«جون لوب».. أحذية نخبوية تمشي إلى الشارع بخط جديد جاهز

بدأ مصمما لأحذية المغامرين الباحثين عن الذهب وانتهى كمصمم للملوك والطبقات المخملية

الحذاء أيضا يحتاج إلى راحة، لهذا يفضل عدم ارتدائه طوال الوقت وباستمرار، والمحافظة عليه في علبته الخاصة ومعاملته باحترام
TT

جون لوب اسم له وقع خاص في أذن أي رجل يفهم معنى الترف والفخامة، فهو عنوان للأحذية المفصلة على المقاس التي تخاطب النخبة وعلية القوم على وجه الخصوص بأسعارها التي تقدر بـ5000 يورو. اسم حفر له مكانة عالية منذ منتصف القرن التاسع عشر ولا يزال قويا إلى اليوم، بل وأكثر انتشارا، لا سيما بعد دخوله مجال الأحذية الجاهزة التي يمكن لأي رجل يتمتع بالإمكانيات المادية اقتناؤها من محلاتها محدودة العدد، إلى جانب استمرار خطها الخاص بالتفصيل على المقاس.

الطريف أن جون لوب لم يولد في منتصف القرن التاسع عشر بسبب الحاجة إلى أحذية أنيقة، بل كحل لمشكلة كانت تؤرق المغامرين الباحثين عن الذهب في أستراليا، أو بالأحرى حاجتهم إلى مكان أمين يخفون فيه ما يكتشفونه منه عن عيون الطامعين. هذه الحاجة هي التي ألهمت شابا متحمسا اسمه جون لوب، أن يضع تحت أقدامهم كعبا مجوفا من الداخل يقوم بمهمة خزنة صغيرة. وكان جون الذي ولد في عام 1829 في قرية في الريف البريطاني، وتعلم مهنة صناعة الأحذية في لندن، قد شد الرحال إلى أستراليا في هذه الفترة لتحسين ظروفه، وهناك اكتشف هذه الثغرة واستغلها أحسن استغلال محققا لنفسه سبقا استحق عليه ميدالية ذهبية في معرض عالمي أقيم بلندن. حسه التجاري ضاهى حسه الفني، وربما يكون من الأوائل الذين استعملوا المشاهير للترويج لمنتجاتهم، إذ أهدى حذاء برقبة عالية للملك إدوار VII (1841 - 1910)، عندما كان أمير وايلز. كان هذا الأخير «دانديا» يعشق الموضة، مما جعله أفضل دعاية يمكن لمصمم الحصول عليها. وبالفعل، سرعان ما اشتهر اسم جون لوب في محيط الأمير لتتسع رقعة الانتشار في ما بعد إلى ملوك وأمراء العالم. شجعه هذا النجاح على العودة إلى لندن، مفضلا أقدام النخبة وعلية القوم على أقدام المغامرين الباحثين عن الذهب. ولم يمر وقت طويل حتى أصبحت تصميماته علامة التميز، ليس فقط لشكلها أو لجودتها بل أيضا للراحة التي توفرها وتجعل لابسها يمشي بطريقة جد مميزة. فهي مصممة بشكل يجعلها تحتضن سطح القدم بكامله مع بقاء مساحة كافية للحركة تحت أخمص القدمين. ولا يزال «جون لوب» الماركة التي تستعملها العائلة المالكة البريطانية إلى اليوم. هذا التاريخ وهذه السمعة أججا الفضول لزيارة معملها الواقع في نورثهامبتون، عاصمة صناعة الأحذية ببريطانيا. وبالفعل، كانت تجربة ممتعة تلخص ثقافة بريطانية فريدة من نوعها جمعت التاريخ والعراقة والتطور في مكان واحد. فبعد قرابة الساعة والنصف بالسيارة من لندن، تم الوصول إلى المصنع، وعلى غير المتوقع اكتشفنا أنه لا يقع في منطقة صناعية، بل يبدو مبناه الخارجي كأي بيت عادي من البيوت السكنية التي تحيط به، لكن ما إن تدخله وتصعد الدرج إلى الطابق الأول حتى تزكم أنفك رائحة الجلود اللذيذة، وينفتح الباب على مساحة مقسمة إلى عدة غرف، تظهر من بعضها سلالم تأخذك إلى طوابق أخرى تتفرع منها أقسام، تضم حرفيين كل واحد منهم يتخصص بمهمة معينة يقوم بها بتفانٍ ودقة. أيادٍ دؤوبة ونشطة دمغتها الأصباغ والمواد اللاصقة إلى حد تمازجها مع الوقت بلون بشرتهم الأصلي، إما منكبة على حذاء تخيط جوانبه، أو تدق أسفله بمطرقة صغيرة لتأخذ قطعة إضافية صغيرة مكانها الصحيح، أو تشد الجلود وتسحبها من كل الجوانب للتدقيق فيها والتأكد من جودتها وعدم وجود أي عيب فيها، مهما كان صغيرا.

