أخيرا.. لندن تضحك كثيرا

أسبوعها يشعل العاصمة نارا وابتكارا معلنا للعالم أن عوده اكتمل

TT

هناك مثل إنجليزي يقول إن «الانتقام طبق يستحسن تقديمه باردا» كما أن هناك مثلا آخر في كل الثقافات مفاده: «يضحك كثيرا من يضحك أخيرا». ولا يمكن للمرء، وبالذات المتتبع لأحوال الموضة هذه الأيام، إلا أن يسقط ما يتضمنه المثلان من معان على أسبوع لندن. فقد ظل هذا الأخير طويلا بمثابة ابن العم الفقير لباقي عواصم الموضة العالمية، تتجاهله وسائل الإعلام ولا تتوقف عنده المشتريات، بحجة أن برنامجهن مكثف ولا يساعدهن على حضوره، ملمحات إلى أنهن يعرفن النتيجة مسبقا، وهي أن الأزياء التي تعرض فيه قد تكون مبتكرة إلى درجة إحداث الصدمة أحيانا، لكنها تبقى صعبة التسويق. على العكس منها ظلت نيويورك دائما وفية لروحها «الاسبور» كلاسيكية مما يجعلها مدعومة بقوة. كذلك الأمر بالنسبة لكل من ميلانو وباريس، المعروفتين بأسلوبهما المثير والراقي الذي يجمع بين العصرية والكلاسيكية.

وهكذا ظلت العاصمة البريطانية مرتبطة بالجنون والابتكار الذي لا يبيع، فضلا عن أن شح إمكانياتها المادية وقلة الدعم لم يساعداها كثيرا في بعض المراحل من تاريخها الذي يمتد إلى 25 سنة. الأدهى من هذا أنها وأبناءها، ولوقت طويل، لم يستوعبوا الدرس والحاجة إلى التوفيق بين التجاري والفني، حيث كانوا يردون على هذا التجاهل والجفاء بالمزيد من الابتكار، وبرفع شعار الجنون فنون، الأمر الذي لم يفدها في البداية، لكن نتائجه الإيجابية بدأت تصب في صالحها في الوقت الحالي.

فلأنها لم تكن في يوم من الأيام مدللة بل عصامية ومتحدية، لم تزعزع الأزمة المالية العالمية كيانها كما هو الحال بالنسبة لباقي العواصم، ليس لأن الإمكانيات المادية نزلت عليها فجأة من السماء، بل لأنها معتادة على الوضع وتعرف كيف تتعامل معه بمزيد من العطاء والتحدي والابتكار.. فـ25 سنة علمتها أن الحاجة هي أم الابتكار، وليس علينا إلا أن نتذكر أنها عندما كان مصممو باريس وميلانو ونيويورك يستعينون بعارضات سوبر بحجم ناعومي كامبل، كان مصممو لندن من الشباب يكتفون بالاستعانة بصديقات رشيقات لا يطالبن بمقابل، كما حصل في عرض ماركة «ريد آن ديد» التي كانت وجها من وجوه لندن المألوفة لمدة عشر سنوات منذ عام 1989 قبل أن تباع الماركة بالملايين.

ولن نبالغ إن ذهبنا إلى أبعد من ذلك بالقول إن لندن تنتعش أكثر في أوقات الأزمات، بدليل أنها في عام 1987 إثر يوم الاثنين الأسود وانهيار أسواق البورصة، كانت أيضا الأقل تأثرا بالمقارنة بغيرها من عواصم الموضة. آنذاك أيضا أشعلها مصمموها ابتكارا وحيوية، وبدون ميزانية تذكر. وها هي هذا العام، وفي عز الأزمة المالية، تحتفل بما قد يكون أهم وأقوى أسبوع في تاريخها، والذي يمكن القول بثقة إنه بلغ سن الشباب واكتمل عوده.

