موسم الهجرة شرقا

المصممون يغازلون الصين بكل الأسلحة والوسائل

TT

منذ عشرين عاما تقريبا كانت مهمة عرض الأزياء حكرا على نسبة عالية من الشقراوات وحفنة من السمراوات، كن يتهادين على المنصات بقدودهن المياسة ونحافتهن التي لا تضاهيها إلا شماعات الملابس أحيانا. وفي الجهة المقابلة كنا نرى مشتريات وزبونات من أميركا والشرق الأوسط وأوروبا يحتللن المقاعد الأمامية في موسم الـ«هوت كوتير» تحديدا. فهذا الموسم يرحب بضيفات يتمتعن بذوق رفيع وجيوب عامرة؛ لأن ما يقدمه لا يعترف بالأسعار الصاروخية بقدر ما يعترف بالفنية العالية والتصاميم الفريدة التي تضمن للزبونة الحصول على قطعة لا مثيل لها، لا يمكن أن ترى أنثى أخرى بها في أي مناسبة من المناسبات. مرت السنوات وتغيرت الخريطة الشرائية وتغيرت معها الوجوه. بدأنا نرى ملامح آسيوية تتسلل إلى هذه العروض ليزيد عددها موسما بعد موسم، سوءا على المنصات أو المقاعد الأمامية. التفسير البريء لهذه الموجة أن المصممين، وبعد أن تعبوا من شد الرحال إلى الشرق الأقصى ليستقوا منه أفكارا وألوانا يصوغونها في فساتين على شكل كيمونو أو مزينة بفن الأوريغامي، كان لا بد لهم من زيادة الجرعة وإيجاد لغة مباشرة أكثر. لكن التفسير الواقعي هو أن الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالعالم منذ سنوات لم تترك لهم أي خيار ثان سوى هذه المغازلة الصريحة التي تدفعهم إلى الهجرة شرقا. فما من شك أن أسواق الشرق هي أمل المنتجات المترفة.

المصمم الفرنسي الشاب ماكسيم سيموينز أكد هذا الرأي قائلا، «الإقبال على المنتجات المترفة في آسيا يتزايد بسرعة والفضل يعود إلى الصين التي ستصبح السوق الأولى في العالم مستقبلا». من جهته، قال المصمم ستيفان رولان، الذي نظم أول عرض أزياء له في سنغافوره في شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي إن، «سنغافوره تزدهر وبإيقاع سريع، لهذا أعتقد أن الوقت قد حان لكي نحمل لها باريس ونقدم لها أجمل ما يولد فيها».

العنصر المهم إلى جانب تزايد أهمية السوق الآسيوية عموما والصيني خصوصا، أن معظم المصممين، إن لم نقل كلهم، أصبحت لهم محلات في هونغ كونغ أو شنغهاي أو بجين أو ماكاو وغيرها من المدن الرئيسية في الصين والبقية تأتي. فالزبون الآسيوي يمتلك إمكانات مادية هائلة فضلا عن تعطشه لكل ما هو جديد ومتميز بعد عقود من الحرمان، وبالتالي ليس من الذكاء التجاري الاكتفاء بانتظار حضوره إلى العواصم الأوربية للتسوق، بل لا بد من التوجه إليه في عقر داره أيضا. فهذا بأهمية استقباله في بيوتهم والترحيب به، الأمر الذي تقوم به بيوت أزياء مثل «ديور»، «شانيل»، «جيفنشي» و«إيلي صعب» وغيرها على أحسن وجه. فهم يحرصون في كل موسم على استضافة نجمات صينيات، حسبما أكدته هوانغ هانغ محررة أزياء في مجلة «ويمنز وير دايلي». أما الاستعانة بعارضات آسيويات فكانت من تحصيل حاصل، إذ كيف سيجدون لغة أسهل وأبلغ لمخاطبة زبوناتهن في المنطقة؟

بيد أنه لا بد من الاعتراف بأن مشاركة عارضات آسيويات في العروض الباريسية في الآونة الأخيرة أصبحت عادية لا تثير الأنظار أو النقاش، مما جعل المصمم الفرنسي ستيفان رولان يزيد من جرعة الإبهار والجذب، باستعانته بفان بينغ بينغ، وهي واحدة من أهم نجمات البلد لكي تقدم تحفته الأخيرة، والتي كانت عبارة عن فستان أبيض ظهرت فيه وكأنها حورية بحر.

