تشكيلات تجارية فنية تفضل القوة على الإثارة

«أسبوع لندن» لربيع وصيف 2013.. الهدوء الصارخ

TT

في الأسبوع الماضي، حط عشاق الموضة وصناعها الرحال في لندن. كان يوم الجمعة عرسها الذي امتد طوال خمسة أيام عاشت فيه العاصمة فصلا جديدا من سلسلة أفراحها التي بدأت باحتفالات اليوبيل الماسي للملكة إليزابيث الثانية، وانتهت باستضافة العاصمة البريطانية دورة الألعاب الأولمبية لعام 2012.

النتيجة التي يخرج بها كل من تابع العروض التي وصلت إلى 52 عرضا، أن لندن تستحق الميدالية الذهبية لموسمي الربيع والصيف المقبلين، متفوقة على منافستها نيويورك من حيث تقديم الجديد، وبالنظر للأيام الأولى من أسبوع ميلانو، فهي تتفوق عليه أيضا بالابتكار والحيوية. ولا شك في أنها ستتفوق على باريس، إن لم يكن من حيث الأزياء، فمن حيث احترام توقيت بدء العروض. ففي لغة الموضة، يعتبر تأخير 15 دقيقة لا شيء مقارنة بـ45 دقيقة أو أكثر هي المعتادة في باريس، مثلما حصل في عرض جون بول غوتييه خلال موسم الـ«هوت كوتير» في شهر يوليو (تموز) الماضي. والفضل هنا لا يعود إلى دقة ساعات «أوميغا»، الراعية الدائمة للألعاب الأوليمبية، بل إلى داعمي الأسبوع، من أمثال المليونير فيليب غرين، صاحب محلات «توب شوب» و«مجموعة أركديا» وغيرها، الذي خصص قاعة في ساحة «بيدفورد» وسط لندن، أقيمت فيها عروض من يمولهم مثل ماريا كاترانزو ولويز غراي و«بيتر بيلوتو» وغيرهم، مما ساعد على تخفيف الثقل عن قاعة العروض الرسمية في «سومرست هاوس». وهذا يعني أيضا عدم استعمال نفس العارضات، وما يسببه الأمر من تأخير بسبب انتظارهن وتحضيرهن. عرض لويز غراي مثلا تأخر 5 دقائق فقط، وهو ما يعتبر رقما قياسيا، لم ينجزه سوى مارك جايكوبس، مصمم دار «لوي فويتون» الفرنسية، حين بدأ عروضه سابقا في الوقت المقرر، مما فوت على الكثير من الضيوف متابعته.

طوال الأسبوع اللندني، كان هناك إحساس بالاعتزاز والاحتفال بالروح البريطانية رغم غياب الجنون الفني المعهود، الذي يشكل واحدا من أهم الجينات التي تميزه عن باقي الأسابيع العالمية. فقد خفت شطحات المصممين وجنوحهم إلى الابتكار المجنون وحلت محلها أناقة محسوبة شفعت للمصممين حذرهم الناتج حتما من الخوف من تبعات الأزمة الاقتصادية العالمية التي بدأت تزيد عوض أن تخف. ففي الشهر الماضي، أعلنت دار «بيربيري» انخفاضا كبيرا في مبيعاتها، علما بأنها استطاعت إلى ذلك الحين أن تتجاوز الأزمة وتتغلب عليها، بل شهدت انتعاشا في عز الأزمة. فقد افتتحت محلات جديدة في كل أنحاء العالم، وشهدت إقبالا على منتجاتها في الأسواق النامية، لهذا عندما انتشر خبر أن أرباحها السنوية انخفضت وكذلك أسهمها، سرت قشعريرة باردة في أوصال المصممين وصناع الموضة ككل.

لحسن الحظ أن الأزمة لم تصب جانب الإبداع، بل العكس حفزت المصممين على تقديم أفضل ما عندهم لكي يجتازوا أي مصاعب قد تواجههم من ناحية التسويق والبيع. كلهم، ومن دون استثناء، قدموا تشكيلات راقية، تحاكي في الكثير من الأحيان الـ«هوت كوتير» في تفاصيلها وقصاتها وأحجامها وأيضا أقمشتها. ولعل هذه الأقمشة المترفة كانت قاسما مشتركا في الكثير من العروض، إذ شتان بين الماضي حين كان المصممون يعتمدون على أقمشة رخيصة أو غريبة مثل البلاستيك أو حتى الورق المقوى لاستعراض إمكاناتهم الخيالية ومهاراتهم في التفصيل رغم أنف ضيق الحال وبين الحاضر. فهم الآن يستعملون نوعيات مترفة مثل البروكار والموسلين والحرير والأورغنزا والتول، بل وحتى البلاستيك الذي ظهر في عرض هولي فولتون، مثلا، كانت وراءه فكرة وليس لشح إمكاناتها،. فقد قدمته مطرزا بشكل شهي بالورود.

