده بعد تخرجه، وهو عازم على أن يأخذها إلى مرحلة جديدة ويضعها في المكان الذي تستحقه: «شعرت بأن هناك إمكانيات كبيرة لتطويرها وتوسيعها، خصوصا أن والدي كان يتعامل حينها مع السوق الأميركية فقط، بينما كنت أشعر بأنه بإمكاننا دخول أسواق أخرى لا تقل أهمية، مثل الإيطالية والأوروبية والآسيوية. وبالفعل، اقترحت الفكرة على والدي، فرحب بها، وكلفني أن أشرف على تنفيذها».

طوال حديثه، يكرر جيسوبي كثيرا أن والده رجل سابق لعصره، وأنه منفتح على التغيير، لهذا بارك كل اقتراحاته. «عندما كشفت لوالدي عن نيتي التوسع، أول مرة، سعد بالأمر، لأنه يتمتع برؤية مستقبلية واضحة من جهة، ولأنه أدرك بحسه أن التعامل مع سوق واحدة فيه مجازفة، لأنه إذا تأثر تتأثر كل الأعمال وتتعثر، لهذا شجعني على السفر إلى آسيا قائلا لي: (أنا لا أجيد الإنجليزية مثلك، لهذا فإن مهمتك أن تذهب هناك وتعمل على توسيع الشركة)». ويتابع: «ربما ينطبق التشبث بالقديم ومقاومة التطوير على جنسيات أخرى، لكن بالنسبة للإيطاليين، فإنهم يحبون التغيير، وليس أدل على هذا من أعمال مايكل أنجيلو، ليوناردو دا فينشي، وغيرهم من المبدعين الرائدين».

وحتى عندما عاد جيسوبي من الصين، وأخبر والده بأن عليهم تغيير التصاميم والألوان إن هم أرادوا التعامل مع الصينيين، لم يجد أي مقاومة، وبدأت عملية التغيير، أو بالأحرى مخاطبة الأسواق الجديدة بلغتها تحت إدارة وإشراف الابن. «فرغم أني لست مصمما، بل ولا أعرف حتى كيف أرسم بقلم الرصاص، فإني أستطيع بحسي أن أفرق بين الجيد والغث، لهذا أشرف على قسمي التصميم والإنتاج بشكل مباشر... أعطي رأيي في كل شيء، مما يجعلني بمثابة وسيط موضة ومنتجات أو منسق أكثر مني مصمما، لكن تبقى الكلمة الأخيرة لي دائما». طموحاته، بحسب اعترافه، تأخذه إلى كل أنحاء العالم، وفي كل مرة يسافر فيها إلى سوق جديدة، يجد نفسه في موقف قوي، لأنه يفهم منتجه جيدا، مما يسهل عليه مهمة تسويقه. والنتيجة أن أحذية وإكسسوارات سانتوني الجلدية وجدت طريقها الآن إلى أسواق آسيا وأوروبا الشمالية والشرق الأوسط.

ورغم أن هذه الأسواق تزخر بالأسماء الكبيرة وبيوت الأزياء التي تدخل المنافسة بكل ثقلها عندما يتعلق الأمر بالمنتجات المرفهة، فإن جيسوبي يعتقد أنه لا يزال هناك فراغ في مجال الأحذية المترفة المصنوعة بحرفية عالية، وهذا ما يجعل اسم سانتوني يتمتع برنة قوية في جانب الأحذية الرجالية تحديدا، بحكم أنها توجه إلى الرجل، أولا وطويلا، قبل أن يصوب أنظاره نحو المرأة في عام 2006. وكان هذا التوجه تطورا طبيعيا لأن المرأة، شاء المصممون أم أبوا، تبقى زبونة مهمة. فهي تقتني الأحذية أكثر من الرجل، إذ في الوقت الذي قد يكتفي فيه هو بواحد يرافقه في عدة مناسبات، تجدها تغير حذاءها بشكل يومي، حسب المناسبة وألوان أزيائها، بل وحتى مزاجها أحيانا. سبب مهم يجعل الكل يتودد لها تقديرا لقدراتها الشرائية، وهو ما لا ينكره جيسوبي مؤكدا أن «هناك فرصة كبيرة للتوسع في المجال النسائي، والإمكانات هائلة للنمو، لأن المرأة تشتري أكثر من الرجل، بمعدل خمسة أحذية لواحد. هذا لا يعني أنها ستشتري مني خمسة أحذية مرة واحدة، لكن ربما ثلاثة في المستقبل القريب. فنحن لا نزال معروفون لدى الرجل أكثر بينما لم يتعرف علينا الجنس الناعم بعد بشكل جيد. إضافة إلى هذا، فإن خريطة توزيعنا لا تزال محدودة، الأمر الذي نعمل على تغييره حاليا».

