البحث عن «بنت ناس»

في المغرب ومصر.. كلما حضر الجاه والمال تغيرت مفاهيم زوجة المستقبل

يختلف مفهوم «بنت الناس» من طبقة إلى أخرى ومن جيل إلى آخر بسبب تغيرات الحياة وإيقاعها
TT

في أحد مقاهي حي «المهندسين» بالقاهرة، جلس ثلاثة أصدقاء من أعمار مختلفة يحددون ملامح زوجة المستقبل، قال واحد منهم بحماس:«عايز اتجوز بنت ناس جدعة ومحترمة» بينما قال الثاني انه يريد «بنت ـ ستايل ـ بنت ناس ترتدي أحدث موضة.. يعني عايز ادلع»، أما الثالث فقال بثقة:«نفسي اختار واحدة بنت ناس وعائلة ونسب يشرف».

ورغم اختلاف تفاصيل المواصفات، إلا ان صفة «بنت ناس» كانت هي القاسم المشترك بين ثلاثتهم، مما يطرح عدة أسئلة:«ماذا تعني بنت ناس»؟ وما الفرق بين «بنت الناس» التي رسمت ملامحها ببراعة فاتن حمامة وزكي رستم في فيلم حمل الاسم نفسه في خمسينات القرن الماضي، وبين بنت الناس هذه الأيام؟.

وكانت النتيجة طريفة ومتنوعة، فهي إما فتاة محترمة، وإما يعمل والدها في وظيفة مرموقة أو تنتمي لعائلة عريقة، كما انها بالنسبة للبعض البنت التي تقف مع زوجها في الشدائد.

لمزيد من التحديد، كان لا بد من البحث عن أصل المصطلح والعودة لجذوره. يقول الدكتور عبد الغني محمود عبد العاطي عميد كلية الآداب الأسبق بجامعة المنصورة ان «بنت ناس يعود أصلها إلى مصطلح آخر عرفته مصر المملوكية وهو «ولاد الناس» وسمي به أبناء الملوك والسلاطين والأمراء، أي الجيل الثاني من المماليك ممن ابتعدوا عن الحروب ولم يمسسهم الرق، وشكلوا بمرور الزمن طبقة لها ملامحها، واندمجوا في المجتمع المصري حتى أصبحوا جزءًا منه وبرز منهم بعد ذلك مشاهير مثل المؤرخ «ابن تغربردي».

ولفت عبد العاطي إلى أن نساء هذه الطبقة الوليدة كن لفترات طويلة موضع حسد المصريات لما تمتعن به من ثروات و«بحبوحة» في العيش، وكانت الواحدة منهن «فتاة أحلام» ـ إذا جاز الوصف العصري ـ لقطاع كبير من العامة».

وحسب تأكيد الدكتور شلبي الجعيدى، أستاذ تاريخ العصور الوسطى، فإن التسمية لها جذور طبقية وسياسية. فكأي طبقة مميزة عاشت «بنات الناس» حياة لها ملامحها الخاصة: كن يتلقين تعليما خاصا في البيوت، بعكس عامة الشعب الذين كانوا يتوجهون إلى الكتاتيب، كما كانت «الحمامات» الشعبية مكانا مفضلا لتجمعهن بصفة منتظمة وهو الدور الذي تلعبه النوادي الاجتماعية الراقية الآن كمقر لتداول الأخبار والنميمة وربما طلبات الزواج. وبمرور الوقت تمايزت حياة «بنات الناس» بشكل أكثر فكانت حفلات زفافهن تستمر لأيام، بالإضافة إلى المغالاة الشديدة في مهورهن. وأشار الجعيدي إلى أن هذا الرغد من العيش الذي عاشت فيه «بنات الناس» لم يستمر على الدوام، حيث تدهورت أحوالهن في أواخر العصر المملوكي وانقطعت «الجوامك»، وهي مخصصات مالية من الدولة ، فزاد اندماجهن بالشعب وإن أعطاهن إرثهن العائلي رصيدا اجتماعياً مميزا. المثير أن «بنات الناس» لم يسلمن من سخرية المصريين رغم تطلعهم إلى الاقتران بهن، فذهب البعض إلى وصفهن بأنهن «ولا ناس» أي بلا أصل معروف لأنهن بنات عبيد. ومع ذلك ظلت عبارة «بنت الناس» بمثابة مصطلح عابر للقرون مع تغير مدلولاته من وقت لآخر ومن بيئة لأخرى. فبالمعيار الطبقي ظل لصيقا ببنات الطبقة الراقية الثرية، وخلال النصف الأول من القرن الماضي كانت «بنت الناس» هي بنت الطبقة الأرستقراطية التي تتحدث الفرنسية، وتذهب لنادي «الجزيرة» وتقضي الصيف في الإسكندرية، وتنتمي لأب يحمل لقب «بك» أو «باشا» إن لم تكن جزءاً من أفراد أسرة محمد علي الحاكمة حتى عام 1952.

