القيصر يستقبل المهراجا في باريس

«شانيل» تترجم البذخ والفخامة الهندية بالكثير من الإكسسوارات والقليل من الألوان

ألوان «شانيل» الكلاسيكية مع قصات هندية
TT

«يتعامل الناس دائما مع الأزمات والمصاعب باللجوء إلى الجواهر».. هذا ما قاله مصمم دار «شانيل» كارل لاغرفيلد ، المعروف بالقيصر في أوساط الموضة، ردا على سؤال البعض واستغرابهم يوم الثلاثاء الماضي، بعد عرض تشكيلته السنوية الخاصة بـ«ذي ميتييه داغ» «The Métiers d’Art»، التي كانت فيها الإكسسوارات البطل بلا منازع. سبب السؤال والاستغراب أيضا أنها جاءت باذخة وفخمة بكل المقاييس، وفي وقت لا تتوقف نشرات الأخبار عن رسم صورة جد متشائمة عن الاقتصاد العالمي والخوف من انهياره. طبعا لاغرفيلد يعمل في دار تعتبر من أهم دور الأزياء العالمية، وبالتالي من الصعب أن تمسها الأزمة من قريب أو من بعيد بالنظر إلى مبيعاتها وتلهف الأنيقات على أزيائها وإكسسواراتها، وهذا ما بدا واضحا خلال العرض. وتعتبر التشكيلة التي قدمتها الدار وأثارت ضجة إيجابية جزءا من تقليد سنوي ابتدعته الدار في عام 2003، لتستعرض فيها حرفية الورشات التي تنضوي تحت أجنحتها، بدءا من «لوساج» للتطريز، إلى «ماسارو» للأحذية، و«ليماري» المتخصصة في تصميم الزهور والريش وما شابهها، و«ميشيل» للقبعات، و«ديسرو» لصناعة الأزرار المبتكرة، وأخيرا وليس آخرا «غوسن» لصناعة قطع الذهب والفضة.

وتتبع الدار في كل عروضها الخاصة بـ«ذي ميتييه داغ» (The Métiers d’Art) استراتيجية ذكية تحرص فيها على أن تكون مختلفة تماما عن باقي خطوطها، فهي أكثر فخامة من خط الأزياء الجاهزة، وأقل سعرا من الـ«هوت كوتير» مثلا. أي بين 2500 جنيه إسترليني هو سعر جاكيت جاهز، وما لا يقل عن 20000 جنيه إسترليني هو سعر جاكيت مفصل على المقاس. وقد أكدت التجارب المتكررة أنه على الرغم من أسعار قطع هذا الخط، فإنها تشهد نجاحا فنيا وتجاريا شجع على استمرارها. الفضل يعود إلى محدوديتها التي تجعلها مغرية بالنسبة للباحثات عن التميز والتفرد، وإلى كونها توظف خبرات وحرفية الورشات التي تمتلكها الدار وترقى بها إلى مستوى الفنون، خصوصا فنون التطريز الذي يضاهي تطريز الهند ويتفوق عليه، إذا أخذنا بعين الاعتبار أن دار «لوساج» عريقة في هذا المجال، وتجمع في معاملها حرفية الهند ولمسة باريس العصرية.

ما يميز هذا الخط أيضا أن «شانيل» تتوجه فيه كل سنة إلى وجهة معينة تغرف من حضارتها وروحها، وتحتفي بها في الوقت ذاته. فقد توجهت سابقا إلى لندن، وشنغهاي، وإسطنبول وموسكو وغيرها من العواصم العالمية الفعالة في صناعة الموضة، سواء كانت مؤثرة أو سوقا مهمة.

هذه المرة قررت أن تكون الوجهة هي الهند بكل غناها الثقافي والحضاري، الأمر الذي تجلى حتى في الديكور، الذي غير معالم «لوغران باليه» مكان الحدث. فقد توسطته طاولات، أو بالأحرى موائد ضخمة تليق بمهراجا، نثرت فوقها بتلات من الورد وازدحمت فوقها أطباق الفواكه الموسمية، وحلويات المكرون وغيرها من الحلويات و«التسالي» الهندية، بينما تدلت من أعلى ثريات ضخمة من الكريستال لتدعيم الإحساس بالبذخ وعهد ذهبي ولى في الهند، إلى جانب شمعدانات متراصة على طول الموائد مضاءة بشموع كهربائية.