من بين هدير الماكينات وأصوات المطارق، يأتي صوت أندريس هيرنانديس، مصمم الدار الفني، شارحا: «نحن هنا لا ننتج أكثر من 25000 زوج أحذية في العام في ما يخص الأحذية الجاهزة. فالعامل هنا يأخذ وقته، نحو خمسة أيام لصنع (ديريبي) أو الحذاء المميز بإبزيم، أو الموكاسان، أو عالي الرقبة، إذ لا بد من ترك الجلد يرتاح ويأخذ نفسه، والألوان تتشرب جيدا، والشكل يكتسب نعومته قبل أن ينتقل من يد حرفي إلى آخر لإتمام التفاصيل النهائية».

أندريس هيرنانديس، بحجمه الناعم وأناقته المتكاملة من تسريحة شعره إلى حذائه المفصل من جلد التمساح، شخصية مثيرة تجمع الدفء الذي يطبع سكان أميركا الجنوبية ودماثة أخلاقهم ببعض الزهو بما حققه من إنجازات. زهو يتجلى في بريق عينيه وحركاته المعبرة عن اعتداد بالنفس، ويتلخص في قناعته بأن «أحذية لوب أفضل الأحذية الجاهزة في العالم، وتستحق الـ5000 يورو التي تطالب بها». يبلغ هيرنانديس حاليا 48 عاما، بيد أنه حضر إلى المنطقة وعمره لا يتعدى الـ19 بدعوة من ممثل لأحد مصانع الأحذية في نورثهامبتون كان قد التقاه في فنزويلا حين كان يعمل مع عمه: «كان عمي يفصل أحذية للطبقة المخملية في فنزويلا، ومنه تعلمت بعض الأبجديات، وأتيت إلى (نورثهامبتون) لأسباب خاصة منها أني لم أستطع متابعة دراستي لكي أصبح أستاذا في بلدي بسبب وعكة صحية ألمت بي وجعلت متابعتي الدراسة أمرا صعبا. كانت نقلة إلى المجهول، لأني لم أكن أعرف أحدا في بريطانيا. درست لمدة سنتين، قبل أن أصبح متدربا في مصنع (آر إي تريكرز)، ماركة أحذية معروفة أيضا في المنطقة. حينها عملت، ولست سنوات، مع صانع أحذية كان عمره 95 عاما. كان يحضر للعمل يوميا على الساعة السابعة صباحا كل أيام الأسبوع ما عدا الأحد. كان العمل يمثل كل حياته والمعمل هو الفضاء الذي يتنفس فيه. مع الوقت أصبحت مثل ولده، ومنه تعلمت الصبر والإخلاص للعمل». بعد فترة، وبسبب نظرته المثالية للأمور، ترك أندريس «تريكرز» والتحق بشركة إدوارد غرين، الذي كان معروفا في المنطقة بأنه شخصية قاسية وصعبة المراس إلى حد أن أحدا لم يكن يبقى معه لأكثر من ثلاثة أشهر بسبب شراسته وطبعه القاسي، لكن ما يشفع له أنه كان يصنع أحسن أنواع الأحذية. بقي معه أندريس لمدة 11 عاما و9 أشهر وهو رقم «قياسي» كما يقول.

