بينالي باريس في دورته الـ26.. ضجيج الألوان وصخب الأحجار

المتر المربع فيه يقدر بـ1.630 يورو ورغبة العرض فيه لا تخف

TT

لم يكن معرض التحف الأثرية «بينالي ديز ونتيكير» في دورته الـ26 عاديا هذه السنة. حتى ديكوره كان مختلفا على الرغم من أنه أقيم في نفس المكان الذي يقام فيه كل سنة: «لوغران باليه» بقبته الزجاجية الضخمة. هذه المرة علق وسطها منطاد ضخم مقلم باللونين الأزرق والأبيض، تراه أينما رفعت رأسك إلى السقف وأيا كان موقعك بين المقصورات التي تعرض فيها التحف، من لوحات فنية وقطع أثاث وأنتيكات أو مجوهرات تم تصميمها خصيصا للمعرض.

يتولد عن هذا الديكور إحساس بأنه مألوف لديك، أو كما لو أنك ستحضر عرضا من عروض دار «شانيل»، بحكم أن «لوغران باليه» أصبح بمثابة بيتها الموسمي، وهو أمر سرعان ما يتفسر. مصمم الدار الفرنسية، كارل لاغرفيلد هو من أشرف على ديكورات المعرض هذه السنة مما جعل لمساته واضحة في كل أركانه وجوانبه. لمسات امتدت كذلك إلى «البوستيرات» والقناديل والرسومات التي تجسد أهم المعالم الباريسية والتي غطت جدران المقصورات المتجاورة فيما يشبه الشوارع الواسعة. كل واحدة منها اجتهدت في تصميم واجهاتها لإغراء الضيوف بدخولها واستكشاف ما بداخلها من كنوز وتحف تأخذ بعين الاعتبار نوعية الزبائن والزوار المتذوقين للفن ولكل ما هو فريد وثمين. وهذا يعني أن كل ما يُقدم هنا لا بد أن يكون بمثابة تحف حتى يتميز عن الباقي في ظل المنافسة الشرسة بين بيوت المجوهرات الكبيرة.

فرغم سحابة الأزمة التي لا تزال تنشر ظلالها على قطاع المنتجات المترفة وربما تتفاقم بسبب تراجع مبيعات السوق الصيني الذي كان حتى الأمس القريب يعول عليه لإنقاذ هذا القطاع، فإن بيوت المجوهرات الكبيرة لم تبخل علينا بفنية التصاميم ولا بترف الأحجار الكريمة التي، على ما يبدو، زاد وزنها أكبر من ذي قبل. صحيح أن الكثير من البيوت المشاركة عادت إلى ماضيها فيما يشبه الحنين الرومانسي إلى جذورها وأصولها، مثل «شانيل»، «هاري وينستون»، و«ديور» إلا أن عيونها ظلت مصوبة نحو المستقبل. فالتصاميم مبتكرة والفنية عالية تمت على يد حرفيين مهرة لتأتي بالشكل المطلوب.

أهم ما ميز توجهات هذا العام، ميل إلى استعمال الأحجار الملونة بشكل كبير، مما أضفى على التصاميم الكثير من الحيوية.

1956 - بدأت ملامح المعرض تتبلور لأول مرة من خلال معرض يحتفل بالأعمال الفنية والأنتيكات يهدف إلى جمع الخبراء والهواة في مكان واحد هو «بورت دو فرساي»، الذي احتضن الفعالية إلى عام 1961. كان المؤسس هو يد بيير فاندرميرش، الذي تم تعيينه حينها رئيسا لمنظمة الأنتيكات الوطنية، ولم يأخذ المعرض شكله الحالي إلا في عام 1962.

* تأسس المعرض بشكله الحالي في عام 1962 على يد أندريه مالرو، الذي كان حينئذ، وزير الثقافة بفرنسا، مما يفسر رعاية الحكومة الفرنسية له لحد الآن. وبعد أن كان يقتصر على القطع الفنية، دخلته بيوت مجوهرات كبيرة مما ساعد على توسيع رقعة الاهتمام به.

1964 - تغيير تاريخ هذه الفعالية من يونيو (حزيران) إلى سبتمبر (أيلول)، وشمل هذا العام حفل مبتدئات ضخم في «لوغران باليه»، بحضور النجمة غريتا غاربو، عائلة روتشايلدز، علي خان، موريس شوفالييه وآخرين.

1966 - بعد ثلاث دورات بدأ المعرض يكتسب أهمية كبيرة لدى الفنانين والأدباء والسياسيين، الذين بدأوا يدعمونه بحضورهم.

