رومانسية التفصيل وشاعرية الألوان

أول أسبوع موضة رجالي بلندن ينطلق قويا بإرثه وتاريخه

TT

وأخيرا تحقق الحلم وشهدت أوساط الموضة والمهتمون بصناعة الموضة الرجالية ولادة أول أسبوع رجالي في لندن. افتتاحه كان أرستقراطيا على يد الأمير تشارلز، وسجل مشاركة بيوت أزياء من «سافيل رو» إلى جانب «هاكيت»، و«دانهيل» وغيرها من البيوت المتمكنة من فنون التفصيل، والتي يعتبر الأمير البريطاني خير سفير لها. لكن أجواء الألعاب الأولمبية واحتضان لندن لها للمرة الثالثة لم يكن سيمر مرور الكرام، لهذا كان من الطبيعي أن يكون لها حضور قوي وواضح في العديد من العروض. وربما يكون هذا المزيج بين الكلاسيكي و«السبور» هو الذي يميز الموضة البريطانية على العموم، بحكم أنها تستقي الكثير من توجهاتها وتقليعاتها من ثقافة شوارعها.

الفكرة من الأسبوع، كما بدا واضحا من كلام المسؤولين، ليس التملص من جينات العاصمة البريطانية التي يمتزج دمها بالابتكار والجنوح إلى اللامعقول، بقدر ما هي إبراز الوجه غير المكشوف دائما للعيان من الموضة الإنجليزية. وجه يخفي تحت الغرابة براعة على التفصيل لا يعلى عليها. وهذا ما أكدته دار «هاكيت» بعرض يضج بالأناقة الرسمية التي حقنت بجرعة عصرية تخاطب الآباء كما تخاطب الأبناء. كان العرض في دار الأوبرا الملكية بـ«كوفنت غاردنز» بعظمة معمارها وزخارفها التي أخذتنا إلى عصر الآرت ديكو. وهو العصر الذي استحضرته هذه التشكيلة، التي طبعتها فترة العشرينات، وتحديدا شخصية «جاي غاتسبي» بطل رواية سكوت فيتزجرالد «ذي غرايت غاتسبي»، التي تحولت إلى فيلم كلاسيكي من بطولة روبرت ريدفورد، ومؤخرا في نسخة عصرية من بطولة ليونارد دي كابريو. كل ما فيها جاء يضج بالحيوية والرومانسية، وخصوصا أنها طعمت بلمسة إنجليزية أرستقراطية. فبينما تميزت الألوان بدرجات الكريم الهادئة ودرجات البيج إلى جانب زخات من ألوان البحر مثل الأزرق والمرجان، تميزت البدلات بثلاث قطع مفصلة بطريقة رسمية عصرية، تميل في بعض الأحيان إلى الداندية، الأسلوب الذي ولد في عهد ولي عهد بريطاني آخر، أصبح في ما بعد الملك جورج IV. لم تستغن التشكيلة عن أي إكسسوار يمكن أن يزيد من أناقتها الرسمية وأحيانا «دانديتها»، بدءا من المنديل الحريري، إلى القبعات المتنوعة التصاميم والخامات، مرورا بالأوشحة الطويلة. ضمن هذا الزخم من البدلات بدا جاكيت أسود من الجلد نشازا وكان مكانه الأصح في عرض «توبمان» الذي تلاه في نفس اليوم. وربما يكون التوقيت هو القاسم المشترك الوحيد بين العرضين، فبينما كان الأول كلاسيكيا رومانسيا عصريا، كان الثاني «سبور» يقطر بالشقاوة. أقيم عرض «توبمان» في مقر البريد القديم بـ«هاي هولبورن» وكانت رحلة الرجل الذي رسمته ليس على متن يخت أو إلى جزيرة في الكاريبي أو الريفييرا الفرنسية، بل مغامرة لطالب يريد أن يستكشف العالم على الأقدام أو على القطار وبالتالي يتوخى أزياء «سبور» بعيدة عن الرسمية. فحتى الشورتات المفصلة هنا تم تنسيقها مع قمصان منقوشة بألوان متضاربة وصارخة للتخفيف من رسميتها، كذلك الكنزات الخفيفة والسترات الملونة التي يمكن أن تكون إضافة عملية، تحسبا لتغير أحوال الطقس. للوهلة الأولى تبدو التشكيلة وكأنها لشاب يفضل الراحة على الأناقة، لكن بعد بضع دقائق يتأكد أنها تخفي بين ثنياتها وطياتها تفصيلا وانتباها للتفصيل، بما فيها الشورتات والقمصان وإن كانت تفوح بروح المرح من حيث ألوانها الصارخة ونقوشاتها المتضاربة. نعم هي ليست لرجل كلاسيكي ينوي رحلة صيد في الريف الإنجليزي أو على متن يخت، بل هي لشاب يتوق إلى مغامرة أو رحلة كشفية وهو ما لم تحاول أن تخفيه ونجحت فيه.

