جلود بخفة الحرير.. والأسود متسلط في معظم العروض

«لويفي» تعيش عصرها الذهبي في عهد ستيوارت فيفر.. وجون بول غوتييه تصاميمه تكشف المستور وتغطيه

TT

الأسود كان «سي السيد» في اليوم الرابع من أسبوع باريس، حيث جاء متسلطا في عرض الياباني يوجي ياماموتو، متسلطنًا في عرض دار «لويفي» وقويا في عرض جونيا واتانابي، وحسيا في عرض جون بول غوتييه. إلى جانب الأسود، تميزت تشكيلة يوجي ياماموتو أيضا بالتصميمات الواسعة والمنسابة، مع العلم بأنها ليست جديدة عليه، لكونها جزءا من أسلوبه الذي أكسبه لقب أبي الصرعات في اليابان، وفي عيون عشاقه من أمثال المغني البريطاني إلتون جون. المعاطف مثلا جاءت كالعادة طويلة، أحيانا بياقة من جانب واحد، بينما لف الفساتين بعدة طيات وتقنيات فسرت لماذا يحبه الفنانون على وجه الخصوص والشباب. في تشكيلة جونيا واتانابي، غلب الأسود أيضا، لسبب مفهوم، فالموضوع هنا كان قائما على قصتين تراجيديتين، هما «توسكا»، و«مدام باترفلاي» لبوتشيني، ونحن نعرف أن البطلتين ماتتا حبا وانتحارا، مما يجعل الأسود الكئيب اللون البديهي والمتوقع. أرسل واتانابي عارضاته في فساتين طويلة بأحجام كبيرة وفساتين ومعاطف مصنوعة بالنفس الطريقة التي يصنع منها المفارش السميكة. الياقات كانت عالية، والأكمام مطوية مثل الأجنحة، وكأن الأسود لا يكفي. أصر المصمم ألا يترك المجال لأي جزء من الجسم بالظهور، حيث استعمل كل الإكسسوارات المتاحة للتغطية، بدءا من الشعر المستعار إلى القفازات. تحت هذا الجنون الفني الذي يخاطب شرائح معدودة، كانت هناك تقنية يتقنها واتانابي جيدا، وهي «الدرابيه» والبليسيهات المتعددة التي خلقت نوعا من التوازن في الحجم. ليس غريبا بعد هذا الجنون الفني والسريالية العالية في التصميمات، أن يشعر المرء في عرض «لويفي» الدار الإسبانية العريقة وكأنه وصل إلى واحة من الجمال، أصبح بإمكانه أن يلتقط فيها أنفاسه ويمتع عينيه بتصميمات تجمع بين الابتكار من حيث التقنيات والكلاسيكية من حيث القصات والأقمشة. «لويفي» تعيش حاليا عصرها الذهبي، وإذا عرف السبب بطل العجب، فالدار التي تملكها حاليا مجموعة «إل.في.أم.آش»، ويعود تاريخها إلى أكثر من 160 عاما، يقودها الآن مبدع يتمتع بلمسة فنية تعرفها كل أوساط الموضة، هو ستيوارت فيفر، الذي سبق له العمل مع كالفين كلاين، وبوتيغا فينيتا، وجيفنشي، ولوي فيتون، ومالبيري. وربما تاريخه مع هذه الأخيرة هو الذي تذكره الأنيقات، فهو الذي حول مسار الدار من مجرد اسم بريطاني محلي إلى اسم عالمي، خصوصا بعد أن سلط الأنظار إليها بحقائبه التي بيعت منها الملايين، وما علينا إلا أن نتذكر حقيبة «روكسان» الشهيرة.

«لويفي» من جهتها ظلت طويلا اسما لا يعرفه سوى قلة، لكون هذا الاسم من أسرار الطبقات المخملية، لكن كان لا بد لها أن تصبح جزءا من العولمة، وأن تقتطع لها نصيبا من الكعكة، لكن المشكلة أنها عندما أرادت توسيع فضائها ودخول عالم الموضة العالمية، ضلت الطريق إلى أن أخذ ستيوارت بيدها، وقادها إلى بر الأمان بعد التحاقه بها في بداية عام 2008. ورغم أنه قدم أول تشكيلة له للدار الإسبانية لخريف وشتاء 2008 منذ أكثر من سنة، إلا أن كل العروض التي قدمها قبل الآن كانت عبارة عن عروض صغيرة، وتعتبر هذه المرة الأولى التي يعرض فيها أمام وسائل الإعلام بشكل واسع في أسبوع باريس. والحقيقة أنه لم يضاهِ حجم الترقب الذي ساد المهتمين، سوى حجم الضغط عليه، لكي يقدم شيئا مميزا، لكنه كان عند حسن الحظ، فقد أعادنا إلى أيام «شانيل»، و«ديور»، المؤسس، وغيرها من بيوت الأزياء، حين كانت تقدم عروض الأزياء في صالونات، تجلس فيها الزبونات معززات مكرمات حول طاولات، عوضاً عن مدرجات، وهو الأمر الذي رحب به كل الحضور بعد يوم طويل من الركض بين شوارع باريس. ومع نزول أول عارضة من السلالم، تم التأكد بأنها تشكيلة تحمل في طياتها الجديد، مع احترام ثقافة الدار الإسبانية العريقة وإرثها، فقد بدأها بتايور مكون من جاكيت، مزج فيه الجلد الناعم بالكشمير، وتنورة من الجلد المخرم بالليزر، وحزام حدد الخصر، وأضفى على الإطلالة جاذبية وأنوثة، ثم توالت قطع متنوعة من الجلود التي تحولت على يديه إلى حرير ناعم، سواء كانت على شكل معاطف، أو فساتين سهرة وكوكتيل، أو تنورات واسعة أو مستقيمة. ولأول مرة يمكن القول إن فساتين من الجلد اكتسبت أنوثة وكلاسيكية رائعة، وتخلصت من إيحاءاتها التقليدية. لم يكن الجلد هو القماش الوحيد الذي لعب عليه ستيوارت، حيث كان هناك التويد والصوف والفرو والقطن، من خلال قمصان نسقها مع تنورات للعمل، فضلا عن الكشمير. والتقنيات التي استعملها لتنعيم الشامواه والجلود كانت ضربة معلم، خصوصا أنه تمكن من استعمالها ببليسيهات عريضة تتحرك مع كل حركة، وتمنح لابستها الكثير من الأناقة والعصرية. وفي بعض الأحيان أضاف إليها مخرمات جعلتها تبدو وكأنها دانتيل. مِثْل واتانابي وياماموتو، استعمل فيفرز الأسود بكثرة، حتى يبرز جمال الخامات المستعملة، إلا أن أسوده جاء ناعما، بعيدا عن الصرامة والكآبة التي أصبغها المصممون الآسيويون عليه، فيما كانت الألوان المتوهجة، مثل الأزرق والأصفر، إضافة مثيرة في يوم غلبت عليه القتامة. صحيح أن كل قطعة كانت تغطي على سابقتها، وصحيح أيضا أنها تشكيلة ستلقى لها مشتريات، ولن تجد صعوبة في دخول أي خزانة أنيقة، إلا أن الإكسسوارات هي التي ستحقق الربح بلا شك. فالحقائب مكمن قوة المصمم الشاب، وأكد في هذه التشكيلة أن وهجها قد يخف بسبب الأزمة الاقتصادية وعزوف المرأة عن شراء أعداد كبيرة منها في كل موسم، لكنها عندما تكون بهذا الجمال، فإنها حتما تضعف أي مقاومة.

