رقص الجواهر

دلالة على انتعاش سوق المنتجات المترفة.. مجموعة ديور بيعت قبل عرضها

TT

هل هي علامة بأن الأزمة الاقتصادية مرت بسلام؟ أم مجرد تفاؤل؟ أم حنين إلى عز الماضي وأسلوب حياة مترف لا يعرف الضغوط اليومية التي ولدتها العولمة؟ سواء كان هذا أو ذاك، فإن النتيجة واحدة وهي أن سوق الأزياء الراقية ليست وحدها المنتعشة في هذه الفترة بفضل زبونات شابات ومقتدرات يطمحن إلى التميز مهما كان الثمن، بل أيضا قطاع المجوهرات. وهذا ما تأكد يوم الخميس الماضي، اليوم المخصص للمجوهرات الراقية خلال أسبوع باريس للـ«هوت كوتير» في «بلاس فاندوم» التي تعتبر وجهة للباحثين عن الاستثمار والجمال. مجموعة «ديور الراقية» التي قدمتها المصممة الفنية فكتوار دي كاستيلان، تحت عنوان «لو بال دي روز» (رقصة الورود) بيع أغلبها مباشرة وقبل أن تلتقطها عدسات المصورين أو عيون وسائل الإعلام. ولم تكن فكتوار دي كاستيلان مصممتها، الوحيدة التي كان الرقص والورود على بالها، فاللافت هذا الموسم، أن العديد من دور المجوهرات قرر أن يستقي من الطبيعة جمالياتها، ومن القرون الماضية أسلوب حياة اندثر تقريبا. أسلوب تميز بدراية عالية بكيفية الاستمتاع بحياة اجتماعية غنية ومثيرة، تخللتها الكثير من الحفلات الراقصة أو التنكرية كما قرأنا عنها في كتب التاريخ والسير الذاتية. من ملكة فرنسا ماري أنطوانيت إلى قياصرة روسيا، مرورا بالمصمم بول بواريه، وعائلات ثرية مثل عائلة روتشايلد وغيرهم، نسجت دار «فان كليف أند أربلز» مثلا قصصا راقصة بالأحجار الكريمة. وعززت هذا الأمر ليس بتشكيلة موضوعها «لي بال» Les Bals de Legende فحسب بل أيضا بكتاب من دار النشر «أسولين» عادت فيهما إلى بداية القرن الماضي، وأهم الحفلات التي أقيمت لاستلهام أشكال قطع مجوهرات مثيرة. فحفلة أقامها قيصر روسيا نيكولاس الثاني في عام 1913 بقصره بسانت بيترسبورغ وطلب فيها من ضيوفه تقمص شخصيات من القرن السابع عشر، ألهمت قطعا مبهرة منها بروش على شكل راقصة باليه بتنورة من الماس يمكن تحريكها حسب الرغبة ليتغير شكلها في ثانية، أو نسر تتدلى منها لآلئ ضخمة. وحفلة راقصة أقامها الكاتب تيرنهام كابوت في فندق البلازا بنيويورك في عام 1966، وطلب فيها من ضيوفه الحضور بالأسود والأبيض، كانت وراء التصاميم الغرافيكية والآرت ديكو، واستعمال العقيق الأسود والماس. أما الحفل الشرقي الذي أقيم في عام 1969، بفندق «لامبرت» بباريس، وحضره الضيوف في شخصيات من «ألف ليلة وليلة»، فغلبت عليه أحجار الفيروز وحجر القمر والجمشت والزفير الأصفر. آخر هذه الحفلات الباذخة كان في عام 1971 حين طلبت السيدة روتشايلد من ضيوفها تقمص شخصية من شخصيات الكاتب بروست، وألهمت «فان كليف أند أربلز» مجموعة راقية أجمل ما فيها بروش يجسد راقصة باليه فرنسية بمظلة مرصعة بالماس الوردي وتنورة من الدانتيل مطرزة بالورود من الماس الأصفر.

في رقم 8 من ساحة «بلاس فاندوم» يوجد محل «ديور» للمجوهرات الراقية. كان عبارة عن متحف صغير استعرضت فيه أجمل ما جادت به قريحة مصممتها الفنية فكتوار دي كاستيلان وأنامل حرفييها المتمرسين. المشكلة هنا أن مجموعتها الأخيرة والتي أطلقت عليها «لو بال دي روز» أي «رقصة الورود» بيعت مباشرة وقبل أن تتمكن الدار من عرضها أمام وسائل الإعلام، مما سيصيب البعض بالإحباط لعدم تمكنهن منها خصوصا أن كل قطعة منها فريدة لا تتكرر. دي كاستيلان، استعملت في هذه المجموعة أحجارا مميزة بأحجام ضخمة مزجتها بشكل عجيب وغير متوقع على شكل ورود متفتحة تبرق من كل الجهات، بل وحتى من الجزء الداخلي. شرحت المصممة لـ«الشرق الأوسط» أن الورود كانت دائما موتيفا حاضرا في تشكيلات السيد ديور، الذي كان رومانسيا يعشقها ويتفاءل ببعضها، وكانت حديقة بيته في دوفيل من أجمل الحدائق ولا تزال كذلك لحد الآن. لهذا ليس غريبا أن تكون منبع إلهام للعديد من التشكيلات سواء في الأزياء أو المجوهرات أو العطور.