التفسير الآخر لاستعمال المصممين الترف كمضاد للأزمة، بالإضافة إلى رغبتهم في مخاطبة امرأة راقية ومقتدرة، رغبتهم في سد الباب أمام المحلات الشعبية الكبيرة وتعجيزها عن منافستهم. فهذه الأخيرة برهنت في السنوات الأخيرة على قدرة هائلة على استنساخ ما يطرحونه بشكل متميز وبسرعة أكبر منهم، نظرا لإمكاناتها الإنتاجية التي لا تقارن بإمكاناتهم المحدودة. بنوعية الأزياء التي طرحوها طوال الأسبوع الماضي، من الصعب جدا عدم التفريق بينها وبين المستنسخ، كما أنها تستغرق بعض الوقت لتنفيذها بشكل جيد، وهو الأمر الذي لا يناسب استراتيجيات هذه المحلات وأهدافها.

كان هناك أيضا إحساس بالتضامن بين المصممين، إذ حضر الكثير منهم عروض بعضهم البعض، وهو أمر لا نراه كثيرا في باقي العواصم. وعندما يحصل فإن الدنيا تقوم ولا تقعد. وهذا ما حصل حين قدم راف سيمونز أول تشكيلة له لدار «ديور» في باريس في الموسم الماضي، الذي حضره مارك جايكوبس ودايان فون فروستنبورغ ودوناتيلا فيرساتشي وغيرهم، إلى حد أن حضورهم كاد يغطي على أهمية العرض نفسه. الأمر هنا مختلف، إذ يبدو طبيعيا وغير متكلف، يذكر بباريس أيام زمان حين كان المصممون أصدقاء لهم نفس الهموم والتطلعات، وقبل أن تلتهمهم المجموعات الكبيرة، لتتحول الكثير من الصداقات إلى منافسات شرسة من أجل البقاء.

الروح الإنجليزية أهم ما يميز هذه الروح، الشقاوة والتفكه وإحساس وطني بضرورة الارتقاء بالأسبوع لكي ينافس باقي العواصم، إلى حد بدا معه المصممون في بعض الأحيان كما لو يشعرون بالذنب حين لا يقدمون الجديد بمعنى المبتكر. لهذا حتى في التصاميم التي تميل إلى العقلانية العصرية، طبعتها تفاصيل جد مبتكرة أو لفتات طريفة. المصممة الفنية لدار «مالبوري» مثلا أرسلت عارضة مع كلب أثار ظهوره ومنظره الأنيق شهقات الإعجاب والابتسام. أما باقي المصممين، فاجتهدوا في منح إبداعاتهم خصوصية تختلف عن تلك التي نراها في باقي العواصم. والمقصود هنا استعمال نقوشات متضاربة لحد الجنون وصور ثلاثية الأبعاد وأقمشة تجمع الدانتيل بالحرير وبألوان قزحية أقرب إلى النيون بتوهجها، مثلما رأينا في عرض ماريا كاترانتزو، أو الثنائي كليمنس ريبيرو، أو «مالبوري» أو بول سميث أو كريستوفر كاين وغيرهم. حتى «بيربيري» استعملت ألوان قوس قزح وحقنتها بجرعة قوية من البرق واللمعان.

المصمم المخضرم بول سميث، الذي يعتبر من أكثر من يمثل هذه الروح الإنجليزية الشقية، تكمن قوته في الأزياء الرجالية، ومنذ دخوله مجال الأزياء النسائية وهو يتحف المرأة بتايورات مفصلة بأنوثة وقمصان بلمسات طريفة أصبحت لصيقة بأسلوبه، يزرعها هنا وهناك. لموسمي الربيع والصيف المقبلين، وأضاف فساتين ببليسهات وقصات تبتعد عن الجسد، وفي الوقت ذاته تداعبه لتخلق إثارة من نوع جديد، أقرب إلى الإثارة التي نشعر بها عندما نشعر بحلول الصيف وما يعنيه من تحرر وانطلاق إلى وجهات مشمسة. كانت أيضا بألوان شهية غير متداخلة مع بعض أو متضاربة، بل على شكل مربعات متفرقة، كل مربع فيها بلون، وفي أحيان أخرى، بقماش مختلف قد يكون دانتيلا أو حريرا. حتى التايورات تميزت هذه المرة بألوان الصيف وانتعاشه، من خلال بنطلونات واسعة ومستقيمة أو قصيرة نوعا ما.