المجموعة الخاصة بربيع وصيف 2014 التي قدمها في ميلانو أخيرا، تشير إلى أن التصميم للنساء قد يكون جديدا بالمقارنة مع التصميم للرجال، لكنه ليس الحلقة الأضعف. فقد كانت التصاميم قوية تتباين بين الأنوثة والرجولة، اعتمدت على قوة الشركة وإمكاناتها الهائلة في التعامل مع الجلود وتطويعها وعلى لغة إيطالية عصرية في مخاطبة الجنس اللطيف. فالتقنيات المستعملة في معامل الشركة الواقعة بأنكونا، خاصة بسانتوني، وعلى رأسها طريقة الدباغة التي تعتمد على أسلوب لا يعرفه أو يستعمله أحد غيرهم. «فهي طريقة خاصة بنا وحدنا» كما يشير جيسوبي. هذه الطريقة تعتمد على إكساب أي حذاء يخرج من معاملها مظهرا معتقا وقديما مع لمعة مثيرة بعد أن يخضع لعملية تستغرق عدة ساعات، ويقوم فيها الحرفي بوضع ما يقرب من 15 درجة لون مختلفة على الجلد قبل أن يحصل على النتيجة النهائية. يبدأ بوضع طبقة أولية باليد ويتركها لفترة حتى يتشربها الجلد تماما، بعدها يضع طبقات أخرى مستعملا قطعة من الصوف يمررها ببطء وتأن باتجاه عمودي، قبل أن يوجه اهتمامه إلى الجزء العلوي والأسفل، أي النعل، بواسطة فرشاة خاصة. في الأخير، تبدأ عملية التلميع، أولا بواسطة فرشاة مستعملا كريمات وإفرازات شمعية، قبل أن يلجأ إلى قطعة مصنوعة من صوف الكشمير والحرير لإعطائه المسحة الأخيرة. وطوال هذه الخطوات يبرهن الحرفي على قدرة عالية من الصبر وهو ينكب على كل تلميع الحذاء ببطء وتأن حتى يحصل على نتيجة مرضية تجعله فريدا من نوعه ومختلفا.

هذه التقنية لا تظهر في الأحذية النسائية بنفس القوة، لكن جيسوبي واثق بأن الأناقة لا تنقصها، مشيرا إلى أن التميز فيها يأخذ وجوها مختلفة، «فرغم أن بعضها مستوحى من عالم الرجل أحيانا، فإنها تتمتع بكل عناصر الأنوثة والإثارة. السبب أننا نستلهم بعض الخطوط والتفاصيل التي أصبح لنا باع فيها بالخبرة، ونترجمها لها بلمسة ناعمة وخطوط رقيقة». كلما تشعب الحديث، تكتشف أن مهمة جيسوبي لا تقتصر على توسيع الشركة واختراق أسواق جديدة فحسب، بل تشمل أيضا قراءة ما يجري في العالم من تغيرات عليه مراعاتها، لهذا كان من الأوائل الذين اعتمدوا فلسفة عمل تحترم البيئة. فلسفة تتلخص في حرصه على استعمال صبغات نباتية لدباغة الجلود، وإنشاء مصانع تحترم الجانب الإنساني للعاملين فيها وتجعلهم جزءا من الدار وليس مجرد عاملين يتقاضون راتبا في آخر الشهر. الأمر بالنسبة له لا يتعارض مع احترام التقاليد القديمة، بل هو امتداد لها، والاختلاف هنا يكمن في الطريقة فقط. يعود له الفضل أيضا في الكثير من التعاونات التي شهدتها الشركة وساعدت على استقطاب زبائن جدد من النخبة، مثل تعاوناتها مع «دبليو آي سي» للساعات، و«مرسيدس» و«مونبلان». فشخص يستطيع اقتناء ساعة تقدر بأكثر من 10.000 يورو أو سيارة مرسيدس أو قلم مرصع، لا ترف له عين حين يشتري حذاء من سانتوني قد يصل سعره إلى 10.000 يورو وأكثر.