المصمم عمر كشورة أيضا قدم تشكيلة مريحة للعين وخفيفة الظل بأقمشتها الشفافة أحيانا، وإن كانت أجمل القطع هي تلك المغزولة بالصوف. على الأقل يمكن القول إنها أكثر واقعية من تشكيلة الثنائي «ميدهام كيرشوف» التي غلبت عليها ألوان النيون مثل الوردي إلى جانب نقوشات غلبت عليها الورود، وتذكر بالجانب الذي تحاول لندن أن تتملص منه وهو الجانب المجنون، الذي قد يخاطب شريحة من الشباب لكنه لا يخدم بالضرورة الصورة التي يحاول مجلس الموضة البريطانية عكسها للعالم.

ويبدو أن النقوشات من التيمات التي داعبت خيال العديد من المصممين خلال الأسبوع، حيث ظهرت أيضا على شكل دببة في عرض «جي دبليو أندرسون» وبألوان جريئة تباينت بين الوردي والأصفر. المصمم ماثيو ميلر أيضا عانق الابتكار من خلال «شورتات» قصيرة جدا، إلى جانب بدلات حيوية تخاطب الشباب في المقام الأول.

عرض جوناثان سوندرز كان من العروض المهمة خلال هذا الأسبوع، لسبب واضح، هو أن المصمم فرض نفسه في مجال الأزياء النسائية، وأصبح يحسب له ألف حساب فيها. لهذا فإن المتوقع كان أنه سيبدع في الجانب الرجالي بنفس القدر، وهو ما كان. فقد قدم تشكيلة تضج بالألوان والأناقة غلب عليها التقليم بخطوط عريضة ونقوشات بتقنية الديجيتال التي يتقنها. قوتها أنها تخاطب كل الأذواق وكل الأساليب، فالرجل الكلاسيكي سيجد بدلات مفصلة هنا، والشاب الذي يريد أناقة تميل إلى «الكاجوال» أيضا سيجد بغيته فيها. فحتى الإطلالات التي بدت فيها الألوان صارخة قد تبدو محافظة في حال تم تفكيكها واستعمالها بشكل آخر.

فسر المصمم جرأة الألوان والنقوشات والتصاميم المحددة على الجسم بأنه استوحاها من أسلوب المغني ديفيد بوي، قائلا: «إنه أكثر الرجال أناقة.. أعتقد أن ما يميزه شجاعته على جمع الألوان والنقوشات المتضاربة بشكل يضفي عليه الرجولة والإثارة على حد سواء». وأضاف: «من الصعب على أي أحد غيره أن يوازن بين كل هذه العناصر، وأتمنى أن أكون نجحت في تحقيق كل هذا في هذه التشكيلة». لكن العنصر الذي جعله ينجح في تحقيق هذا التوازن في تشكيلته لربيع وصيف 2013 أن اللمسة العصرية كانت قوية فيها إلى جانب الإرث الإنجليزي المتمثل في التفصيل، سواء تعلق الأمر ببنطلون مستقيم أو سترة رشيقة تعانق الجسم أو بدلة رسمية أو معطف بحزام منقوش.

ماركة «إي توتز» أيضا تشارك سوندرز في هذه الرؤية، حيث قدمت تشكيلة براقة بألوان المجوهرات والبهارات مثل الفوشيا والزعفران، في بدلات مفصلة للتخفيف من صرامتها. الملهم في هذه التشكيلة كان المستكشف البريطاني ويلفريد ثيسيغر، لهذا كانت جادة وفي الوقت ذاته تعطي إحساسا بالانتعاش والحنين إلى الماضي. ما لا يمكن تناسيه هو أن جينات الدار متجذرة في التفصيل وفي ثقافة «سافيل رو» مما يفسر قدرتها العجيبة على ترويض الأكتاف والخصر لتخلق سترات متوازنة، تتمتع بكل التفاصيل المطلوبة من دون مبالغة. كل ما قامت به في هذه التشكيلة أنها حقنتها بجرعة خفيفة من المرح تجلت في الألوان الصارخة مثل الفوشيا والأصفر والأزرق الفيروزي. وبحكم جذورها الإنجليزية كان مفهوما استلهام المصمم باتريك غرانت، التشكيلة من شخصية المستكشف البريطاني ويلفريد ثيسيغر، ما لم يكن مفهوما أن هذا الأخير عانق البساطة وخاصم ترف الحياة المادية في رحلاته وحياته، بينما التشكيلة بكل سلاسة تفصيلها وتفاصيلها تعانق الترف بكل معانيه.

* يمكن القول إن التفصيل على المقاس ولد في بريطانيا، لهذا فإن أصوله لا تزال من الأمور التي يفخر بها شارع «سافيل رو»، حيث توجد العديد من الشركات المتخصصة في الأزياء الرجالية. في أي واحدة منها، يمكن للزبون أن يختار كل تفاصيل البدلة من البداية إلى النهاية بما في ذلك اختيار الأزرار وشكلها. فالمهم هو أن يحصل في النهاية على بدلة لا مثيل لها. هذا الوجه ظل حكرا على النخبة والعارفين لعقود طويلة، قبل أن يقرر الجيل الجديد من أصحابها أن يتخلصوا من نخبويتهم ويدخلوا مجال البدلات الجاهزة. فالزمن تغير والاستمرار من دون تسويق ومن دون مخاطبة كل الأجيال لم يعد ممكنا بعد أن دخلت معظم بيوت الأزياء المنافسة.