* لغة الخطاب لامرأة قوية

* حتى الغرابة التي ظهرت في بعض التصاميم، حاول قدر الإمكان ألا تكون أنثوية بمعنى الإثارة الحسية، وكأن المصممين البريطانيين يخجلون من أن يصل بهم الحد إلى استجداء رضا المرأة من هذا الباب. استعمالهم أقمشة ناعمة أو شفافة مثل الحرير والموسلين والأورغنزا والتول، جاء في إطار تصاميم هندسية للتخفيف من إثارتها. وهنا، تكمن قوتهم، وإن كانوا يشعرون في قرارة أنفسهم بأنها قد تكلفهم شريحة من الزبائن. حتى المصمم ماريوس شواب الذي قدم في الموسم الماضي تشكيلة أنثوية مفعمة بالغموض استوحاها من نجمة أفلام الأبيض والأسود، مارلين ديتريش، اختار هذه المرة، إطلالة إثنية تحتفل بامرأة محاربة.

الاتجاه الهندسي أيضا أخذ أشكالا أخرى كما في عرض أنطونيو بيراردي، الذي اكتسبت فيه التنورات ضخامة راقية تجمع بين الـ«سبور» والكلاسيكية، مما يضفي عليها حداثة لا يمكن وصفها. نفس الأمر ينطبق على الجاكيتات الواسعة التي استعمل فيها تقنيات جديدة وأضاف إليها ألياف الكربون، مثلا. لكن بالنسبة للمرأة التي تريد تصاميم أنيقة ولافتة، فقد قدم لها فساتين ناعمة لا تخلو من الرقي رغم هدوئها.

مثل أنطونيو بيراردي، تشهد المصممة روكساندا إلينشيك إقبالا كبيرا على تصاميمها، التي تعرف كيف تلعب على الألوان الصارخة والمزج بينها. هذا الإقبال كان له دور على توجهها أكثر إلى السوق من خلال تشكيلة يسهل تسويقها، وإن كانت لا تخلو من لمسات حيوية، أقرب إلى النزوات الإنجليزية. فقد ظهرت مرة في الياقات ومرة في صدر فساتين أو أطراف تنورات استوحتها من السبعينات. أول فستان أطل علينا كان طويلا يغلب عليه الأسود، بينما اصطبغت الياقة بالأزرق وأطراف الأكمام بالبرتقالي، تلتها مجموعة من الفساتين التي تلونت بدرجات مشعة من الأصفر والمرجاني والوردي والأبيض، نسقت معظمها مع حقائب يد ضخمة، مستوحاة من حقيبة السهرة لكن بحجم ضخم.

