الرجل.. بين الوفاء والنسيان

«أعزب دهر ولا أرمل شهر»

TT

منهم من يقسم على الوفاء لزوجته المتوفاة طوال العمر ويرفض الزواج من ثانية، وينفّذ ما وعد به مهما طالت السنوات، ومنهم من يعلن ذلك جهاراً لكنه يكون في قرارة نفسه متشوقاً للارتباط من جديد، فلا ينتظر مرور الأربعين، أو على أبعد تقدير شهور قليلة، حتى تسمع أنه ارتبط بأخرى تملأ عليه وحدته وتعيد إليه شبابه، مطبقاً المثل اللبناني الذي يقول «أعزب دهر ولا أرمل شهر».

حالات مختلفة ومتعددة تجتمع تحت سقف هذا المجتمع المتناقض بحلو العلاقات ومرّها. ففي حين يعطي بعضها، صورة ناصعة تعكس متانة الحب الذي لا يصعب نسيان ذكرياته ولو بعد حين، تبدو التجارب الأخرى وكأن الارتباط العائلي لا يعدو كونه علاقة سطحية لا يفرض على الرجل حداً أدنى من الوفاء لامرأة أمضى معها سنوات وأنجبت له فلذات أكباده. ينتظر ما لا يقل عن السنة ويخطو خطوته بإدخال ربّة جديدة إلى البيت، الذي اعتادت أرضه وطء خطوات أخرى. يبرر البعض الأمر بكون الرجل يختلف عن المرأة، فبينما تنذر هي حياتها، بعد وفاة زوجها، لتربية أولادها رافضة الارتباط مرة ثانية، راضية بقضاء الله وقدره، ينهزم الرجل، ولا ينجح في القيام بدور الأب والأم معاً ويحتاج إلى من يتحمّل معه هذه المسؤولية. وجهة النظر هذه وإن كانت عامة في الأوساط اللبنانية التي يجد أفرادها أحكاماً تخفيفية للرجل، يرفضها البعض سائلين عن الفرق بينه وبين الزوجة التي ترفض الزواج بعد الترمل، وإن كانت في عز الشباب. لم يستطع محمد الانتظار أكثر من ثلاثة أشهر على وفاة زوجته ليبدأ البحث عن عروس تشاركه حياة زوجية للمرة الثانية. وعندما وجدها لم يرض إلا أن يغير ديكور بيته ويجدّد ما لم يمض على تأثيثه خمس سنوات، وهي المدة التي أمضاها مع زوجته قبل أن تغادر هذه الدنيا، تاركة له ابنتين، الصغرى لم تتجاوز عامها الأول والكبرى تخطو أولى خطواتها باتجاه رحلتها المدرسية. لم يعكس هذا الواقع ما كان يعلنه محمد في الأيام الأولى لوفاة زوجته، لأن الصورة التي كان يظهر بها والمواقف التي أعلنها كانت متناقضة تماماً مع ما أقدم عليه. فقد ضرب بكل ما من شأنه أن يفرض عليه على الأقل احترام ذكرى زوجته الشابة التي كان لا يكف عن مدحها وتعداد فضائلها وصفاتها الحميدة، عرض الحائط، ولم ينتظر مرور سنة على رحيلها لكي يرتبط بأخرى. تبريره كان طبعاً «ضرورة وجود امرأة تهتم بابنتيه لأن الحياة في النهاية يجب أن تستمرّ». يعلق أستاذ علم الاجتماع، الدكتور عبدو قاعي على الظاهرة بقوله: «لأنه ليست هناك قاعدة عامة من الممكن تطبيقها على حالات كل الأزواج بعد وفاة زوجاتهم، يمكن القول إن الرجل الذي يقدم على الزواج بعد فترة قصيرة لا تتجاوز الأشهر القليلة من وفاة زوجته، لم تكن العلاقة التي تربطه بها متينة ومبنية على حب، لأن الموت الجسدي من الصعب أن يلحق به الموت الروحي بعد فترة قصيرة. كما أنه من الصعب على طرفي الزواج المتين، الذي يحكمه الحب والوفاء، أن يبدآ علاقة جديدة ليس فقط بعد وقت قصير، لكن حتى بعد سنوات طويلة».

في حالة معاكسة لتلك التي عاشها محمد، بقي أبو خالد قريباً من زوجته المريضة 8 سنوات قبل أن ترحل عن الحياة، ولا ينكر شعور الحاجة إلى الزواج الذي انتابه في المرحلة الأولى بعد فراق زوجته نظراً إلى إحساسه بالوحدة، ولكنه يقول «بعد فترة حلّت العقلانية مكان العاطفة وبدأت أفكّر جدياً في أبعاد هذه الخطوة، وأهمها أن اختيار الشريكة يتطلّب شروطاً عدة ولا سيما التجانس من كل النواحي، من دون أن ننسى دخول احتمال المقارنة بين الزوجة الأولى وتلك التي سأرتبط بها. كل هذه العوامل مجتمعة جعلت حماستي للزواج ثانية، تتضاءل يوما بعد يوم». ويتابع: «هناك عامل آخر مهم لعب دوراً في عدم إقدامي على هذه الخطوة وهو أنني كنت أفكر دائماً في أولادي. رغم أنهم كانوا مقيمين في الخارج، باستثناء أصغرهم الذي عاش معي ثلاث سنوات قبل أن يتزوّج، كانت فكرة ابتعادهم عني عاطفياً بعد زواجي، وتغيّر طبيعة العلاقة التي تربطني بهم بعد أن تدخل امرأة غريبة إلى حياتهم، تزعجني. كنت أشعر بأنهم سيصبحون بمثابة ضيوف في البيت الذي ترعرعوا فيه، مما جعلني أرجئ فكرة الارتباط مرة ثانية إلى حين يتزوّج كل أبنائي وينتقلوا إلى العيش في بيوتهم. أما الآن وبعد مرور حوالي تسع سنوات على وفاة زوجتي، لا أستبعد فكرة الزواج تماماً ولكنني على اقتناع تام بأن هذا الأمر مرتبط بالظروف المناسبة ولقائي بامرأة أشعر معها بأنها الإنسانة المناسبة». ويعتبر قاعي أنه «في حالات قليلة من الممكن أن تكون الظروف الاجتماعية لا تساعد الرجل كثيراً، لا سيما إذا كان لديه أولاد ولا يوجد من يعتني بهم، فعندها قد يقدم على هذه الخطوة إذا وجد شريكة ملائمة تستطيع تولي هذه المسؤولية، وفي هذه الحالة يبدأ الزواج عقلانياً ويتحوّل في ما بعد إلى عاطفي».

وعن ارتفاع نسبة إقدام الأزواج على الارتباط بعد وفاة زوجاتهم مقارنة بالنساء، يقول: «أهم هذه الأسباب هي أن الرجل في المجتمع الشرقي يملك قدرة الاختيار أكثر من النساء، إذ إن الكلمة له والجاذبية لها. كذلك فإن حكم المجتمع على المرأة قاس وأصعب من حكمه على الرجل». ويعتبر قاعي أن «العوامل النفسية لدى الرجل تلعب دوراً في هذا الموضوع وهي أن حاجته البيولوجية تشعره بأنه قادر على إقامة علاقات حتى سن متقدمة أكثر من المرأة».