طبقيا ظلت ملامح «بنت الناس» مقترنة بالثراء، فبحسب وصف عمار الحديدي وهو طالب إعلام بجامعة مصر الدولية:«هي الفتاة التي تدرس بإحدى الجامعات الخاصة أو الأجنبية أو البرامج الخاصة بالجامعات الحكومية، ترتدي ملابسها من الماركات العالمية، تسهر في أماكن راقية أو تعمل في شركات أجنبية وتتحدث عدة لغات، كما تقضي نزهتها في الساحل الشمالي، وتكون ضيفة دائمة على حفلات الطبقة المخملية وتتصدر صورها صفحات المجلات الاجتماعية».

رؤية عمار البرجوازية «لبنت الناس»، أكدت عليها دراسة مهمة لباحثة مصرية هي غادة برسوم، التي أجرت بحثا حول فرص العمل المتاحة للفتيات المصريات في السوق المصرية وشروط التوظيف، ونالت عنه درجة الماجستير. فخلال لقاءاتها مع رجال الأعمال كان مفهومهم عن «بنت الناس» هي الفتاة التي «ترتدي ملابس فخمة ولا تصبغ شعرها بالأوكسجين وتضع ماكياجا وفق آخر صيحة». محمد نجيب الكشكي، صحافي بدار التعاون، يتحدر من صعيد مصر، قدم رؤية مختلفة تماما، حيث أشار إلى أن بنت الناس في نظره تعني «بنت الأصل» والأصل يعني بالنسبة له عراقة عائلتها قبلياً.

واستبعد الكشكي المعيار المادي في حكمه على الفتاة، مشيرا إلى أن عراقة النسب هي الأهم بحسب ثقافة الصعيد المتأثرة إلى حد كبير بقيم الجزيرة العربية.

وبعيدا عن النسب والمادة، قدم سيد إبراهيم وهو بائع متجول للأقراص المدمجة بمنطقة العتبة الشعبية بوسط القاهرة تعريفا مغايرا، فقال «هي بنت الناس الطيبين التي تقف بجانبي في وقت الشدة».. تعريف بسيط ناتج عن رصيد هائل من «الجدعنة» الشعبية، ربما تراه تلك الطبقات تعويضا عن صعود اجتماعي بات شبه مستحيل. لكن مع ذلك يظل مصطلح «بنت الناس» حيا، قادرا على أن يمنحنا نفسه كل يوم بشكل جديد من المشرق إلى المغرب الاقصى، حيث يوجد (م. حميد) وهو شاب في الثلاثين من العمر، يلح على أصدقائه وأقربائه في أن يساعدوه في «العثور» على «بنت الناس» التي تقاسمه حلو الحياة ومرها.