يعلق جيسوبي أنها تعاونات تأتي أحيانا بمحض الصدفة أو من خلال علاقات شخصية. التعاون مع شركة «إي دبليو سي» مثلا، جاء نتيجة صداقة شخصية ربطت بينه وبين رئيسها التنفيذي جورج كيرن. «كنا في أحد الأيام نتجاذب أطراف الحديث عندما قال لي كيرن: (أنا معجب بالطريقة التي تنسق فيها دائما بين حذائك وحزامك). فطرحت عليه فكرة إصدار ساعات بسوار من نفس جلد ولون الحزام والحذاء وتحمسنا لها، لكن ما إن انتهت المناسبة حتى انتهى الحديث عنها، وكدت أنسى الموضوع إلى أن التقينا بعد ستة أشهر وقال لي: (جيسوبي، استعد سنطلق مجموعة ساعات جديدة بأساور جلدية من سانتوني). كانت هذه المجموعة هي «بورتوفينو» التي تميزت بألوان متنوعة ومتوهجة تعكس أجواء الصيف والبحر». الترف بالنسبة لجيسوبي لا يتوقف عند تصميم حذاء بجلد نادر أو استعمال تقنيات فريدة في دباغته وتلميعه، فأحيانا يمتد إلى استعمال الأحجار الكريمة، كما هو الحال بالنسبة لتعاونه مع شركة «مونبلان» المشهورة بأقلامها وساعاتها، وكانت ثمرته مجموعة أحذية مرصعة بالماس. فقد طلبت «مونبلان» ترصيع كل حذاء بماستين، كل واحد بقيراط سبعة، مما برر سعره الباهظ. أما بالنسبة لما تطرحه الشركة، فهو لا يقل فخامة، ويمكن أن يصل سعره إلى أكثر من 25.000 يورو، عندما يكون مصنوعا باليد ومن جلد التمساح أو المنك الإيراني. فالإقبال على هذه المنتجات المترفة كبير، «وأنا أؤمن بأنك عندما تقدم فكرة جيدة للزبون ومنتجا يستوفي كل شروط الجودة والأناقة والجمال، فإنه مستعد لكي يشتريه بأي ثمن». طموحات جيسوبي لا حدود لها، إلى حد أنه يعترف بأنه لا يمكن أن يقول في أي مرحلة من المراحل إنه حقق المراد، أو يفكر في أن يأخذ قسطا من الراحة بعيدا عن أجواء العمل لكي يستمتع بثمار ما زرعه. هذه الفكرة غير واردة بالنسبة له على الإطلاق: «لأني أشعر دائما بأنه يمكننا إنجاز المزيد وتقديم الأحسن. لا أشعر بالقناعة بما أقدمه، فهناك دائما شيء ينتظرني». ربما سيشعر بهذه القناعة عندما يسلم المشعل لابنه البالغ من العمر حاليا 16 سنة. فهذا الأخير لا يزال يدرس في مدرسة داخلية بسويسرا، لكن من المتوقع منه أن يلتحق بالشركة ويحملها إلى مرحلة أخرى تخاطب جيله، لكن إلى ذلك الحين، يرى جيسوبي، أن المستقبل لا يزال فاتحا له ذراعيه، وبعد النجاح الذي حققه في مجال الإكسسوارات النسائية واختراق الأسواق العالمية، فلا شيء مستحيل.