مهرجان من الألوان والأقمشة والنقوشات والابتكارات العملية التي يسهل تسويقها، كانت السمة المشتركة بين كل العروض أمس، بدءا من بيتي جاكسون إلى فيفيان ويستوود و«إيسا»، مرورا بنيكول فارحي وخالد قاسمي وماثيو ويليامسون، وغيرهم. افتتحت بيتي جاكسون اليوم بعرض رومانسي قالت لـ«الشرق الأوسط» إنها استلهمته من فتاة فرنسية، في فيلم من أفلام جون لوك غودارد، تتجول في شوارع شنغهاي وتثير الكثير من الانتباه وشهقات الإعجاب. ومن ثم جاءت الكشاكش الكثيرة حول العنق أو تحت فستان قصير ناعم مصنوع من الحرير أو الكريب جورجيت، ونقوشات لا تقل نعومة وتناغما. بالإضافة إلى الفساتين المنسابة التي حددت بعضها أحزمة من القماش، كانت هناك أيضا الكثير من القطع المنفصلة التي يمكن لأي واحدة منا تنسيقها بالشكل الذي يتناسب مع أسلوبها الخاص، على الرغم من الإحساس الأول بأنها جريئة جدا فيما يخص طولها القصير. أما القطع التي لن تجد صعوبة أبدا في اقتحام خزاناتنا هذا الربيع أو الصيف، فهي القمصان ذات الياقات العالية المتعددة الكشاكش وكأنها بتلات ورد، والتي تستحضر أحيانا أسلوب القرن الثامن عشر. فهي عملية من جهة، لما تضيفه على المظهر من شكل راق يحاكي «الهوت كوتير»، وأنيقة من جهة ثانية، لما تضفيه على الوجه من إشراق خصوصا أنها تحدده وتؤطره ليظهر وكأنه لوحة مرسومة. الجميل أيضا في هذه التشكيلة ذلك التزاوج الموفق بين الألوان، مثل فستان قصير ناعم باللون الأخضر الفستقي تطل من تحته طبقة خفيفة باللون الأرجواني، يتميز بأكتاف عالية. المرأة الهادئة كان لها أيضا نصيب كبير، مثل فستان طويل يغطي الركبة باللون الوردي المائل إلى البيج بتنورة تميل إلى الانتفاخ عند الجيوب لتعطي الخصر نحولا والجسم جمالية ناعمة.

هذا التلاعب على الحجم والنعومة كان أيضا تيمة حاضرة في عرض نيكول فارحي، التي فضلت العرض في دار الأوبرا بـ«كوفنت غاردن» على «سومرست هاوس» ربما لأنها كانت تريد إضاءة أكثر ومكانا أكثر إبهارا كخلفية لتشكيلة فنية بكل المقاييس. لكنها فنية جد عملية، جعلت كل الحاضرات يحلمن بها واستحقت عليها تصفيقات حارة. خرجت المصممة فيها عن ألوان الطبيعة الترابية، التي عودتنا عليها والتايورات المفصلة، ولعبت على ألوان أكثر توهجا وتصميمات أكثر انسيابية مع لمسات هندسية مرة عند الأكتاف ومرة عند الجيوب. نيكول قالت إنها استلهمتها من الفنانة الألمانية إيميل نولد وأسلوبها التعبيري، مما يفسر الألوان والنقوشات، وكون الكثير من القطع أشبه بلوحات متحركة. الجميل فيها أيضا كان تلك الازدواجية المتزاوجة في القطعة الواحدة، بحيث نرى فستانا، مثلا، بكم واحد، أو بياقة تبدو عالية من جهة واحدة لتنحدر وتكشف الكتف الثاني بنعومة. أقل ما يمكن أن يقال عن هذه التشكيلة إنها تضج بالأناقة والعملية، وتؤكد أن نيكول فارحي تتمتع برؤية واضحة لما تريده المرأة والسوق في الوقت ذاته.

في رابع تشكيلة قدمها «قاسمي» خلال أسبوع لندن في مركز قديم لتوزيع البريد، تحلى المصمم بالكثير من الجرأة سواء من حيث الخطوط المعمارية أو كمية البريق الذي استعمله. التبرير كان أنه عاد فيها إلى الحقبة البيزنطية التي استلهم من روحها وخطوطها الكثير، ومن هنا كانت التطريزات الغنية التي جعلت بعض القطع تبدو وكأنها دروع واقية لامرأة تعتزم القيام بعمليات عسكرية. فقد حصنتها أحجار الكريستال والمعادن القديمة وقطع المرايا الصغيرة المقطعة بالليزر من أي خطر يمكن أن يجعلها تثنى بسهولة أو تتحرك عن الجسم. وعلى الرغم من أن بعض القطع المنسابة في أقمشة خفيفة تتحرك مع كل خطوة، وجاء بعضها على شكل فساتين وبعضها الآخر على شكل سراويل الحريم الفضفاضة، فإنك كنت تستشف من روح التشكيلة أن مصممها كان يغازل عالم الهندسة والمعمار. وهي مغازلة واضحة في الأكتاف العالية وأجزاء أخرى من الجسم تبدو مقببة. ولا شك أن هذه الأشكال تعود إلى خلفية المصمم خالد قاسمي، الذي كان يريد في بدايته دخول مجال الهندسة قبل أن يكتشف أن قوته تكمن في خياله الخصب وليس في مواد الرياضيات والفيزياء. أما إذا كان السؤال هو: ما إذا كانت كل القطع ستجد لها طريقا إلى الأسواق مباشرة؟ فإن الجواب سيكون حتما أن الأمر قد يحتاج إلى نظر، إلا في حال ترويض بعضها.

