«هيرميس».. بين إثارة الجلود والتفصيل الإنجليزي

بداية فصل جديد في عالم الموضة.. دروس في الخياطة والبيئة والجمال

TT

انتهى أسبوع باريس لخريف وشتاء 2010 - 2011 مساء يوم الأربعاء الماضي، ولم تنته أصداؤه، بالنظر إلى الاتجاهات التي طرحها والتي ستؤثر في أسلوبنا في اختيار الأزياء حتى قبل أن تصل التشكيلات إلى الأسواق والمحلات، بدءا من التايورات المفصلة أو كمية الفرو التي ستغطينا إلى الفساتين الطويلة التي ستجعل التنورات والفساتين القصيرة جدا، في خبر كان. بعض العروض كان درسا تثقيفيا في الحفاظ على البيئة وتأثيرات التسخين الحراري عليها، كما هو الحال بالنسبة إلى عرض دار «شانيل» بمسرحه الجليدي المبهر في «لوغران باليه»، الذي استغرق بناؤه نحو أسبوع ودرجة حرارة معينة حتى لا يذوب الجليد، بينما كان بعضها الآخر درسا رائعا في الخياطة والموضة نفسها، كما هو الحال بالنسبة إلى عرض الثنائي فكتور آند رولف. في هذا الأخير، استمتع الحضور بفن الخياطة والأوجه المتعددة للقطعة الواحدة من خلال ظهور عارضة وهي تلبس 23 قطعة بالتمام والكمال، ليبدأ المصممان بتخليصها من كل قطعة على حدة وإلباسها عارضة أخرى تظهر على المنصة بملابس داخلية، وبعد انتهائهما من هذه العملية أعادا التجربة بإعادة كل قطعة إلى العارضة الأولى لكن بأشكال مختلفة، حيث تحول الفستان إلى «كاب» وهكذا. عرض مبهر بكل المقاييس، لم يضاهه إلا إبهار التفصيل ورقي التصميم في عرض الفرنسي المسكون بالشقاوة، جون بول غوتييه للدار الفرنسية العريقة «هيرميس».

لم يقلّ عرضه، الذي تجاذب بين إيحاءات الجاسوسية وحرفية «سافيل رو»، إثارة وبريقا على الرغم من أنه لم يعتمد فيه على حجرة كريستال واحدة أو خرز، بل فقط على الجلود. فهذه الدار التي بدأت، مثل «لوي فيتون» كدار متخصصة في الجلود، اتخذت خطا مختلفا وواضحا من البداية، خط يحرص ويحافظ على نخبويتها بأي شكل من الأشكال. ويوم الأربعاء الماضي، أكدت هذه النخبوية من خلال تفصيل يستحضر أسلوب خياطي «سافيل رو» اللندني، بلعبه على الأنثوي والرجولي، وهو الفكرة التي تكررت في الكثير من العروض مع اختلاف الأسلوب والطريقة. هنا كانت القصة بريطانية محضة، بتفاصيلها وتفصيلها، حسب ما صرح به المصمم، مع اعتمادها على الخامة التي بنت الدار سمعتها عليها منذ قرابة 160 عاما، ألا وهي الجلود. أغلبية القطع من معاطف وبنطلونات وفساتين النهار والمساء على حد سواء، تألقت في هذه الخامة التي أتقنت الدار تقنياتها وجعلتها تبدو خفيفة إلى حد أنها كانت تتحرك مع كل خطوة تقوم بها العارضة، لا سيما الفساتين. فهذه الأخيرة لم تكن تلتصق على الجسم فقط بل تداعبه بطيات وثنيات مبتكرة تجعله رحيما على المقاييس العادية. البنطلونات تباينت هي الأخرى بين الضيق الذي يبدو وكأنه جلد ثان، وبين الواسع بعض الشيء. وحتى عندما استعمل جون بول غوتييه، خامات أخرى، فإنه زينها ببعض الجلد وكأنه خاف عليها أن تشعر بالجوع والحرمان منه، حيث زين بنطلونا بخط أفقي من الجلد اللماع من الجوانب، وجاكيتا من جلد التمساح عند الأكتاف وهكذا. الأجواء في قاعة «فريسيني» بالجادة الـ13 بباريس، كانت بريطانية ومثيرة أيضا، بإخراجها وموسيقاها ومسرحها. فقد تم تصميم جزء من القاعة على شكل نفق ضخم يتعالى منه دخان لتخرج منه عارضة على خلفية موسيقية بوليسية، وهي تلبس الجلد من عنقها إلى أخمص قدميها في مظهر يستحضر بطلة السلسلة التلفزيونية البريطانية «ذي أفانجورز» (المنتقمون)، الجاسوسة إيما بيل، وشريكها، مستر ستيل، الذي أخذ منه المصمم القبعات العالية والشمسيات الكبيرة التي ظهرت بها عارضاته هنا. من لم يسمع بهذه السلسلة من قبل، لكونها اشتهرت في الستينات، فإن الصورة الأقرب هنا هي لجيمس بوند مؤنثا. وحتى لا تغيب الصورة البريطانية من البال، فإن القبعات والموسيقى لم تكن كافية بالنسبة إلى المصمم، حيث أرسل عارضة متأبطة جريدة «ذي تايمز» وتحمل حقيبة «كيلي» في يدها. فمما تجدر إليه الإشارة هنا أن «هيرميس» تعرف أن حقائبها كنز يدر عليها الأرباح، سواء كانت حقيبة «كيلي» أو الـ«بيركين»، وبالتالي كان من الطبيعي أن تقدمهما مرة أخرى بنفس نسبة الجمال والنكهة مع تطويرهما بخامات وأحجام مختلفة.