المصممة إيما هيل، ومنذ التحاقها بدار «مالبوري»، تلعب على بريطانية الدار بلغة سلسة، علما بأن المصممة التي بدأت حياتها المهنية محررة أزياء، تنتمي إلى طبقة معينة تفهمها جيدا وتقدم لها دائما ما يلمس وترا حساسا بداخلها. هذه الطبقة نخبوية، كما تضم فتيات مجتمع وعارضات من أمثال كايت موس، أوليفيا باليرمو واليكسا تشانغ، التي أهدت إليها حقيبة تحمل اسمها. هذه المرة أيضا لم تبخل المصممة على هذه المرأة بالتصاميم المتنوعة والأقمشة المترفة التي تباينت بين الجلود والبروكار، بل حتى التويد ظهر في بعض الجاكيتات. للتخفيف من وزنه في الصيف، عمدت إلى غزله بالقطن وصبغه بألوان الحلوى الشهية، مثل جاكيت ضخم أخضر باستيلي. ولعل أجمل ما في هذه التشكيلة، تلك القطع المستوحاة من الـ«بيجاما» نظرا لخفة الوزن التي توحي بها وإحساس منعش بالبرودة. فساتين المساء والسهرة كانت أيضا بتظريزاتها المبتكرة وتصميماتها المناسبة لأجمل الحفلات، وكأن المصممة تريد من خلالها أن تؤكد أنها يمكن أن تقدم ما هو أكثر من أزياء للنهار والنزهات في الريف الإنجليزي أو شواطئه. ثم إن أزياء السهرة تبيع أكثر في الصيف وبأسعار عالية يمكن أن تعوض عن أي خسارة ناتجة عن عدم بيع كل التصاميم، وإن كان من الصعب تخيل ألا تبيع هذه التشكيلة. يكفي أن الأزرار التي زينت معظم القطع والتي جاءت على شكل وردة بالمعدن الذهبي، ستجعل كل فتاة تحلم بها، لأنها ستكون عنوانا لاسم الدار وبرهانا على أن من تلبسه مواكب للموضة. حقيبة اليد التي اشتهرت بها الدار كانت أيضا حاضرة بأشكال وألوان وأحجام متنوعة، مع تقديم تصميم جديد، وهو حقيبة «ويلو» (Willow) التي تحمل باليد بمسكة، وتأتي بشكل بين المربع والمستطيل مع جزء صغير على شكل محفظة صغيرة من الأمام. وهذا يشير إلى أن «مالبوري» لا تريد أن تترك أي شيء للصدف، وأنها تتوجه للسوق بقوة. ففي وقت الأزمات الكبيرة، تنتعش سوق الإكسسوارات عموما.

مقولة «ابن الوز عوام» تنطبق على المصممة الشابة سيمون روشا، التي تخرجت في معهد سانترال سانت مارتن للتصميم والفنون في عام 2010 بدرجة ماجستير. والدها هو جون روشا، لكن رغم حداثة سنها فهي تنافسه بذكائها وحسها التجاري. ومنذ العام الماضي وهي تثير الكثير من الانتباه لما حققته من نجاحات «تجارية» لم يحققها مخضرمون في المهنة. اقتراحاتها لربيع وصيف 2013 كانت مبتكرة، لكن ضمن إطار محسوب، مثل فستان منحوت على الجسم من الكروشيه بلون ذهبي، وتنورة من التويد باللون الأبيض مطرزة من الجوانب بورود ضخمة، وتايور بالأخضر الفستقي المتوهج من الدانتيل المطرز فوق التول.

تشكيلة تبرهن على أنها تعرف تماما ما تريد، أو على الأصح «من أين تؤكل الكتف»، فهي مريحة للعين بخطوطها البسيطة وألوانها الهادئة مع القليل جدا من درجات النيون التي ظهرت في آخر العرض.

* الأبيض عوض الأسود

* إلى جانب باقات الورد التي غطت الكثير من التشكيلات، والألوان القزحية والمعدنية، كان الأبيض حاضرا بقوة طوال الأسبوع وعوضا بشكل واضح عن الأسود. فقد ظهر في آخر عرض قدمته نيكول فارحي قبل أن تسلم المشعل لخليفتها جوانا سايكس، التي ستقدم أول تشكيلة لها للدار الموسم المقبل، كما حضر في عرض سيمون روشا، وإيرديم، وأنطونيو بيراردي و«مالبوري» وغيرهم.

نقوشات ومطبوعات فنية حين يتعلق الأمر بالنقوشات الغرافيكية، فليس هناك من يضاهي قدرة الثنائي «بيتر بيلوتو» على الرسم، وفي كل موسم يفاجئوننا ببركان من النقوشات ودائما بألوان متناغمة في تضاربها. لم يشذ المصممان عن هذه القاعدة وقدما تشكيلة استعملا فيها لوني الأسود والأبيض كخلفية تتراقص فوقها الألوان المشعة، من أحمر وأزرق وأخضر، مما جعل العرض بالكامل طبقا دسما. الجديد في التشكيلة، لم يكن في النقوشات، بل في الخطوط، فبالإضافة إلى الكشاكش والفتحات الجانبية و«البيبلوم» الذي استعملاها في تنورات وفساتين محددة على الجسم، كانت هناك قطع تبدو من بعيد كأنها قطعة واحدة. وهنا تكمن قدرتهما على الرسم، لأنها كانت قطعا منفصلة كانت فيها هذه الرسومات همزة الوصل.

لم يكن الثنائي «بيتر بيلوتو» الوحيد الذي تفنن في هذا المجال، فتود لين وماريا كاترانزو أيضا قدما تحفا فنية، لكن بلغة مختلفة.