كان واضحا بأن المصمم المبدع يريد أن يختلف عن الآخرين، وكان واضحا أيضا أنه يريد أن ينشر سحر لمساته الفنية إلى أنيقات آسيا عموما والصين خصوصا. أمر ينكر أن يكون وليد الساعة، بل بدأ منذ نحو خمس سنوات تقريبا، حين لفتت انتباهه صور إمبراطورات الصين فضلا عن تقنيات اللك التي ولدت فيها واستعملها في كثير من فساتينه الفنية، فضلا عن البورسلين ورسوماته. كل هذه العناصر أثارت اهتمامه وحفزته على ترجمتها في أعماله بشكل أو بآخر. فإلى جانب تقنيات اللك التي طوعها على القماش، اختتم منذ بضعة مواسم عرضه بفستان مستوحى من الكيمونو يقدر وزنه بـ50 كيلو غراما اعتقد البعض أنه بإيحاءات يابانية، لكن المصمم سارع بتصحيح المعلومة قائلا بأنها إيحاءات صينية. وشرح أنه استلهمه من زي الـ«هانفو» الذي يعتبر النسخة الصينية للكيمونو الياباني ويأتي على شكل معطف وأضاف: «لقد استلهمته من أزياء تقليدية صينية قديمة؛ لأن كل شيء له جذور صينية في الحقيقة. فعلى الرغم من أن الكل يعتقد بأن الكيمونو ياباني قح، فإنه عكس ذلك بالنظر إلى تفاصيله مثل الأكمام وغيرها من التفاصيل». وعلى الرغم من أن اسم ستيفان رولان أصبح أشهر من نار على علم فيما يخص خط الـ«هوت كوتير» بعد أن كسب ثقة الملكة رانيا العبد الله ملكة الأردن، والشيخة موزة، زوجة أمير قطر ولائحة طويلة من النجمات، إلا أنه لم يلفت انتباه السوق الصينية إلا في شهر أكتوبر من العام الماضي عندما نظم عرضه في سنغافوره وبعد أن ظهرت مجموعة من النجمات الآسيويات بفساتينه في مناسبات كثيرة. ومع ذلك، ينفي المصمم أن يكون هدفه من التعاون مع النجمة فان بينغ بينغ تجاريا محضا يمهد لغزوه الصين، لافتا إلى أنه في كل تعاوناته مع النجمات يحرص أن تولد العلاقة بشكل إنساني وأن يكون فيها نوع من الكيمياء. فهو يحب النجمات الذكيات وأن تكون وراء العلاقة أو بالأحرى التعاون، كما يقول: «قصة.. يجب أن تكون هناك كيمياء بيننا» مضيفا: «بالنسبة لفان بينغ بينغ فهي واثقة من نفسها، ومحترفة في تعاملها مع الآخرين، والأهم من كل هذا أنها تفهم كل شيء من الوهلة الأولى ولم أجد أي صعوبة في التعامل معها. عندما بدأت تمشي على المنصة كانت عفوية ومدهشة.. مزيج بين النعومة والقوة».