1972 - أول تجربة للمصمم كارل لاغرفيلد في المعرض كانت في هذا العام، وتمثلت في تصميم القسم الخاص بصوفي ديفال. حينها استعان المصمم بأعمال الفنان جون ديران المتميزة بتقنية اللك التي رسمها على الجدران. هذه الدورة شهدت أيضا ولأول مرة أعمالا من «آرت ديكو».

1974 - بسبب خضوع «لوغران باليه» لترميمات، أقيمت الدورة السابعة للبينالي في «باليه دي كونغريس» الواقع في ضواحي باريس.

1980 - ودع البينالي في دورته العاشرة عراب المعرض ومؤسسه، بيير فاندرميرش الذي اختار التقاعد، في احتفالية ضخمة حضرها أكثر من 400 مشارك.

1992 - ودع المعرض مقره «لوغران باليه» بسبب خضوعه لترميمات كبيرة ستدوم نحو 15 عاما، متوجها إلى متحف اللوفر الذي احتضن ست دورات منه.

2006 - عودة المعرض إلى مقره الرئيسي في «لوغران باليه».

** يعتبر البينالي اليوم من أهم معارض الأنتيكات والمجوهرات مما شجع على توسعه. فقد بدأ في عام 1962 بـ78 مشاركا، واليوم وصال هذا العدد إلى 122 مشاركا.

** يعتبر من أغلى المعارض في العالم، ولا يتردد المشاركون في دفع مبالغ طائلة للحصول على مساحة عرض فيه. فسعر المتر المربع الواحد فيه يتراوح ما بين 1.300 إلى 1.630 يورو، ومع ذلك شهدت معظم بيوت المجوهرات المشاركة في هذه الدورة توسيعا لمقصوراتها مقارنة بباقي السنوات.

* «شانيل»

* شاركت في المعرض بمجموعة تلتفت إلى بداية الثلاثينات من القرن الماضي، وتحديدا عام 1932، عندما أطلقت الآنسة غابرييل شانيل، أول مجموعة مجوهرات راقية بعنوان «بيجو أون ديامون» (مجوهرات من ماس) قدمت فيها مجموعتها الكلاسيكية «كوميت» على شكل نيازك ونجوم وأقمار إلى جانب الريش. في ذلك الحين، كان الألماس هو البطل بلا منازع، أما الآن وبعد مرور 80 عاما على هذه التشكيلة، فقد ارتأت الدار أن تعود إليه، لكن بطريقة عصرية تعبر عن مكانتها في عالمي الأزياء والمجوهرات على حد سواء، بمزج شتى الأساليب والألوان والأحجار. فبعد أن كانت تعرف بأزيائها أولا وإكسسواراتها ثانيا، أصبحت اليوم أيضا من أكبر بيوت المجوهرات الموجودة في الساحة العالمية وفي ساحة «فاندوم» الباريسية أيضا. خلال أسبوع «هوت كوتير» في شهر يوليو (تموز) الماضي، قدمت تشكيلتها لأول مرة، وكانت عبارة عن 80 قطعة بالتمام والكمال. وكأن هذا العدد الهائل لا يكفي، وقد أضافت 15 قطعة جديدة استعرضتها في البينالي وكأنها تستعرض قوتها الإبداعية والفنية. ولا شك أن اللافت في هذه المجموعة تقنياتها المتطورة التي تستعمل القلادات من دون أقفال لتسهيل استعمالها على المرأة، كذلك تعدد وظائفها مما يجعل لكل قطعة وجوها وأدوارا مختلفة حسب اختلاف الذوق والمناسبة.

* «هاري وينستون»