وعلى ما يبدو فإن ماركة «قاسمي» ليست وحدها التي مالت إلى خلط الرومانسية والانسيابية بالتفصيل المحدد والأشكال المعمارية، فالمصمم ماثيو ويليامسون، بدوره قرر تسجيل عودته من نيويورك إلى العاصمة التي انطلق منها إلى العالمية، بتطبيق الفكرة نفسها، حتى وإن كانت أسلوبا جديدا عليه. فقد غابت التصميمات المنطلقة بحرية، التي تستحضر مناسبات الإجازات والحياة المرفهة، وحل محلها التفصيل المحدد من خلال تايورات مكونة من جاكيتات طويلة وبنطلونات مستقيمة بخصور عالية، حتى إن بعض فساتين المناسبات أخذت أشكالا هندسية مثيرة، مثل فستان أسود محدد عند الصدر بتنورة بيضاوية الشكل تضيق عند الكاحل. ماثيو ويليامسون شرح هذا التغيير بأنه ضروري بالنسبة لأي مصمم، لأنه جزء من تطوره، مؤكدا أنه حرص على مزج الهندسي بالأنثوي والرومانسي من دون أن ينسى أن ذلك يحتاج إلى تسويق، خصوصا في هذا الوقت.

هذا التنوع في الأساليب والأماكن والخطوط يجعل المتتبع لهذا الأسبوع يشعر بأنه اكتمل ونضج مثل مصمميه تماما. فشتان بين بدايته في عام 1984 في قاعات أوليمبيا الباردة قبل أن يصل إلى ساحة متحف التاريخ الطبيعي بمنطقة ساوث كينغستون، وأخيرا إلى مبنى «سومرست هاوس»، الذي يعتبر معلما من المعالم البريطانية المهمة بمعماره الجورجي الذي يعود إلى القرن الثامن عشر. ما يثلج الصدر هنا أن صبر لندن جاء بنتائج إيجابية، ليس أقلها أن رعايتها للمواهب الصاعدة، التي لا يمكن أن تجد لها مكانا ولو ثانويا في العواصم الأخرى، أكدت جدواها، بدليل أنها اليوم تنعم بعودة الكثير من هؤلاء الأبناء، بعضهم جاء تضامنا معها في رغبة صادقة منهم في الاحتفال ببلوغها سن الشباب، وممن جاء بسبب الأزمة المالية والحاجة إلى ترشيد الميزانية. وهذا بحد ذاته يؤكد أن سياسة لندن، القائمة على تفريخ المواهب واكتشافهم، كانت مبنية على أسس صحيحة.

فميلانو، مثلا، التي تجاهلت رعاية الشباب لضخ دماء جديدة في شرايينها منذ ظهور الثنائي «دولتشي آند غابانا»، واعتمدت في المقابل على الكبار فقط، بدأت تشيخ، كذلك الأمر بالنسبة لباريس، التي اعتمدت على دور أزيائها العريقة ومصممين أجانب. وكانت النتيجة أن هؤلاء الأجانب، ما إن اكتووا بنار الأزمة، حتى قرروا العودة إلى الأصل، مثل «برينغل» و«بيربيري» المهاجرين من ميلانو، والإيطالي البريطاني أنطونيو براردي، الآتي من باريس، إلى جانب كل من ماثيو ويليامسون وجوناثان سوندرز اللذين أدارا ظهرهما لأسبوع نيويورك. بعد انتهاء عرضه، سئل ماثيو ويليامسون عن سبب عودته، ورد بأنه لم ينس فضلها عليه في بدايته: «لندن هي مدينتي المفضلة. ومن الناحية اللوجيستية، فهي أسهل بالنسبة لنا ما دمنا مستقرين بها، عدا أنها مكان ساخن جدا لتفريخ النجوم واكتشاف المواهب، مما يجعلها المكان الأمثل للعرض».