من البنطلونات إلى التنورات الجلدية التي نسقت مع سترات رجالية ومعاطف طويلة بأحزمة عريضة من جلود التماسيح مرورا بمجموعة من التوكسيدو المؤنث، كان العرض، من أوله إلى آخره، متعة بكل المقاييس، خصوصا إذا أخذنا بعين الاعتبار خروج المصمم كعادته بعد العرض لتجاذب الأحاديث وتبادل القبلات مع الحضور والمعجبين في جو حميمي بعيد عن حرص الحراس الشخصيين والمسؤولين الإعلاميين.

وكان فرصة شرح فيها أن التشكيلة «إنجليزية محضة» استوحاها من أجواء رجال المال والأعمال والعاملين في البنوك والمؤسسات المالية، واشتغل عليها لكي يقدمها للمرأة التي تعمل هي الأخرى في هذه المؤسسات. لكن لم ينس أن يقول أيضا إنها مستوحاة من «جيمس بوند» بغموضه وقوته. والحقيقة أن هذا المصمم أكثر من فهم روح الدار وفرق بين أسلوبه فيها وأسلوبه الخاص الذي يقدمه تحت اسمه، بدليل أن الجلد لم يأخذ هذه الصورة الأنثوية الناعمة في أي وقت من الأوقات.

