«البارافان».. حافظ أسرار الشرق

وُلد عربيًّا.. وشبَّ فارسيًّا.. واشتهر عالميًّا

TT

أصله عربي لا غبار فيه، فقد كانت البيوت في شبه الجزيرة العربية تحرص على وجود قاطع متحرك من الخشب يحجب الموجودين بالمنزل عن عيون المارّة في الشارع، إذا كان الباب مفتوحًا، كذلك الأمر بالنسبة إلى غرفة النوم التي كانت تُقسَم بفاصل متحرك من الخشب أو من السعف، حتى يتوافر في الغرفة مكان للعبادة والصلاة، كما كان يُفصَل في المساجد ومجالس العلم بين الرجال والنساء به. هذا هو أصل «البارافان»، الذي أصبح يُعَدُّ اليوم قطعة ديكور جميلة، تتعدد وظائفها وتتنوع، في البيوت والمسارح والمكاتب والقاعات، ونسي معظم الناس أصلها وجذورها. ورغم أن أصلها عربي، فإن مولدها الحقيقي كان في إيران مع دخول الإسلام بلاد فارس، حيث عرفت تطورات كثيرة على شكلها.

إن «الفاصل» أو «القاطع»، كما أطلق عليه العرب، شبّ عن الطوق بأيدٍ فارسية، بحسب مصمّم الديكور عمرو جبل، حيث اقتبس الفرس عادات عربية كثيرة، وتأثروا بها في أنماط المعيشة، ومن بين الأشياء التي أُعجبوا بها «الفواصل والقواطع»، التي أطلقوا عليها «بارافان». ومن إيران انتشرت في العالم كله، كقطعة ديكور قيِّمة تؤدِّي وظائف عديدة داخل المنزل.

ولفت المصمم جبل إلى أن الإيرانيين أبدعوا في صنعه، وأسهبوا في التفنن فيه، مثله مثل المصنوعات الخشبية التي تميزوا بها، كالأثاث و كراسي المصحف الخشبية، بالإضافة إلى الأبواب والمحاريب.

وتتمّ زخرفة هذه التحف الخشبية المتنوعة بطرق عديدة، منها «الحفر»، وقد يكون عميقًا في الخشب، ومن الممكن أن يكون بارزًا، كما يطعَّم الخشب بحشوات صغيرة من موادّ أغلى، كالعاج والعظم والأبنوس.

وتُعتبر بداية القرن التاسع عشر الهجري هي الفترة التي عرفت فيها صناعة الخشب قمة ازدهارها في إيران. ومن أبرز الأماكن الشهيرة بصنع الخشب عمومًا، والبارافانات بشكل خاص، إقليم مازندران، المشهور بغاباته الواسعة وأخشابه الثمينة. فهناك عُثر على تحف خشبيّة ثمينة، من بينها لوح خشبي متحرك هو أشبه بالبارافان، يحتفظ به متحف الفن الإسلامي ببرلين الغربية، وقوام زخرفته عناصر نباتية من فروع متموجة ومتشابكة ذات أوراق نباتية وزهور دقيقة.

يقول جبل «لا يوجد مكان في المنزل لا يقبل هذه القطعة، حتى الحدائق، أيضًا بجوار حمامات السباحة، كي يكون المكان ملائمًا لتغيير الملابس».

يؤدِّي البارافان دورًا مهمًّا في الغرف الصغيرة والواسعة على السواء، فمن الممكن أن يتمّ استخدامه كقطعة ديكور في غرفة صغيرة ليفصل بين ركنين في غرفة واحدة، ونجده أيضًا في القصر الكبير، كقطعة زينة، تزيده جمالا ورُقِيّا.

وبحسب جبل، فإن البارافان وسيلة حية للتغلب على الكثير من مشكلات المساحة، أو إضافة جوّ من الخصوصية على المكان، إذا كانت القطعة نتاج عمل يدويّ ومطعَّمة بموادَّ غالية الثمن، كما يمكن أن تغطَّى بالجلد في المكاتب وقاعات العمل، فتضيف على المكان خصوصية من نوع آخر.

لهذه القطعة كذلك سحر يستمدّ جذوره من أساطير التراث الشرقي، فبين صفحات حكايات ألف ليلة وليلة، كانت تختفي خلفه السيدة الجميلة، ولا يظهر لنا منها سوى ظلها أو صوتها، ومن قصص التراث انتقل إلى المسارح ليتخطى آفاقًا أرحب.

وتتنوع الأخشاب التي يُصنع منها، وتتفاوت قيمتها، فهناك، مثلا، أخشاب ثمينة وطبيعية، وأخرى رخيصة ومقلَّدة، وأيضًا هناك البارافان المطعَّم بالفضَّة والأصداف، وأحيانًا بمعادن أقل ثمنًا، فضلا عن المصنوع من البامبو والخيزران، والزجاجي الذي يسمح بنفاذ الضوء، ولكن لا يشي بما خلفه، وهناك البارافان الحريري الذي يلائم غرف النوم. ويوصي عمرو جبل بمراعاة شخصية المنزل عند اختيار هذه القطعة، فمن غير اللائق أن يكون المنزل ذا طابع عصري، ويقتني صاحبه بارافانا مطعَّمًا بالأصداف، والعكس بالعكس. كما يجب الاعتناء به، حتى لا ينقلب الجمال قبحًا. لهذا، يجب تنظيفه يوميًّا من الغبار، لأنه قطعة جاذبة للنظر، كما يجب الحرص على وضعه في مكان لا يعوق حركة السير، حتى لا يكون عرضة للتلف والكسر، مع العلم بأن بعض البارافانات يمكن تثبيت أرجلها في الأرض، وهذا النوع غير عملي، لأن البارافان قطعة تحتمل أن تُستخدم في أي مكان، حسب الحاجة.

ولا يمكن الحديث عن أشكاله المبتكَرة وألوانه الزاهية، دون الحديث عن الأشكال الآسيوية، القادمة إلينا من الصين أو اليابان، فهي تتميز بأشكال تحمل لوحات زيتية عديدة، تشكّل في مجملها تحفًا فنية راقية، لكن سواء كانت من مصر أو إيران أو منطقة الخليج أو اليابان، فإن البارافان، يجمع بين الجمال والعملية، في المساحات الصغيرة على وجه الخصوص، ومع مرور السنين، تزيد جمالياته، إذا كان من الخشب الأصيل والمترف. وليس بالمستغرَب أن يكون عبارة عن لوحة إضافية متنقلة، في أي بيت، تضفي على أي ركن من أركانه الخصوصية المطلوبة.