سالفاتوري فيراغامو.. مصمم الأحلام

«الإلهام والرؤية».. معرض يتتبع مسيرة الحذاء كخزينة أسرار تاريخية وثقافية

TT

في سيرته الذاتية، كتب فيراغامو: «كيف يمكنني تفسير شعوري بالتصميم؟ عندما أحتاج إلى تقديم تصميمات جديدة، فإنني أنتقي من تلك الموجودة في ذهني، تماما كما لو أنني أنتقي تفاحة من طبق مليء بالتفاح أمامي عل الطاولة». ربما تمثل هذه العبارة للبعض نفيا صريحا من قبل الفنان المبدع، فيراغامو، اعتماده على أي مصدر خارجي للإلهام أو بعيد، لكن في فقرات أخرى من السيرة ذاتها، وفي إطار سعيه لشرح أسلوبه الفكري، يتناول فيراغامو بوضوح مسألة الذاكرة والتناسخ، ويحمل كلامه أصداء لبعض النظريات الثيوصوفية الغامضة، التي انتشرت في بعض دوائر فلورنسا الثقافية – الأرستقراطية، خلال عشرينات وثلاثينات القرن الماضي. كما تشير إبداعاته إلى تأثر واضح بحضارات بعيدة جغرافيا وتاريخيا، سواء كانت من اليابان أو أميركا أو القرون الوسطى وغيرها. وربما ينبع هذا التناقض الظاهري، في حديث فيراغامو عن نفسه، من حقيقة أن هناك صعوبة كامنة في شرح فكرة الإبداع بالكلمات، فالإبداع من الأمور التي تدرك وتحس فحسب.

هذه التناقضات أو الملامح هي التي يمكن التقاطها في معرض خاص يحتفل بمشواره الفني والإبداعي، افتتحته دار «سالفاتوري فيراغامو» في 26 مايو 2011، في مبنى بالازو سبيني فيروني التاريخي، الذي تتخذه مقرا رئيسيا لها منذ عام 1938. يعتبر المعرض أقرب إلى الاحتفال بعبقرية مصمم عشق تصميم الأحذية، والأزياء التي تصبغ على المرأة الكثير من الأناقة، من دون أن تتجاهل جانب الراحة والجانب الفني. مصمم تابع تغيرات العالم وفهمها بسرعة ليترجمها في تصاميم عصرية، تحمل نفحات عالمية استقاها من ثقافات بعيدة. الزائر للمعرض سيلاحظ أن أول قاعتين من المتحف خصصتا لتاريخ سالفاتوري فيراغامو وأعماله، مع توفير قاعدة عرض دوارة لأكثر تصميماته النسائية ابتكارا وإبداعا، أما باقي القاعات فتحتضن أوجها متنوعة من مسيرته، لكنها تصب في فكرة واحدة ألا وهي: استقاء الإلهام من قصة فيراغامو وأحذيته الشهيرة.

ويعد المتحف أهم وأضخم المشاريع التي تقدم على تنفيذها دار «موسيو سالفاتوري فيراغامو» على الإطلاق، ويضم مجموعة دائمة تتألف من 102 زوج من الأحذية الأنيقة، بجانب وثائق وصور مرتبطة بعملاء فيراغامو المشاهير، بينما يضم المعرض الذي سيقام داخل المتحف 255 قطعة، بينها أحذية من تصميم فيراغامو، تعود لعشرينات القرن الماضي، وصولا إلى نهاية خمسينات القرن ذاته، إضافة إلى 156 عملا فنيا من مجموعات خاصة وعامة، ليس في فلورنسا أو إيطاليا فحسب، وإنما من مختلف أرجاء العالم. اللافت أن المعرض يضم قطعا صنعت في البرازيل في القرن السادس عشر، بجانب قطع من مجموعة «كوزيمو إل دي ميديشي»، أول حكام فلورنسا من سلالة ميديشي في عصر النهضة، تم اقتراضها من متحف الأنثروبولوجيا والأنطولوجيا في فلورنسا في عصر النهضة، وقطع أخرى تنتمي للقرن الخامس عشر. وتأتي فكرة الاستعانة بقطع عتيقة من متاحف أخرى سعيا لتتبع المصادر والحقب التي استقى فيراغامو إلهامه منها.

وبالنسبة لمسألة الإلهام، نجد أن هناك فترتين في حياة هذا المصمم المؤثر، وتوافرت خلالهما الظروف المثالية لامتلاك الرؤية للإبداع والتأثير في فناني المستقبل: عند انتقاله لكاليفورنيا في منتصف العقد الأول من القرن الماضي وعند عودته لإيطاليا عام 1927، عندما قرر الاستقرار في فلورنسا، المدينة التي كانت آنذاك بمثابة القلب النابض للحياة الفنية والثقافية.