وأضافت أن التقاطع بين هذه المجموعة وبين الأزياء الراقية لا بد منه في دار تعتبر مؤسسة في هذا المجال: «لقد تخيلت ورودا مثل أزياء فخمة للمساء والسهرة تتحول فيها الأحجار الكريمة إلى ما يشبه الأقمشة المترفة بخفتها وحركتها. فعندما بدأت تصميم المجموعة، تخيلتها فخمة تتمازج فيها الألوان المختلفة وتتراص جنب بعضها البعض لتخلق نسيجا مطرزا من الترف. فهذه مجموعة لا تحاكي الـ(هوت كوتير) بل هي (هوت كوتير).. من معادن وأحجار». بالفعل تباينت الألوان هنا بين الماس الليلكي والبرتقالي والأصفر والبني، والزفير البنفسجي والعقيق الأبيض والزمرد والياقوت لتخلق أشبه بالحديقة الغناء تتراقص فيها الأغصان والأزهار نظرا لحركتها وانسيابيتها.

ليس ببعيد عن محل «ديور» قدمت دار «فابرجيه» التي تعود جذورها إلى روسيا القيصرية وعلاقتها الوطيدة بالبلاطات والقصور، تشكيلة لا تقل إثارة، عادت فيها إلى جذورها لكن بطريقة تحترم العصر وتطوره حتى تستقطب زبائن جددا. من هذا المنطلق قدمت جواهر على شكل عقود تتراص بما يشبه البيضات وتأخذنا إلى عالم عائلة رومانوف القيصرية وبذخها، فضلا عن رقص الباليه الذي اشتهرت به روسيا آنذاك.

أما دار «بوشرون» فاختارت جنوب فرنسا كموضوع لها هذا الموسم، فضلا عن منتجعات صيفية أخرى، تلتقي في أنها كلها من الأماكن التي تجذب الطبقات المخملية مثل سردينيا وغيرها. اللون الأزرق كان غالبا من خلال الزفير ثم الماس والأوبال الأخضر الذي يتحول إلى أزرق حسب انعكاسات الضوء عليه. الأخضر كان بنفس أهمية الأزرق في هذه التشكيلة، لأنه كان يجسد أشجار النخيل التي تنمو على جوانب الشاطئ المتوسطي، ومن هنا كان الزمرد حاضرا بقوة إلى جانب الزفير والفيروز.

دار «بولغاري» أيضا أتحفت زبوناتها بفردوس متوسطي، استعملت فيه الجمشت والفيروز بسخاء وبدرجات درامية وغنية. الجميل هنا أن الدار لم تخاطب النخبة فحسب بل كل الإمكانات، بتقديمها ثلاث مجموعات، الأولى «كوتير» وهي باهظة الثمن نظرا لأحجارها الكريمة وجودتها وتصاميمها التي ظهرت على أشكال ثعابين تمرح بين الأعشاب، مصوغة بحرفية تشد الأنفاس. والثانية تحاكي الـ«كوتير» وترصعها أحجار شبه ثمينة، والثالثة تخاطب العامة، من دون أن تتنازل عن الأناقة والتصاميم المبتكرة.

* الحفلات التنكرية كانت مناسبة لعرض أفخم الأزياء والجواهر في القرون الماضية حين لم تكن هناك عروض أزياء عالمية. وفي فرنسا جعلها الملك لويس السادس عشر تقليدا من خلال «بال باريه» الذي كان يقيمه في فيرساي. لكن كانت ماري أنطوانيت السبب في ولادة نسخة أكثر خفة عندما هربت متخفية خلف قناع حتى ترقص في باريس في «بال دو لوبيرا». وأثناء الإمبراطورية الثانية تكيفت الحفلات الراقصة مع التمايل الحسي لرقصة الفالس وفساتينها الدوارة. وفي القرن العشرين صار الحفل الراقص أكثر أهمية، حيث لا يصبح للمدعوين في الأسابيع التي تسبقه، من حديث سوى أزيائهم واكسسواراتهم. بعض هذه الأزياء صممتها غابرييل شانيل (بال دو لا فوريه في عام 1939) وكريستيان ديور (بال دي روا إي دي رينز في عام 1949) وبيير كاردان (بال دو سييكل في عام 1951) وإيف سان لوران (بال دي تيت في عام 1956).