تصاميم تؤرخ لمجد الماضي وثرائه

مصممة الأزياء السورية نزهة عبد المحسن تعود خمسة آلاف عام للوراء لتقدم أزياء وحليا وعطورا

TT

نزهة عبد المحسن مصممة أزياء سورية قادمة من مدينة دير الزور في أقصى شرق سوريا، حيث ينساب نهر الفرات بسحره واخضرار ضفافه وجماليات جسره المعلق، وحيث تنتشر واحدة من أروع الحضارات الغابرة التي ما زالت شواهدها وأوابدها قائمة بجوار الدير. من هذا الطقس المفعم بجماليات التاريخ ومفرداته وتراثه وحيويته العصرية، قررت نزهة أن تقدم مجموعة من تصاميمها الجديدة. تشكيلة استلهمتها من المنطقة ومن حضارة ماري العريقة ومعالم مدينتها دير الزور المنتشية بالقرب من نهر الفرات الذي يعبر المدينة من وسطها فيقسمها إلى منطقتين، الأولى تسمى الحويجة والثانية تعرف بالشامية. تشرح نزهة لـ«الشرق الأوسط» أنها استلهمت تصاميمها الجديدة من بلاطات وقصور مملكة ماري قبل خمسة آلاف عام. فكل ما في هذه الحضارة له خصوصية إنسانية رائعة، بدءا من تمثال لأول مغنية في العالم القديم (أورنينا) وهي مغنية المعبد والفرقة الموسيقية المؤلفة من 26 عازفا، إلى تمثال ربة الينبوع الشهير وغير ذلك. تقول نزهة: «تفرغت في السنتين الأخيرتين لدراسة مفصلة للأزياء التاريخية، بالتدقيق في كل المعطيات المتوفرة في الكتب الأثرية والتاريخية، ودراسة ومتابعة تفاصيل اللقى الأثرية والتماثيل المكتشفة في مملكة ماري والمعروض بعضها في متاحف دمشق وحلب ودير الزور. بل درست حتى الجانب الاقتصادي للمملكة، بما في ذلك صناعاتها المختلفة، كالذهب والفضة ومن أين تستوردها. فقد كانت تستورد الأحجار الكريمة مثل اللازورد مثلا من أفغانستان والعقيق من اليمن والعاج من الهند، والصدف البحري من مملكة أوغاريت على البحر الأبيض المتوسط بجوار مدينة اللاذقية حاليا. كذلك درست الحالة الجغرافية وطبيعة الأقمشة المستخدمة في أزياء رجالها ونسائها كالموسلين والقطن والصوف، حيث كانت تصنع وتحاك في ماري التي كانت تتوفر فيها مهن وحرف نشطة. وبالطبع لن أستطيع تقديم نفس الألبسة القديمة لكني اجتهدت على تقديم مجموعة من التصاميم خصصتها هذا الموسم للأزياء النسائية، بينما ستكون تصاميمي المقبلة للرجال مستوحاة من زي الملك زمرليم وحتى زي لباس لأمير أوغاريت الذي قام بزيارته الشهيرة للمملكة ليشاهد قصر ماري الأعجوبة في ذلك الزمان». تتابع نزهة: «ما شدني خلال دراستي المفارقات الكثيرة في التزيين من نواحي الألوان والشكل والتصميم، ولاحظت أن كل ما هو عصري حاليا تعود جذوره إلى عصور قديمة جدا. وهذا ما شجعني على تقديم عرض، قبل أسابيع قليلة في مدينتي دير الزور، شاركت فيه فتيات من دير الزور حتى يأتي مجسدا لحقيقة موضوع التصاميم الفراتية». وتضيف نزهة: «سأعيد العرض في المستقبل القريب في دمشق، علما بأن تصاميمي مرفقة بإكسسوارات وحلي ومجوهرات بلغ عددها الـ14تصميما منها 13 تصميما لصبايا ونساء كبار وتصميم لفتاة صغيرة ارتدت زي المغنية أورنينا. ويتميز هذا الزي بتصميمه الكاشف عن محاسن الصدر وبعدم وجود أكمام. استلهمته من صورة لأورنينا تظهر فيها وهي تضع شالا وتلبس سروالا فضفاضا وتجلس على وسادة مزخرفة وتمسك القيثارة التي تعزف عليها. لهذا وضعت على صدر الزي سطرا من النوتة الموسيقية لمملكة أوغاريت كنوع من الزخرفة المعبرة».

وتشرح نزهة أنها حرصت أن تضفي لمسات معاصرة على المجموعة حتى لا تظهر مغرقة في التاريخ بشكل غير معقول. تقول: «رغم أنني قدمت زي أورنينا على فتاة صغيرة إلا أنني قدمته أيضا وفي العرض نفسه من خلال عارضة شابة، صممت لها أيضا قيثارة وقفت أمامها كديكور فقط، وليس للعزف بالتأكيد، ليشعر الحاضرون بأنهم يعيشون الفترة التي تعود إلى آلاف السنين. إلى جانب تصميم أورنينا، قدمت زيا آخر لا يقل أهمية استوحي من تمثال ربة الينبوع، تميز بطوله وبأنه من دون أكمام مع تطريزات، جسدت سمكات صاعدة ونازلة. فربة الينبوع ترتبط بالماء، الأمر الذي يفسر زخارف مائية على صدره وظهره وكأنها خطوط ماء منسابة عليه، فضلا عن اللون الأزرق وقماش اللاميه غير اللماع.. التصميم الثالث سميته فستان النهر وهو من وحي التراث المحلي ومن نهر الفرات تحديدا. هو عبارة عن قطعتين جلابية أو دشداشة وعباءة تسمى الزبون، واستخدمت فيه قماش اللاميه، وليس المخمل القديم الذي كان يستخدم لسماكته، حتى يأتي مطابقا لسمكن المخمل، استخدمته بطبقتين. وفي مفردات التصميم المذكور وضعت كزخرفة نموذجا للجسر المعلق الشهير في مدينة دير الزور ومعلمها الرئيسي والذي بني بخبرات فرنسية وبأيد عاملة من الدير». فما تجدر الإشارة إليه أن الجسر الذي أنشأ سنة 1930 جاء متزامنا مع اكتشاف مملكة ماري من قبل حملة الفرنسي أندرو بارو الأثرية في عام 1934، وهذا ما شجع المصممة على تخليد الحدثين في هذا التصميم. توضح: «زخرفت الأكمام بصور الجسر المعلق، ونهر الفرات في الجزء الأسفل من الجلابية إلى جانب زخارف تمثل قناطر الجسر والحبال الحاملة له. أما التصميم الرابع فسميته مملكة ماري ويتميز بخمس أو ست طبقات وضعت على كل طبقة اسم ماري، مع استعمال حجر اللازورد للاستفادة من الإشعاعات التي تصدر منه، إلى جانب العقيق. وطبعا هناك عدة تصاميم أخرى كلها مدروسة ومستوحاة من نفس المصدر الغني، بما في ذلك الإكسسوارات والحلي التي تباينت بين الفضة والذهب، بل وحتى العطور التي اشتهرت بها ماري التي كانت تشتهر بكونها عاصمة للعطور قبل خمسة آلاف عام. ومن هنا كان تقديم عشرة أنواع من العطور يدخل في بعضها الياسمين و11 نوعا من الزيوت عرضت في قوارير من الرخام السوري والمرمر لحفظ العطر لفترة طويلة. فهذه هي الطريقة التي كانت تستعمل منذ آلاف السنين».