الملاحظ هنا أن تجربة فيراغامو في هوليوود، في وقت كانت صناعة السينما فيه في طور النشأة والتكوين، حققت للإيطالي الشاب النجاح والشهرة كـ«صانع أحذية النجوم»، إضافة إلى منحها إياه فرصة تكوين صداقات مميزة، والدراسة والتجريب بلا توقف. وفي حياة فيراغامو يحمل عام 1922 أهمية خاصة، حيث اكتشفت في ذلك العام مقبرة الفرعون المصري الشاب توت عنغ آمون في مصر، الحدث الذي أثر تأثيرا هائلا على صناعة الموضة العالمية بوجه عام، وشكل لفيراغامو، على وجه الخصوص، منبع إلهام كبير؛ فسرعان ما استغل فيراغامو الوضع وقدم تصميمات متنوعة لصنادل فريدة. ووقع حدث مشابه بعد بضعة سنوات عند اكتشاف «فيلا دي ميستري» (فيللا العجائب) في مومباي، التي استقى منها أيضا الكثير على الصعيد الفني، وتحديدا فن الغرافيك المعاصر. وتأثر فيراغامو بالاكتشاف الجديد وأطلق خطا من الأحذية أطلق عليه «بومبيان»، من دون أن ننسى صندل «كوتورنو»، المستوحى من العصور التاريخية الكلاسيكية، وهو مغلق حول الكاحل على غرار الصنادل الرومانية التقليدية.

من بين المصادر الأخرى التي استوحى منها فيراغامو تصميماته، كاليفورنيا وثقافتها المحلية، خاصة النقوش والزخارف وملابس الهنود الحمر، والأنسجة والألوان المميزة لملابس طائفة الـ«كويكر» في الولايات الأميركية الجنوبية.

عام 1927، قرر فيراغامو العودة لإيطاليا والاستقرار في فلورنسا؛ لحاجته إلى صانعي أحذية يدويين مهرة، بجانب رغبته في استكشاف مصادر إلهام في البيئة والثقافة الفنية المحلية. في فلورنسا، وقع في غرام الآثار التي تشتهر بها المدينة، والفنون التطبيقية التي وفرت توثيقا فريدا من نوعه وجد فيراغامو نفسه مشدودا إليها.

إلى جانب التاريخ والتراث، انبهر أيضا بتجارب الفنانين الطليعيين في استخدام المواد والألوان - خاصة المستقبليين منهم، وسونيا ديلوناي ومارسيل دوشامب وغيو بونتي - في عشرينات القرن الماضي، مع تحول فلورنسا لمركز ثقافي بارز.

الملاحظ أن علاقات فيراغامو الفنية مع أبناء عصره قامت على التأثر والتأثير، حيث تحولت إبداعاته لمصادر إلهام لكثير من معاصريه، الذين ارتبط معهم في الغالب بعلاقات تعاون مثمرة، مثلما حدث عندما صمم لوتشو فينا إعلانات لطرز معينة أبدعها فيراغامو، وعندما رسم بيترو أنيوني لوحة شخصية لفيراغامو، وصمم ألفارو مونيني واحدا من أولى أوشحته الحريرية تحت علامة فيراغامو التجارية.

لكن تبقى أبرز المراحل في حياة فيراغامو المهنية تعاونه مع ستيفن جونز، مصمم القبعات الشهير، الذي بدأت معالمه تتضح في باريس وفلورنسا، عندما زار الأخير فيراغامو واطلع على إبداعاته عن قرب. استقى جونز إلهامه في تلك الفترة من أعمال فيراغامو، حيث يضم المعرض الحالي 30 قبعة صممها جونز تعكس أفكار أساسية انعكست على تصميمات فيراغامو، بجانب تصميمه ثلاث قبعات جديدة لضمها بصورة دائمة للمجموعة المعروضة في المتحف.

يعلق جونز على هذه المشاركة بقوله: «من خلال هذا المعرض أتيحت لي فرصة دراسة أعمال فيراغامو عن قرب. أكثر ما شدني إليها روح المرح والعاطفة المتأججة التي تعكسها. مثلما الحال معي وقبعاتي، يضع فيراغامو كل حياته وخبرته العملية في حذاء يصممه».

سيمتد المعرض إلى شهر مارس (آذار) من العام المقبل في متحف سالفاتوري فيراغامو بفلورنسا.