وحميد موظف في إدارة عمومية. وهو، بإلحاحه هذا، لا يفعل أكثر من تكرار سيناريو زواج سبقه إليه صف طويل من الشبان المغاربة. ففي غالب الأحيان، يكون نفس الأصدقاء، طلبوا، في أوقات سابقة، مساعدة أصدقاء أو أقرباء لإيجاد «بنت الناس». وكغيره من الشبان المقبلين على الزواج، يبدو تعبير «بنت الناس» بالنسبة إلى حميد وصفاً سحرياً، يلخص لمواصفات خاصة، يتحدد من خلالها «الشكل العام» لزوجة المستقبل. يقول موضحا:«ليس شرطاً أن تكون «بنت الناس» ذات جمال صارخ. المهم أن تكون متفهمة وذات أصل وتربية حسنة، وبالتالي متفهمة ومتفانية وتقدر الحياة الزوجية، وأن تكون صبورة وتقدس الحياة الزوجية.

ويقول (و. سعيد)، وهو أستاذ جامعي، في حديث لـ«الشرق الأوسط» إنه «مع التحولات الكبيرة التي عرفتها حياة المغاربة، تزايدت الحاجة إلى «بنت الناس»، التي يستطيع الشاب أن يعتمد عليها لبناء عش الزوجية من دون مشاكل وتعقيدات، خصوصاً مع «التخوفات» التي صار يطرحها القانون المنظم للأسرة».

ولا يجد سعيد فرقاً كبيراً بين معنى «بنت الناس»، كما عرفه الآباء، وكما يعرفه أبناء اليوم، «فنفس التحديدات تتكرر، حيث نكون مع الجمال المقبول والتفهم والصبر»، غير أن سعيد يستدرك، قائلاً «هناك معطى واحد تغير، ويرتبط بخروج المرأة إلى ميادين العمل، مما أدخل مقياساً آخر لاختيار «بنت الناس»، المتمثل في أن هناك من يفضلها عاملة، ومن يفضلها ربة بيت تسهر على تربية الأبناء عن قرب. غير أن طبيعة السلوكيات التي تحدد التفهم والصبر وتقاسم أعباء الحياة الزوجية ومشاكلها قد لا يؤثر فيها عمل المرأة، فيمكن أن تكون الزوجة عاملة وفي الوقت نفسه صبورة ومتفهمة، كما يمكن أن تكون ربة بيت وتصل مع زوجها إلى الطلاق، بعد جملة من المشاكل والمشاجرات، التي تجعل الشاب يكره اليوم الذي فكر فيه بالزواج».

ويحلو للمغاربة أن يرددوا مع فنانهم المفضل، عبد الهادي بلخياط، أغنية «يا بنت الناس»، وهي أغنية جميلة، تتردد على شكل مناجاة وخطاب يتوجه به شاب مغربي إلى الفتاة التي تعلق قلبه بها، يقول له فيها «يا بنت الناس أنا فقير ودراهم يومي معدودة، إنما عندي قلب كبير...».

ويبدو أن هذه الأغنية توفقت كثيراً في تحديد التعريف وإعطاء وصف «بنت الناس» إطاراً عاماً ووصفاً مشتركاً بين جميع المغاربة.

ومن الأشياء الأساسية التي يشير إليها وصف «بنت الناس» أو «ولد الناس»، في غالب الأحيان، أن «الولد» و «البنت»، غالباً، ما يتحدران من أسر فقيرة أو متوسطة الحال، وبالتالي يكون هاجسهما الأكبر هو «الستر» والتأقلم المشترك مع الحياة البسيطة، التي تتطلب قناعة وصبراً متبادلاً وتضحية ونكراناً للذات، في سبيل الزوج أو الزوجة والأبناء والعائلة.

فالملاحظ عموما أنه كلما حضر الغنى والمال والمستوى الاجتماعي في سياق البحث عن الزوج أو الزوجة، تراجعت الحاجة لـعبارة «بنت الناس» أو «ولد الناس». وهكذا، فعوض «بنت الناس» أو «ولد الناس»، نصير مع «سليلة الحسب والنسب» أو «سليل الحسب والنسب»، ومن تم تتراجع مفردات «الصبر» و«التفهم» و«التضحية» و«نكران الذات» لصالح مفردات تتلاءم مع المستوى الاجتماعي وتتمحور حول «فوائد المصاهرة بين العائلات الكبيرة».