«خطّابة مودرن».. آخر ابتكارات اللبنانيات للعثور على عريس

في مجتمع مفتوح تسهل فيه اللقاءات بين الجنسين

TT

«اختصروا المسافات، وطدوا العلاقات في ما بينكم، بفضل وكيلكم في بيروت (تفاحة الحب). اطردوا الوحدة، من الآن فصاعدا بإمكانكم الاعتماد علينا. اختزلوا الوقت، بفضل خدماتنا الجادة والمهنية التي تسهل خطواتكم، لتجدوا نصفكم الآخر، صوب النظرة الأولى، الابتسامة الأولى، واللقاء الأول». هكذا يطالعك صوت رجالي جاد بنبرة إعلانية أنيقة، بمجرد أن تفتح الصفحة الأولى لموقع «بوم دامور» أو «تفاحة الحب» اللبناني الإلكتروني، المتخصص في تقريب القلوب، وجمع الراغبين في الزواج. وهذه ليست الوكالة الوحيدة التي تقوم في لبنان بهذه المهمة، بعد أن أصبح الالتقاء بالنصف الآخر مشكلة تعاني منها الإناث والذكور على حد سواء. فإذا كانت ثمة إحصاءات تقول إن في لبنان سبع فتيات مقابل كل رجل واحد، بسبب سفر الكثير من الرجال بداعي العمل، فإن هؤلاء أيضا في غربتهم يحتاجون إلى مساعدة للالتقاء بفتاة الأحلام في أرض الوطن. المشكلة لا تتوقف هنا كما يشرح عماد (محاسب، 35 سنة) الذي مر بعدة تجارب حب، لم تؤدِّ أي منها إلى نهاية زوجية، «فبعد سن معينة يصبح مجال اللقاءات مقتصرا على المكتب أو على أوساط العائلة، وإذا لم يكن الشخص المناسب في هذا المحيط الضيق فهو في أماكن عامة ومفتوحة جدا، كثيرا ما كانت محاولاتي فيها تبوء بالفشل، بسبب تباعد الأمزجة». عماد لا يخفي أثناء حديثنا معه أن لا يتردد في تلبية دعوة والدته إذا هي لفتت نظره للتعارف على فتاة سمعت عنها هنا أو قابلتها هناك. كما أن أصدقاءه يدعونه إلى جلسات توجد فيها فتيات هن أيضا يبحثن عن تعارف جدي.

تعددت الأساليب والهدف واحد، هو العثور على الشريك. وتقول نسرين (مهندسة 30 عاما) إنها لم تكن حتى سنوات قليلة خلت تتقبل فكرة أي تعارف مدبر يجمعها بأي شاب، سواء كان ذلك عن طريق الأهل أو الأصدقاء، ولا تزال ترفض أي عريس يمكن أن يدخل البيت بطريقة تقليدية ليطلب يدها. تضيف نسرين: «لكنني أشعر أن الوقت يمر، لذلك صرت لا أرفض في حال اقترح الأهل أو أي من الأقرباء أو الأصدقاء أن أتعرف على أحدهم، بأن يتم ذلك في مقهى أو مطعم. فهذا مقبول ويترك فسحة حرية للرفض أو القبول، من دون حرج لي أو للشخص الآخر».

تدبير لقاء في مكان عام بين راغبين في الزواج، بمساعدة عائلتي الطرفين أو أصدقائهما، بات من أكثر الأساليب انتشارا في لبنان، لتسهيل مهمة الراغبين في الزواج، وهي طريقة تجمع بين التقليدية والحداثة. لكن نسرين تخبرنا أن لها صديقات متعلمات وموظفات تزوجن بطريقة تقليدية جدا، وأنها تعرف كثيرات قبلن باستقبال العرسان في محيط عائلي، ولم يجدن غضاضة في ذلك. شارحة أن «ثمة بيئات مختلفة ومتباينة، وكل فتاة تتصرف وفقا للجو المحيط بها. أما أنا فمن عائلة لا تستسيغ فكرة طرق الأبواب بحثا عن العروس».

نادرة، والدة لشاب بلغ الثلاثين، ومر بعدة تجارب حب لم تؤدِّ إلى زواج. هو موظف في أحد البنوك، وتشعر والدته بالقلق لأنه منذ ثلاث سنوات لم يرتبط بعلاقة مع أي فتاة. لا تخفي نادرة رغبتها في مساعدة ابنها الذي «يرفض البحث عن عروس على طريقة جدة». وتضيف: «أسعى دون إعلامه بالبحث عن فتيات، ولو وقعت على من تعجبني لا أتردد في تحريضه على التعرف عليها بطريقة ما». لا تنكر نادرة أن تأثير الأم على ابنها في موضوع الزواج ليس بقليل، وأنه غالبا ما يسألها سلفا عن رأيها في أي فتاة يريد التعرف عليها، ويأخذ مشورتها بعين الاعتبار. وحين نسألها إن كان بمقدورها أن تؤثر على مسار قصة حب قد يعيشها ابنها تقول: «بالتأكيد، كلام الأهل إيجابا أو سلبا قد يبعد ابنهم أو يقربه من الشخص الآخر»، مبدية في الوقت ذاته رغبتها في أن لا تتدخل بشكل كبير في حياته للتأثير على قراره.