الطريف أنه بعد العرض تبين أن المصمم كارل لاغرفيلد لم يزُر هذا البلد من قبل، وهو الأمر الغريب بالنسبة لمصمم مخضرم مثله، وعندما سئل حول هذا الموضوع رد قائلا إن: «الفانتازيا أفضل من الواقع». ويبدو أن الفانتازيا أصبحت لصيقة في ذهنه عندما يتعلق الأمر بهذا الخط، إذ إنه عندما قدم تشكيلة «باريس - شنغهاي» في العام الماضي، تصور أيضا رحلة قامت بها كوكو شانيل إلى الصين رغم أن هذه الأخيرة لم تزُر أي بلد آسيوي طوال حياتها. ومع ذلك نجح أن يلتقط فيها كل التفاصيل المطلوبة لجعل عرضه متميزا وغنيا بالإيحاءات الشرقية والحرفية التي تعتبر الهدف من هذه التشكيلات السنوية. فكما يدل اسمها «ذي ميتييه داغ»، ومعناها «حرفية الفنون»، فإن همها ينصبّ على تسليط الضوء على قدرات كل الورشات التي تتعامل معها الدار وترعاها، بل ويمكن القول إنها تفتح لكل منها المجال لاستعراض قدراتها الفنية والحرفية بشكل لا يمكن القيام به في خطوط الأزياء الجاهزة أو الـ«هوت كوتير» أو الـ«كروز» وغيرها.

ومع ذلك، كان مثيرا أن تكمن قوة هذه التشكيلة التي سافر فيها لاغرفيلد إلى بومباي، ليس في التطريزات أو الألوان المتوهجة، بل في الإكسسوارات التي تفننت فيها هذه الورشات وأخذت شكل جواهر، استقوت في الكثير من الأحيان على الأزياء. وحسب اعتراف بعض الحاضرات فإنها كادت أن تغطي عليها في حالات كثيرة، بدءا من الخواتم المتدلية من الأنوف أو الجبين، إلى اللآلئ المصاغة على شكل باقات ورد تتدلى بسخاء على الصدر لتزيد الأقمشة المترفة فخامة، مرورا بالأساور والخلاخل.

في لقاء له مع وكالة «أسوشييتد برس» شرح لاغرفيلد اهتمامه هذا قائلا: «قد يبدو الأمر غريبا، لكن الهند قد يكون البلد الوحيد الذي ترى فيه حتى الفقيرات يتميزن بنوع من الأناقة. فرغم أنهن لا يمتلكن أي شيء، فإنهن دائما يرتدين أساور، اثنتين أو ثلاثا على الأقل، وساريا ورديا أنيقا.. إنهن شجاعات في الحقيقة».

أما الفانتازيا التي أشار إليها لاغرفيلد، فلم تقتصر على المكان والإخراج المسرحي، بوليمته وإضاءته وأجوائه العامة، بل أيضا في الأزياء التي تضمنت الكثير من جوانب الثقافة الهندية عبر العصور والمناطق المختلفة، من جايبور إلى حيدر آباد. فقد أخذ من كل منها لمحة أضاف إليها بصمته وروحا باريسية لكي لا تغيب صورة «شانيل» من مخيلة كل من تقع عليها عيناه.

شملت التشكيلة مجموعة متنوعة من المعاطف الفخمة بتصاميم منسدلة تستحضر امرأة أنيقة بميول «هيبية»، بالإضافة إلى أخرى مفصلة بتطريزات خفيفة عند الرقبة أو الأكمام، بينما جاءت معظم هذه المعاطف مزينة بحواشٍ من الفرو الصناعي، أو الصوف المنكوش. أما سراويل الحرير فاتسمت باتساع محسوب، مستوحى من زي «سلوار قميص»، وهو زي مكون من سروال فضفاض، وقميص طويل يصل إلى الركبة أو يتعداها. وقد امتد هذا الإيحاء إلى التنورات، التي جاءت أيضا واسعة ومنسدلة بسخاء أو ملتفة حول الجسم، ونسقها المصمم مع جاكيتات قصيرة من التويد وأحذية عالية الرقبة تغطي الركبة، مصنوعة من الجلد، لكن تبدو وكأنها بنطلونات «شوريدار» (الضيقة) التي ترتديها نساء الهند تحت قمصان طويلة.