اليابانية تسوموري تشيساتو، لحسن الحظ تحب الألوان، وإلّا لما انضمت إلى لائحة باقي المصممين اليابانيين المهووسين بالأسود. قدمت تشكيلة مرحة وحيوية، وكأنها سيرك من الرسومات المتألقة التي جسدت فيها النجوم والسماء في ليلة مقمرة من ليالي مسقط رأسها، طوكيو، على جاكيتات بِطَيَّات، إلى جانب برج إيفل الذي رسمته على فستان أيضا بثنيات متعددة. بعد أن سُئِلَتْ على هذا الكم من النجوم المتلألئة على تصميماتها؛ ردت أنها استلهمتها من ناطحات سحاب طوكيو، ومن أجواء أستراليا وألوانها، بعد رحلة قامت بها إليها. أما عما إذا لم تكن خائفة من ألا تبيع تشكيلتها في وقت أصبح فيه الكلاسيكي والمضمون هو المطلوب؛ ردت بلا مبالاة وبنبرة فلسفية أنها تبدع كما يحلو لها، وأن الأزمة آخر هَمّها عندما تنكب على العمل. ويبدو أن شقي الموضة الفرنسية، جون بول غوتييه، يشاركها الرأي نفسه، بتقديمه تشكيلة يمكن القول إنه لعب فيها على أن الجنس والمال هما ما يحركان العالم من خلال قطع جريئة للغاية تكشف المستور وتغطيه في الوقت ذاته، وكأنها تلاعب النظر وتدغدغ الحواس، كما قال المصمم بعد العرض. ظهرت عارضاته وهن يختلن، ثم يتوقفن، وكأنهن في حانة ليلية، أو في بيت «سيئ السمعة»، في فساتين غلبت عليها الكثير من المخرمات والفرو، الأمر الذي فسر وجود حشد من المناهضين لاستعماله خارج مسرح العرض، حاملين لافتة تدينه، وتدين كل من يستعمله ويلبسه. لكن على ما يبدو.. فهم في وادٍ، وغوتييه في وادٍ آخر، تماما مثلما هو غير مبال بالأزمة المالية. كانت هناك قطع أخرى قد تكون كلاسيكية في مفهومها، مثل المعاطف والفساتين، لكنها عنده تحولت إلى أداة إثارة، مثل معطف المطر، الذي يظهر من تحته فستان بثلاثة أحزمة متراصة فوق بعضها البعض، لتذكرنا أنه يعشق الكورسيهات، ومن أكثر مَنْ استعملها وباعها لنا. المهم أن امرأته لخريف وشتاء العام المقبل مفعمة بالأنوثة والقوة مع بعض النعومة في الوقت ذاته. وهذا ما تلاعب عليه من خلال الأقمشة المتناقضة أيضا، إلا أنها أيضا تريد أن تعيش الفانتازيا، لا أن تقضي وقتها تتحدث عن الأزمة المالية وما شابهها من أحزان ومشاكل. امرأة لا يهمها المال من أجل الحصول على بغيتها، أو عمل أي شيء للحصول على المال، كما بينت عارضة ظهرت في فستان رسم عليه المصمم أوراق نقدية، وتنثر دولارات على الأرض.

فلسفة بلا شك لا يشاركه فيها معظم المصممون المشاركون في هذا الأسبوع، الذين كانوا يتبارون في تقديم المبتكر الذي يبيع. فالمصمم حاليا لا يمكن أن يضمن مكانته ووظيفته، إذا لم يحقق الربح المادي للمجموعة التي ينضوي تحتها، بتسهيل عملية بيعها بأي طريقة، سواء كانت هذه الطريقة هي الابتكار، أو الفنية، أو الكلاسيكية..المهم أن تجد طريقها إلى المحلات؛ ومنها إلى خزانات الأنيقات.