* «هاري وينستون» التي تشتهر بالماس، جمعت القديم بالحديث. فقد عادت إلى أسلوب المؤسس ليس في استعمالها أصفى أنواع الأحجار فحسب، بل أيضا بتحقيق أمنية عبر عنها في يوم من الأيام حين قال إنه يحلم بتصميم قطع لا يبدو فيها المعدن للعين على الإطلاق، وإنه لو كان بإمكانه أن يرصع جسم المرأة بالماس مباشرة لفعل. ويبدو أن مصممي الدار نجحوا في تحقيق هذه الأمنية إلى حد ما، لأن معظم التصاميم غلبت عليها شفافية نادرة اختفت فيها المعادن تماما وغطتها أشكال مختلفة من الأحجار لتخلق انسيابية توحي بانسياب الماء وهدوئه حينا أو قوة الشلالات وتدفقها من خلال أشكال متدرجة من الأحجار الملونة، حينا آخر.. تضم التشكيلة 19 قطعة تمثل رحلة إلى قلب الطبيعة. التشكيلة التي استوحيت من كل ما له علاقة بالماء، من شلالات أو أمواج أو بحريات، تلونت أيضا بألوانه وألوان كل ما له علاقة به، مثل الأزرق الفيروزي واللازوردي وألوان المرجان وغيرها. وتجدر الإشارة إلى أنها المرة الثانية فقط التي تعانق فيها الدار الأميركية الألوان بهذا الشكل السخي. المرة الأولى كانت في دورة الـ«بينالي ديزونتكير» السابقة، حين قدمت مجموعة استوحتها من حدائق قصر فرساي، تميزت هي الأخرى بأحجار نادرة وضخمة تشع بألوان الطبيعة مثل الزفير الوردي والتوباز والعقيق اليوسفي واللؤلؤ الأزرق، الأمر الذي كان نقلة بالنسبة للدار التي تأسست في عام 1932 معتمدة على الماس الصافي في جذب النخبة والمستثمرين. لكن من الخطأ القول إن تصاميمها لم تخضع لتغييرات، فهي الأخرى خرجت عن الكلاسيكية واكتسبت حيوية زادتها حركة الماء والأمواج والأحجار المتدلية وكأنها شلالات قوية حداثة في تزاوج رائع بين عناصر الطبيعة وأشكالها.

* «بياجيه»

* تعتبر هذه المرة الثانية التي تشارك فيها دار «بياجيه» في المعرض، وللمرة الثانية أيضا لعبت على مفهوم الأزياء الفخمة، هذه المرة بتعاونها مع ديفيد داونتون لتزيين واجهاتها برسومات وفساتين فخمة، في دلالة واضحة إلى أن كل قطعة من مجوهراتها تحاكي الـ«هوت كوتير» وأقمشته المترفة. وهذا ما عكس عليها الكثير من الأنوثة الشاعرية وفسر أشكالها المستوحاة من الدانتيل، والكورسيهات والشراشيب المتدلية بسخاء، وانسيابية تعكس قدرة الدار على صياغة مجوهرات مرنة بحيث تعانق الجزء الذي تتوجه إليها سواء كان الرقبة أو المعصم. وليس أدل على هذا من قلادة أو ساعة مستوحاة من الدانتيل والورود تجلس على الرقبة أو المعصم بسهولة. وبحكم أن الدار بدأت كدار ساعات فإنها لم تبخل أيضا بمجموعة راقية للرجل غلبت عليها أحجار الماس وتميزت بالمرونة هي الأخرى.

* «ديور»

* تعتبر هذه هي المرة الثالثة التي تشارك فيها «ديور» في المعرض الباريسي، والحقيقة أنها منذ البداية وهي تتحف بقطع جد مبتكرة، وجريئة في استعمالها الأحجار الكريمة بالذات. مصممتها فيكتوار دي كاستيلان، تلعب بهذه الأحجار كما لو كانت تتعامل مع حبات فستق أو لوز، أي إنها لا تبخل بها وتستعملها في أشكال غير معهودة. والنتيجة تكون في الغالب تحفا للاستثمار أو قطعا فخمة يمكن الاستمتاع بها في أي وقت من الأوقات، بالإضافة إلى تمتعها بأشكال تترك للمرأة حرية استعمالها كيفما تريد وحسب أسلوبها وثقافتها. أسلوب المصممة جعل المرأة تثق بها، مما يفسر أن الكثير من القطع تباع حتى قبل أن ترى النور. وإذا كان هناك شيء آخر يميز «ديور»، فهو تلاعبها بأشكال الورود التي بدأت مع المؤسس السيد كريستيان ديور، بدليل تشكيلتها الأخيرة «دير ديور» Dear Dior التي قدمتها أول مرة خلال أسبوع الموضة الراقية «هوت كوتير» بباريس، لكن لأنها لم تكن قد انتهت من تنفيذها حينذاك، فإنها استكملتها خلال «البينالي». التشكيلة مستوحاة من مجموعة تعود إلى الخمسينات، كانت عبارة عن إكسسوارات تكمل الأزياء، ارتأت أن تحولها إلى مجوهرات راقية من المعادن الثمينة والأحجار الكريمة ونصف الكريمة، جمعتها أحيانا في قطعة واحدة: مثل الجمشت والأكوامارين والزمرد والماس والأوبال.