كانت هناك أيضا تنورات من حرير تصل إلى الركبة وتلتف على الجسم بشكل يحاكي الساري بطياتها. ولم تقلّ فساتين السهرة فخامة ولا عملية عن أزياء النهار والكوكتيل، سواء كانت على شكل فساتين بتنورات طويلة تكاد تلامس الكاحل ولا تتخطاه، أو على شكل سلوار قميص. وفي الحالات التي جاءت فيها الفساتين والتنورات بأقمشة شفافة أو بفتحات، فإنها نسقت مع ما يشبه «السلوار» الضيق من تحتها لتمنحها صبغة العملية والواقعية. وطبعا لا يمكن أن يكتمل عرض من عروض «شانيل» من دون قماش التويد، سواء كان الإلهام من الصين أو من أقصى الأرض، فهو ماركتها المسجلة التي تتكرر بشكل أو بآخر في كل العروض. هذه المرة أدخل عليه المصمم خيوطا من ذهب حتى يتماشى مع فخامة التشكيلة. ورغم أن الفرق بين الساري المصنوع من الحرير وتايور التويد مثل الفرق بين الأرض والسماء، فإنهما وكما تظهر صور العرض تزاوجا بشكل عجيب وحالم على يد لاغرفيلد، وهذا ما جعل التشكيلة ناجحة ومتوازنة إلى حد كبير. فالمصمم غرف ما فيه الكفاية من أجواء الهند من دون أي إغراق فيها، حيث اكتفى بصورة فنية رسمها في ذهنه ونفذها بطريقته لكي تحمل شخصية «شانيل». أكبر دليل على هذا أنه لم يعتمد على الألوان الصاخبة والمتوهجة، التي قد تكون أول ما يتبادر إلى الذهن عند ذكر الهند، بل وظف ألوان «شانيل» المعروفة مثل الأبيض والأسود والرمادي وأضاف إليها بضع زخات من الذهبي وقليلا جدا من الألوان ليمنح ترجمته مصداقية ورقيا في آن واحد.

لم يعتمد أيضا على التطريزات الغنية في الأزياء، رغم أنه كان من الممكن أن تمنحه دار «لوساج» أجمل التطريزات وأفخمها، واعتمد في المقابل على الإكسسوارات لخلق تأثير التطريز والتعويض عنه. وهي لفتة مهمة وذكية في آن واحد، تتيح للمرأة، أيا كانت جنسيتها وأسلوبها، أن تستعمل كل قطعة بالطريقة التي تراها مناسبة لشخصيتها ولأسلوبها.

بهذا نجح كارل لاغرفيلد في ما يحاول المصممون الهنود تحقيقه منذ سنوات، ألا وهو تطويع الساري ومنحه صبغة عالمية راقية وعملية وشابة. فمنذ سنوات وهم يحاولون إدخال طرق مختلفة وجديدة لارتدائه واستعماله، مرة بتغليفه بثوب قصير لإعطائه صورة ظلية تشبه العباءة، ومرة بتنسيقه مع بنطلونات الجينز لإدخاله أماكن العمل، خصوصا بعد أن فقد مكانته أمام الأزياء الغربية في هذا المجال، مما حذا ببعضهم إلى معانقة زي الـ«سلوار كاميز».

ما يشفع لهم أن كارل لاغرفيلد رسم صورة الهند في ذهنه وهو في باريس، بينما هم يعيشون واقعهم بشكل يومي مما يجعل الحلم صعبا في الكثير من الأحيان.

ستطرح التشكيلة في الأسواق ابتداء من شهر مايو (أيار) المقبل.