الآن يشرف هيرنانديز على نحو 50 عاملا في مصنع جون لوب، وفي كل يوم يشهد ولادة نحو 100 زوج أحذية. صحيح أنه ليس مثل إدوراد غرين شرسا أو قاسيا، لكنه يدرك جيدا أن حذاء يحمل توقيع «جون لوب» يجب التعامل معه بجدية، لأنه ليس صرعة موضة، ويعرف أيضا أن احترام التقاليد ومواكبة العصر وجهان لعملة واحدة هنا. عند سؤاله عن أكبر تحدٍ واجهه، رد من دون تردد: «تصميم الحذاء الذي ألبسه، فمقاسي صغير جدا بالنسبة لرجل لهذا أفضل دائما التفصيل». وأضاف أنه كان دعاية ناجحة للماركة، لأنه تعرف على الكثير من الزبائن بعد إبدائهم الإعجاب به: «فالحذاء مركز جذب، وتلحظه العين من النظرة الأولى» لهذا يجب أن يكون بجودة عالية، ويمكنه أن يدوم مدى الحياة، على شرط أن لا يكون التركيز عليه وحده. بمعنى أن يتوافر للرجل أحذية أخرى يستعملها في أوقات متفرقة. وتابع مبتسما بشقاوة إن «حذاء جيدا بالنسبة للرجل هو مثل حمالات الصدر بالنسبة للمرأة، إذا لم تكن على المقاس ومريحة فإنها لا تضيف أي شيء، ومهما كانت الأزياء أنيقة والحذاء ليس كذلك، فإن المظهر لن يرقى إلى المستوى المطلوب». كلما توغلنا في المصنع واستمعنا للشروحات المقدمة، تنكشف أسرار وخبايا هذه الأحذية الملمعة التي تخفي بين ثناياها وإبزيماتها ساعات مضنية من العمل، وتتأكد مقولة أن الغالي ثمنه فيه. فكل جزئية في الحذاء هنا محسوبة ومدقق فيها، إذ لكل واحد، مثلا، وسادة من الفلين تأخذ شكل القدم. وهذا هو الفرق بين الأحذية العادية ذات الأسعار الرخيصة، وبين أحذية لوب التي يمكن تشعر فيها بالراحة بسرعة، لأنها أصلا وخلال صناعتها توضع في قالب خاص بالقدم يحتفظ بشكله لمدة لا تقل عن أسبوع، حتى إذا ارتداه الشخص شعر أنه مفصل خصيصا له، على العكس من حذاء عادي، لا تستغرق فيه هذه العملية سوى ساعة يمكث فيها في القالب ثم يطرح للبيع. يشرح أندريس وهو يشد قطعة جلد كبيرة أن حذاء واحدا من جون لوب يحتاج إلى قطعتين كبيرتين من جلد التمساح لأن الجزء المستعمل هو الوسط فقط بينما يرمى الباقي نظرا لخطوطه الرفيعة وبالتالي عدم توفره على عنصر الجودة من صفاء اللون والليونة وغيرها. فالجودة هنا مهمة، وهي التي تحدد ديناميكية العمل وتبرر سعر حذاء يحمل توقيع الدار في النهاية. اليوم تنضوي الشركة تحت جناحي «هيرميس» الفرنسية، لكنها لا تزال تحافظ على هويتها وخصوصيتها بشكل تام بدءا من علامتها، اللون الأصفر الواضح، إلى تقاليدها وإن كانت قد استفادت من «هيرميس» من الناحية التسويقية. فهو زواج يصفه مصمم الدار بالناجح، لأن أهدافهما واهتماماتها واحدة، فضلا عن أن دار «هيرميس» مثل «جون لوب» بدأت كدار متخصصة بالجلود وصنع السروج قبل أن تنطلق إلى عالم الأزياء والإكسسوارات.

* على الرغم من تصميمات الدار المختلفة التي أصبحت أيقونية فإن حذاء «ذي ويليام» المعروف بإبزيمين لا يزال هو الأكثر شهرة والأكثر استنساخا.

* في عام 1902، افتتحت الشركة محلا في باريس لمواجهة الطلبات الأوروبية والعالمية. وسرعان ما ضمت لائحة زبائنه سياسيين مثل الجنرال ديغول ونجوم هوليوود مثل فرانك سيناترا، غريغوري بيك، يول برينير، كاري كوبر وهلم جرا.

* ظلت نورثهامبتون عاصمة صناعة الأحذية في بريطانيا منذ عدة قرون، ففي عام 1841 كان هناك نحو 1.871 صانع أحذية في المدينة، وهي اليوم لا تزال تحتضن معامل ماركات مثل «تشورشز»، «كروكيت آند جونز»، «إدوارد غرين» و«جون لوب». انتعاش هذه الصناعة في المنطقة يعود إلى غناها بالبقر، وهذا يعني وفرة الجلود، وبأخشاب السنديان والتربة الطينية، وهذا يعني وفرة مواد الدباغة. وتفتخر المنطقة بأنها باعت حذاء برقبة عالية للملك جون في عام 1266، وبأمر من الملك هنري الثالث صنعت 150 حذاء للفقراء، كما صنعت كل أحذية المحاربين في جيش كرومويل خلال الحرب الأهلية. وعلى الرغم من إفلاس بعض الأسماء الكبار وغيابها عن الساحة حاليا، فإن المنطقة لا تزال تضم معامل ماركات شهيرة مثل «تشورشز»، «كروكيت آند جونز»، «إدوارد غرين» و«جون لوب».