من العروض التي أثارت الكثير من الانتباه خلال الأسبوع، إلى جانب تشكيلة مارك جايكوبس لـ«لوي فيتون» وجون غاليانو لدار «ديور» وغيرهما من المبدعين، ثاني تشكيلة تقدمها فيبي فيلو لدار «سيلين». كانت تشكيلة مركزة تشير إلى أنها من بنات أفكار امرأة تفهم بنات جنسها من جهة، وتشبعت بروح الدار الباريسية في وقت قياسي من جهة ثانية. فقد ركزت على درجات ألوان محددة تقتصر على الأسود والكريم والأخضر الكاكي والأزرق والبنفسجي، فيما أسهبت في التصميمات المبتكرة والأنيقة وفي استعمال الجلد الذي ظهر في عدة قطع، مثل تنورة مستقيمة بلون الكاراميل، ومعطف من دون أكمام زادته الجيوب المصنوعة من هذه الخامة عصرية وحداثة. البساطة الراقية كانت عنوان هذه التشكيلة، باستثناء قميصين مطرزين بالأحجار ظهرا في آخر العرض تقريبا. لكنهما أيضا اكتسبا عملية وبساطة بظهورهما مع بنطلون مستقيم. ولأن المصممة هي فيبي فيلو، فإن وسائل الإعلام تتوقع أن تحقق المعجزات، أو على الأقل أن تعيد للدار مجدا غاب عنها منذ أن غادرها الأميركي مايكل كورس منذ سنوات للتفرغ لداره الخاصة. ومنذ أن تعاقدت مجموعة «إل.في.أم.آش» معها والتحاقها بها في عام 2008 والتوقعات تزداد سخونة بأنها ستحقق ما حققته لدار «كلوي» سابقا من نجاحات. فهذه هي المصممة التي جعلت البنطلون عالي الخصر موضة تتسابق عليها الأنيقات، كما أنها هي التي جعلت أحذية «الويدج» والحقائب الضخمة موضة شابة. وإذا كانت التشكيلة التي قدمتها أول من أمس هي المقياس، فإن المصممة الشابة كتبت أول فصل لها في الدار، وحققت المعادلة بين العصرية والعملية فضلا عن رشة من الحيوية الشابة. فكل قطعة تتكلم لغة العصر والمستقبل من دون أن تكون لها أي علاقة بالخيال العلمي كما رأيناه عند دار «بالنسياغا» مثلا، كما أن كل قطعة بسيطة وعملية لكن لا تفتقد عنصر الرقي. بمعنى أنها تخدم أية خزانة بتنسيقها مع أي قطع أخرى، وتناسب أي مكان وزمان. فهي تشكيلة، كما وصفتها مصممتها، «لكل النساء وليست لواحدة فقط». خليفتها في دار «كلوي» حنا كاغيبون، أكدت أنها ستكون منافسة قوية لها، وبإمكانها أن تخلص الدار من لعنة فيبي فيلو، التي رافقتها بعد أن غادرتها هذه الأخيرة، حيث توالى عدة مصممين عليها، لكن لم ينجح أحد من قبلها أن يغطي على بريقها إلى الآن.

«كلوي» الدار التي عمل فيها لاغرفيلد في السبعينات وأرسى أسلوبها الناعم الذي يحيي امرأة منطلقة وبوهيمية عادت لتحيي هذا الأسلوب بأزياء وإكسسوارات في حلاوة الكاراميل بألوانها المتدرجة من البيج إلى البني، وموجهة إلى امرأة عملية وأنيقة تريد أن تحتفل بأنوثتها لكن في الوقت ذاته تريد أن تكون على استعداد لأي منافسة مع أي كان. فقد غزت المصممة حنا خزانة الرجل وسرقت كل قطعة كلاسيكية فيها وأنثتها. والنتيجة كانت صورة لامرأة باريسية بسيطة في أناقتها، رومانسية في بوهيميتها، مع إيحاءات خفيفة من الغرب الأميركي. ما أثمر عنه الأسبوع هو كتابة فصل جديد في الموضة يتلخص في الجمع بين العملية المريحة والأناقة الراقية، واحتفاله بذلك الخيط الرفيع والناعم بين الرجولة والأنوثة، وإعلانه أن الفرو الذي كان منذ قرابة عقد فقط محملا بالسلبية والخوف منه ومن إيحاءاته، أصبح رسميا عنوان الأناقة. فقد تغيرت دفة الاهتمام والشعارات من حماية الحيوانات إلى حماية البيئة في تناقض واضح لكن مثير ومرحب به من قبل محبات الموضة من جهة، وبيوت الأزياء وصناع الموضة من جهة ثانية، لما توحي به هذه الخامة من ترف ورفاهية تترجم في لغة الأرقام بأسعار خيالية.