* بالمغاري

* استعرضت عضلاتها المفتولة في التلاعب بالألوان بشكل خول لها أن تسرق الأضواء هذه السنة، بدليل طوابير الضيوف المنتظرين خارج مقصورتها والازدحام بداخلها. فضل كبير في هذا يعود إلى مجموعتها الخاصة بالنجمة الراحلة إليزابيث تايلور وما تتضمنه من رومانسية وقصة حب ربطت بينها وبين ريتشارد بيرتون. لكن أيضا إلى التصاميم المبتكرة التي ضجت بالألوان، ضاربة عرض الحائط أي حذر تتطلبه الحالة الاقتصادية الحالية. ويبدو أن الدار الإيطالية ربحت الرهان، لأن تضارب الألوان وتجاهلها الحيطة والحذر أكسبا تصاميمها الكثير من الحيوية. جدير بالذكر أنها لم تخرج عن جيناتها التي أرسيت على الأحجار الكريمة ونصف الكريمة ومزجها بشكل لا يخطر على بال غيرها في مجال المجوهرات الراقية. فعادي هنا أن نرى تجاور الزمرد مع العقيق أو الأكوامارين والجمشت مع الماس والمرجان والفيروز، من دون أن يؤثر هذا التزاوج على الأسعار والقيمة. والطريف أنه رغم الكم الهائل من الإبداعات، فإن الكثير منها لم يكن معروضا لأنه أصبح في ملكية شخصية محظوظة.

* تأسست «بالمغاري» في روما عام 1884 على يد سوتيريو بالغاري. وسرعان ما أصبحت تصاميم الدار المرصعة بالأحجار الضخمة والملونة عنوان الأناقة الإيطالية ومطلب الطبقات الارستقراطية والنخبوية في إيطاليا وأوروبا على حد سواء. وفي الستينات من القرن الماضي، اكتسبت شعبية كبيرة بدخول هوليوود على الخط، وليس أدل عل هذا من إليزابيث تايلور، التي عشقت هذه الماركة وأصبحت من أهم زبوناتها، منذ أن ظهرت في فيلم «كليوباترا» بساعة تمثل الثعبان، التصميم الذي تعود إليه الدار دائما بشكل جديد. عشقها هذا جعل زوجها ريتشارد بيرتون يمزح في إحدى المقابلات قائلا إنها لا تعرف من اللغة الإيطالية سوى كلمة «بالمغاري». ومع الوقت أصبحت تمثل بالنسبة له وسيلة للتعبير عن حبه للنجمة إذ كان لا يتوقف عن إهدائها مجوهرات قيمة بتوقيع الدار في مناسبات كثيرة.

ولا شك أن ما ساعد الدار على التميز عن غيرها ليس أحجارها الضخمة فحسب بل أيضا مزجها الألوان المتناقضة والمواد الغريبة والأحجار الكريمة بالأحجار شبه الكريمة من أجل خلق تأثير درامي، الأمر الذي لم يكن يخطر على بال أي أحد من قبل ونجحت فيه بامتياز.

* كارتييه

* القسم المخصص لدار كارتييه مثلا تبلغ مساحته 250 مترا مربعا - وهو الأكبر بين جميع أقسام العارضين في دورة 2012. تعرض كارتييه هذه السنة 148 قطعة من المجوهرات الراقية و12 قطعة من التحف الثمينة، إضافة إلى تشكيلة من القطع المأخوذة من مجموعة تراث كارتييه. كل قطعة فيها مشغولة باليد، أحيانا بحرفية تستغرق سنتين من العمل، بما في ذلك المهارات الفنية للنقش والحفر في الحجر. وهي هذه السنة وكعادتها تسافر إلى مختلف أنحاء العالم، لتداعب الكائنات البرية وتستقي منها أشكالا وخطوطها وألوانها تجسدها بالمعادن المترفة والأحجار النادرة بطرق تتقنها جيدا وأصبحت لصيقة. فهي حينا تسافر إلى محمية برية لتجسد نمرا أرقط على خاتم، وحينا آخر تحلم بربيع بارد عبر حجر الزبرجد أكوامارين بيضاوي الشكل تكسوه بماسات متجمدة. لكن في كل مرة فإن الهدف من الرحلة يكون استعراض قوة الدار وحداثتها، وهذا ما نجحت فيه من خلال خلق خدع بصرية بالأبيض والأسود أو قطع هندسية مستوحاة من صروح حضارية.