«الباب الذي يدخل منه الريح.. اقفله واستريح»

العلاقة بين الجيران قد تبدأ بتبادل البصل والخيار وتنتهي بنقل الأسرار والأخبار

TT

«الجار قبل الدار»، «جارك القريب ولا خيّك البعيد»، «مَن أدرى بدارك غير ربّك ثم جارك»، و«تمنّى الخير لجارك تلاقيه بدارك».. أقوال يزخر بها قاموس الأمثال اللبنانية لتمثل مجتمعة محور علاقة الجيران في ما بينهم، من عون ومحبة وألفة وضرورة مساندة الجار في السراء والضراء. لكن مهما حملت هذه العلاقة بين حناياها من إيجابيات، تبقى خفاياها على أرض الواقع محفوفة بأخطار الدخول من باب بيت الجار العريض من دون إذن ولا دستور، فتمر بما تخفيه الجدران من أخبار أفراد العائلة ومشكلاتهم لتدخل في سياق تبادل البصل والثوم والبندورة والخيار ولا تنتهي بمسحوق الجلي وغيرها من الأمور التي من الممكن تجنبها. وهكذا يتزعزع بالتدريج الإطار الطبيعي لعلاقة الجيران ويدخل في دائرة «الإزعاج الاجتماعي والشخصي».

أمر طبيعي أن يقف الجار بجانب جاره الذي يراه أكثر من أخيه البعيد، وهو بالتالي سيكون أول مَن يلجأ إليه لطلب المساعدة. ومن المؤكّد أن الأمنية الخيّرة التي يضمرها الجار لجاره ستنعكس إيجابا عليه، لكن هل من الضروري أن تشرع الأبواب على مصاريعها أمام الجار ليدخل تفاصيل مشكلات العائلة وأخبارها لتسقط الحدود بين الطرفين؟.

«لا تتوقف جارتي عن طلب أي شيء مهما كان بسيطا، ويمكن الاستغناء عنه أو الحصول عليه من أي محل مجاور وبسهولة، لكن تبقى عادة اللجوء إلى الطريق الأسهل هي التي تحركها بعيدا عن أي حسابات قد يأخذها الجيران بعين الاعتبار، وأهمها تأمين كل اللوازم الضرورية في بيتهم لتجنّب إزعاج الآخرين أو على الأقل التدبير بما تيسّر».. بهذه الكلمات تصف سهى، إحدى جاراتها المعروفة في المبنى حيث تسكن، وعادتها السيئة التي تجعلها تجول بها بين طوابق المبنى قارعة كل الأبواب علّها تحصل على مبتغاها بسهولة ويسر. ومع ذلك تؤكد سهى كرم طباع هذه الجارة التي وإن كثفت طلباتها من الجيران، فإنها لا تتأخر في تقديم أي شيء يطلب منها. لكن تبقى هذه المسألة بسيطة مقارنة بما هو أدهى، وهو الأسرار الخاصة بكل بيت.

ولا يخفى على احد ما تحظى به هذه الأسرار من اهتمام بعض الجيران وفضولهم، بدءا من مراقبة كل صغيرة وكبيرة إلى محاولة معرفة كل المستجدات التي تدور بالداخل. ويبدو هذا الفضول واضحا على بعض الجارات اللواتي يحرصن على الاطلاع على كل التفاصيل، إذ يبدو من سلوكهن وطرحهن الأسئلة الخاصة وميلهن نحو الخوض في كل الأمور. وهذه النتيجة تكون في كثير من الأحيان وليدة العلاقات غير المنظمة بين الجيران، أو نتيجة «تكثيف الملح والبهار» على الأخبار التي قد لا يكون أصحاب الشأن أنفسهم على علم بها.

ففي حين يستحب أن تتوطد العلاقات بين عدد من الجيران ليصبحوا بمثابة العائلة الواحدة، مع الحفاظ على خصوصية كل طرف ضمن الحدود المقبولة، تخرج علاقات أخرى عن السياق الطبيعي لتتحوّل إلى علاقة مقلقة يصعب التحكم في نتائجها وإعادتها إلى وضعها السليم. والمقصود هنا ليس قطع هذه العلاقات تماما، بل تحديدها داخل أطر تحافظ على الغنى الذي يفترض أن تتمتع به علاقات كهذه.

«منذ انتقالي إلى بيتي اعتادت جارتي سوزان زيارتي بشكل مستمر من دون مواعيد مسبقة، ولا فرق بالنسبة لها بين الصباح والمساء، أو ما إذا كان عندي زوار أم لا. في البداية لم أكن أشعر بانزعاج، لكن بعد ذلك تكشّفت الحقائق أمامي».. هكذا تصف هدى بداية علاقتها بجارتها التي ما لبثت أن انقطعت بشكل شبه نهائي بعد اقل من ثلاثة أشهر، وتقول «أظهرت لي الأيام مدى عدم صحة هذه العلاقة الوطيدة التي تضع الأفراد من دون أن يدروا، في خانة خطر الانزلاق إلى دائرة الخصوصية. ولمست هذه النتيجة بعدما صرت أسمع شظايا أخبار المنزل على لسان الجيران الآخرين. رغم اني كنت شبه متأكّدة من عدم سوء نية سوزان في نقلها للأخبار في سياقها الصحيح، إنما التواصل الدائم مع الآخرين قد يؤدي إلى شيوع الأخبار عن قصد أو عن غير قصد».

تؤكد الأستاذة في كلية العلوم الاجتماعية حلا نوفل، على أهمية العلاقة الوطيدة والعائلية التي تنشأ بين الجيران، وتشير إلى تلك التي تبنى في الأرياف، حيث لا يمكن الحد من إمكانية التداخل الوثيق بين العائلات، تقول: «في المدينة حيث يبني الأفراد علاقات جديدة مع مجتمع مختلف عنهم، لا بدّ من أن تكون العلاقة بين الجيران مبنية على أسس جيدة و«رسمية»، أي تبادل الزيارات بين فترة وأخرى، خصوصا في المناسبات والأعياد مع المحافظة على حدود معينة تتحكم بهذه العلاقة، من دون أن يخوض أحد الأطراف في تفاصيل حياة الطرف الآخر».

وفي ما يتعلّق ببعض السلوكيات الخاطئة التي تصدر عن بعض الأشخاص في علاقاتهم مع جيرانهم، توضح نوفل: «هذا الأمر يحكمه بالدرجة الأولى المستوى الاجتماعي للعائلات، ففي حين يحرص البعض على قواعد محددة في بناء هذه العلاقة، ينجرف البعض الآخر في علاقته مع الطرف الآخر، لتصل في نهـاية المطاف، وإن كانت من دون سابق تصوّر وتصميم، إلى عواقب لا تحمد عقباها، وهي في معظم الأحيان شيوع الأخبار ونقلها من شخص إلى آخر لتصل بطريقة مشوّهة تسيء إلى أصحاب الشأن».

وفي حين تعتبر نوفل أن العادات السيئة التي تتحكم في طباع بعض الجارات كطلب المواد الغذائية هي حالات استثنائية ووجودها محدود في المجتمعات، لكنها تشير إلى عادات أخرى لا يخلو منها حي أو مبنى، مثل مراقبة الآخرين ونقل أخبارهم بعد تفسيرها وفقا لمزاجهم. وللحد قدر الإمكان من مساوئ هؤلاء تقول: «لا بد من وضع حدود للعلاقة مع هؤلاء الأشخاص بطريقة مهذبة، ولا مانع من قطع العلاقة معهم نهائيا وعدم الاهتمام بهم إذا لم تجدِ الطريقة الأولى نفعا».