ومع ذلك لا يمكن تجاهل الجانب التجاري في هذا التعاون الذكي؛ لأنه مهم لأي مصمم، فما البال إذا كان هذا المصمم لا يتمتع بغطاء مادي من مجموعة كبيرة تموله. ستيفان رولان، ومنذ أن ترك دار «شيرير» ليطلق داره الخاصة يحرص أن يكون مستقلا في فكره وأعماله، وبالفعل نجح في تحقيق كثير في غضون سنوات قليلة بفضل فنيته وأسلوبه الذي يجعل لموسم الـ«هوت كوتير» الباريسي معنى خاصا. توجهه إلى الشرق الأقصى نقلة طبيعية بعد أن حقق نجاحات كبيرة في الشرق الأوسط. فالمنطقة متعطشة لكل ما هو مترف وعدم التوجه إليها لقضم قطعة من كعكتها الدسمة، يعتبر تكاسلا أو عدم بعد نظر. فبمرور كل موسم، تزيد الصورة وضوحا وترسخا، وهي أن السوق الآسيوية منقذ مرحب به للمنتجات المترفة، بما فيها الساعات الفاخرة والـ«هوت كوتير» والإكسسوارات وغيرها، وبأن عقد الآمال على هذه السوق، له ما يبرره. فقد نشرت صحيفة الـ«نيويورك تايمز»، مثلا، تقريرا عن مراكز الثروة العالمية لعام 2011 صدر عن «بوستن كونسالتين غروب» جاء فيه بأن سنغافوره وحدها بها أكبر عدد من أصحاب الملايين في العالم بالنظر إلى الكثافة السكانية. لهذا ليس غريبا عند إلقاء نظرة على منصات العروض أو المقاعد الأمامية أن نلاحظ تزايد نسبة الآسيويات. فبين عامي 2008 و2009، ومع تقلص عدد زبونات هذا الجانب في الأسواق التقليدية مثل أميركا وأوروبا، لم تجد بيوت الأزياء الكبيرة والمصممين بدا من تغيير وجهتهم إلى أسواق روسيا والشرق الأوسط وطبعا آسيا التي برهنت على تعطش لا يضاهى أزياء فريدة من نوعها بغض النظر عن أسعارها. ويروج حاليا بأنها المنقذ والمنعش لمجال الموضة خصوصا والمنتجات المترفة عموما وإن كانت هناك مخاوف في الأسابيع الأخيرة تقول بأن هناك برودا في الحركة وأن عدوى الأزمة انتقلت إلى المنطقة، ولو بنسبة ضعيفة. عدوى تجد لها بيوت الأزياء الكبيرة دائما مضادات قوية تأخذ شكل أزياء وإكسسوارات لا تقاوم وفتوحات لا تتوقف.

ففي عام 2011 افتتحت «لوي فويتون» 39 محلا في الصين متشجعة بحجم الإقبال على حقائبها، سواء حقائب اليد أو المخصصة للسفر، ولا تزال تتوسع في مناطق أخرى إلى الآن، علما بأنها تلقى منافسة شرسة في هذا المجال من قبل بيوت أزياء أخرى مثل «هيرميس» و«شانيل» و«غوتشي» وغيرها. فـ«غوتشي» مثلا يشتمل على 42 محلا خاصا به و«بيربيري» 57 محلا في 33 من المدن الصينية. «ديور»، «فندي»، «جيفنشي»، «إيلي صعب» وآخرون لها أيضا محلات في المنطقة، والبقية تأتي.

فحسب دراسة قامت بها «باين أند كومباني» ستحتل الصين في عام 2011 المرتبة السادسة في العالم من حيث صرفها مبالغ مهمة على منتجات مترفة مقارنة بأجور سكانها. فامرأة تتقاضى راتب 15.000 دولار في السنة، مثلا، تصرف ما يقارب الـ2000 دولار على قطعة واحدة قد تكون حقيبة يد أو فستانا أو معطفا. التفسير أن المجتمع الصيني، وبعد أن عاش الفقر المدقع لسنوات، استلذ الآن طعم الرفاهية ولا يريد أن يتخلى عنه. كما أن الطبقات التي كانت فقيرة أصبحت بعد الانفتاح والطفرة الاقتصادية متوسطة، مما فتح شهيتها على متع الحياة وكل ما هو مميز. ثم لا ننسى أن الحديث هنا عن مجتمع يشجع على سياسة طفل واحد لكل أسرة، مما يعني أن هذا الطفل عندما يكبر يصبح لديه ستة أشخاص يمولونه: الأب والأم والجدين من الجهتين. أي هو لا يحتاج إلى صرف أي من راتبه على السكن أو مصاريف الأكل وغيرها، بل يمكن أن يتغذى ويتعشى بالترف الذي تقدمه له بيوت الأزياء العالمية.