وعن عودة الشاب إلى العائلة لاختيار شريكة عمره يقول نبيل (مهندس 32 عاما)، وهو شاب لبناني يعمل في الإمارات: «التعارف متاح، والفرص كبيرة جدا للقاء حين آتي إلى لبنان، وأنا شخصيا أسهر ولي أصدقاء ومعارف، بعضهم ترك البلد والبعض الآخر لا يزال هنا. لكن المدة القصيرة التي أوجد خلالها في لبنان لا تتيح لي إمكانية لتعارف عميق. جربت من خلال ال(فيس بوك) لكن اللقاء الواقعي لم يكن مشابها للافتراضي. في النهاية لم أجد بدا من اللجوء إلى أمي وخالاتي اللواتي كن يسعين طوال فترة غيابي للبحث عن أكبر عدد ممكن من الفتيات، كي أحاول التعرف عليهن أثناء إقامتي القصيرة. الأمر لم يكن سهلا، تطلب الأمر سنوات قبل أن أجد من تقبل بي وأرضى بها، وسبق أن ارتبطت بخطوبة تقليدية خلال هذه الفترة، لم تدم طويلا. فللفتيات متطلبات أيضا، والاختيار يكون من الطرفين». ويقول نبيل إنه يشعر بالارتياح لخطيبته الحالية التي ارتبط بها أثناء إجازته السابقة، لكن المصارحة كانت أساسا منذ بداية العلاقة، وهذا يختصر الوقت ويخفف الضبابية». ولا يخفي نبيل بأن نمط الحياة المتحرر في لبنان يربك عددا ليس بقليل من الشباب حين يريدون الارتباط بفتاة لا يعرفون خلفياتها الاجتماعية والعائلية. ويقول: «حضن العائلة في هذه الحالة يصبح مرجعية مهمة. أنا مرتاح لأن أمي تعرف أقارب خطيبتي، وكنت على دراية منذ البداية بمحيطها وسلوكها والقيم التي نتشارك فيها».

مساعدة العائلة والأصدقاء لا تكون كافية أحيانا لحل أزمة الزواج، فوكالة «تفاحة الحب» لم تكن لتوجد وتعمل لولا الحاجة إليها، وزبائنها هم في غالبيتهم ممن استنفدوا السبل كلها ولم يصلوا إلى حل. محاميات، موظفات من الدرجة الأولى، مهندسات، وحتى تاجرات. وإن كان ثمة من لم يصل إلى الثلاثين، وهؤلاء قلة، فالغالبية تجاوزن العقد الثالث، ومتحررات ومقبلات على السهر والرياضات على أنواعها كالسفر والسياحة، كما تشي بذلك مواصفاتهن على الموقع.

صاحبة الشركة صولانج سريح التي انتقلت من مهنة تنظيم حفلات الزفاف إلى تدبير العرسان لجأت إلى عدة طرق لإقناع زبائنها بفاعلية مكتبها، فهي تؤكد أن أسلوبها لا يمكن أن ينحرف عن الأخلاقيات، وأن اللقاءات تنظم في البداية في مكان عام. ويوفر المكتب استشارات نفسية وحتى فلكية لدراسة مدى إمكانية توافق الشخصين. ورغم أن صولانج سريح ترفض الحديث عن التكاليف المالية لتحيل سائلها إلى الموقع الإلكتروني الذي من خلاله يمكن تقديم الطلبات والتعرف على الشروط والتكاليف، فإن زيارتنا للموقع تظهر أن الاشتراك السنوي كلفه 800 دولار تدفع مقدما، لكل راغب في الزواج رجلا أو امرأة. وهي المدة التي تتعهد خلالها صولانج بتعريف زبائنها خلالها على عدد من الأشخاص.

هذا الدور الذي تلعبه صولانج يمكن تسميته بـ«الخطّابة المودرن»، ويعيدنا إلى أكثر من نصف قرن إلى الوراء. لكن الباحثة الاجتماعية فهمية شرف الدين، التي قامت بالكثير من الدراسات الأسرية، وتحديدا على وضع المرأة داخل الأسرة، لا تعترض على الأساليب المستجدة في التعارف، كما أنها لا ترى فيها نكوصا إلى الوراء، بل بالعكس تراها نتيجة طبيعية لتحرر الفتيات. وتشرح شرف الدين لـ«الشرق الأوسط» قائلة: «دراسة نقوم بها حاليا، لم تنشر بعد، أكدت أن أنماط العلاقات داخل الأسرة في لبنان لا تزال تقليدية رغم مظاهر الحداثة. لكن الفتيات في الوقت نفسه أصبحن أكثر تحررا بكثير من ذي قبل. فالمهم ليست الطريقة التي يتم بها اللقاء، إن كان بواسطة الأهل أو الأصدقاء وإنما أن الزواج يتم باختيار يتسم بحرية كاملة سواء من جهة الفتاة أو الشاب. الزواج القصري لم يعد موجودا تقريبا. فالفتيات استفدن كثيرا من تعليمهن واستقلالهن المادي ليمارسن حريتهن في التعارف والاختيار، وهنا النقطة الأساسية والمهمة». لكن فهمية شرف الدين تعتبر أن ما يبقى مفقودا في المجتمع اللبناني هو «هوية الفرد المستقل، بمعنى أن الفتاة عندما تبلغ سنا معينة دون زواج تخضع لضغط المجتمع، لأن المرأة العازبة ليس لها كيان اجتماعي معترف به، لذلك فإن الفتيات عندما يبلغن أعمارا بعينها يصبحن واقعات تحت ضغط منظومة قيم لا تعترف بهن إلا كزوجات».

إذن يبقى السؤال معلقا، ما مدى الحرية التي تتمتع بها الفتيات عند الاختيار، سواء بواسطة أو دون واسطة، حين يصبح العريس ضرورة اجتماعية؟ هذا ما لا تجيب عليه الدراسات بعد. وبالانتظار فإن السعي محموم بين عدد لا أحد يعرف عدده اليوم، من الفتيات اللبنانيات اللواتي تجاوزن الثلاثين، للقاء شريك العمر.