منزل شاعري.. مصممه فنان ومهندسه لا يميل إلى المألوف

يأخذ شكل صندوق صغير ويحتضن الكثير من ذكريات الطفولة

ستيفن أتكينسون مع موديل مصغر للبيت
TT

كان المنزل الصغير المطل على أراض شاسعة من فول الصويا، يعلن عن جماله بطبقته المعدنية المتموجة التي تتلألأ تحت أشعة الشمس، وما يحمله من براءة رسوم طفل صغير في قلب أشجار الماغنوليا العتيقة. يمتلك المنزل تيري موفيت وأفشالوم كاسبي، وهما أستاذان في علم النفس في جامعة ديوك. لم يخفيا سعادتهما الغامرة بهذا المنزل، وإعجابهما بما يجسده من فنون العمارة الريفية التي يعشقانها. فالخزائن الموجودة في ممرات التهوية جلباها من جنوب الولايات المتحدة، والأشياء المصنوعة من «القصدير المتجعد» من نيوزلندا، حيث كانا يجريان دراسة طويلة على ألف شخص. وتبلغ تيري من العمر 57 عاما، بينما يبلغ كاسبي 65 عاما، ويتركز عملهما على تأثير البيئة والجينات على سلوك الفرد، خاصة في حالة الانطواء والاكتئاب. يتذكر كاسبي الأكواخ في المزرعة التي نشأ فيها، مشيرا إلى تغطية التغييرات الجديدة على الطابع الأصلي للمنزل الذي شيدته أسرته هنا في عشرينات القرن العشرين، ومدى قوة الذكريات وحيويتها داخل ذهنه.

هذا لا يمنع أن هناك متشككين في المنزل، حيث عبر أحد الجيران عن تعجبه من تشييد المدفأة خارج غرفة المعيشة، الأمر الذي استغربت له تيري بسبب عدم وجود غرفة معيشة بالأساس، بينما كان رأي والدها بالمنزل أيضا سلبيا، حيث قال إنه مزيج بين حظيرة الدجاج ومنزل متنقل.

مع ذلك، فإن أهم رأي نقدي بالنسبة إليهما كان رأي ستيفن أتكينسون، المهندس المعماري الذي عقدا معه صفقة غير عادية، ولا أحد غيره. فهذا المصمم، الذي يقيم ويعمل في مقاطعة بالو إلتو بولاية كاليفورنيا، هو عراب هذا البيت ومصممه الأساسي، حتى قبل أن يشترياه. قدم لهما رسوما تخطيطية لهذا المنزل، من دون أي التزامات تقيدهما، لكن في الوقت ذاته لم يتخل عن حقه في جعلهما يدفعان ثمن أدنى تغيير يتم إجراؤه في التصميم الأصلي. والحق يقال، إنه كلما اقترب تصميم المنزل من رؤيته، انخفضت تكلفته.

كان أتكينسون، الذي أصبح المنزل بالنسبة إليه هوسا، يعمل على التأكد من أن يكون التجديد الذي سيجريه للمنزل، الذي أطلق عليه اسم «زاكاري هاوس»، أقرب إلى الكمال.

في منتصف التسعينات عندما كان أتكينسون، الذي يبلغ حاليا 45 عاما، موشكا على التخرج في كلية التصميم بجامعة هارفارد، بدأ وضع خطة لمنزل عصري يتكون من غرفتي نوم على طراز المنازل التي يحيط بها ممر تهوية يربط بين طرفي المنزل بمعدن متجعد، ونشره في عدد من مجلات العمارة. وفاز بجائزة مرموقة، مما شجعه أن يطلب من والده، طبيب الأسنان المتقاعد ويمتلك قطعة أرض في زاكاري، أن يبني له هذا المنزل. عندما قام بذلك بتكلفة قدرها 45 ألف دولار، أصبح المنزل، الذي بني على مساحة 550 قدما مربعا، نجمة صغيرة، حيث ظهر في 39 مجلة ذات توجهات عصرية مثل «دويل»، وكذا في مجلات ذات توجهات تقليدية مثل «ساثرن ليفينغ»، فضلا عن عدد من الكتب.

حظي منزل «زاكاري هاوس» بإعجاب الناس من مختلف الفئات، ليس فقط العاملين في مجال المعمار والمصممين، الذين أصبح تصميم المنزل بالنسبة إليهم نوعا من الهوس، على حد قول كاري جاكوبس، مؤسس مجلة «دويل».

يتكون المنزل، من غرفتي نوم، يتصلان بممر تهوية منقسم بممر طويل على طراز الكاتدرائيات، الأمر الذي كان غريبا وجديدا نوعا ما. وهذا ما جعل علماء البيئة الذين يهتمون بالتكلفة ومؤيدي حركة بناء المنازل الصغيرة يرحبون بسعر وحجم المنزل، بينما اهتم كتّاب في مجال العمارة بالعمل عليه، حيث رأوا أنه منزل له بنية شعرية، يفوق جوهرها كل التأويلات الممكنة.

وجد أتكينسون أن الاهتمام أفسده، حيث قال: «أنا طموح جدا، وهذا الانتباه الهائل لشخصي لم يكن بالدرس الجيد. العالم لا يسير على هذا النحو». لقد ظل يتلقى مكالمات ورسائل بالبريد الإلكتروني لسنوات من معجبين يطلبون منه عمل رسوم تخطيطية لمنازل خاصة بهم. وظل يرفض هذه الطلبات لسنوات، لأنه لم يكن يعرف كيف يمكن أن يحدد السعر ولم تكن تروق له فكرة أن منزله يشيد من دون إشراف.

على الجانب الآخر، كان محبو التصميم يزورون المنزل بأعداد كبيرة. من جهتهما، أجاد والدا أتكينسون، اللذان كان يقضيان فيه عطلات نهاية الأسبوع، التباهي بالمنزل الصغير والتفاخر بمزاياه، مثل الأسقف الداخلية التي يبلغ ارتفاعها 8 أقدام والتي تم تصميمها بحيث تضاهي «برشلونة بافيليون»، والنوافذ المصنوعة من الزجاج الليفي شبه الشفاف، التي كانت توزع الضوء والظلال في الغرفتين الصغيرتين، ومساحة ممر التهوية.

يا لها من مفارقة يوضحها أتكينسون بقوله: «إن قلب المنزل فارغ»! مع ذلك، في عام 2005، كان على والده بيع الأرض التي تم بناء المنزل عليها، وعرض توم رانزينو، الكاهن الكاثوليكي من باتون روج، «إنقاذ» المنزل الصغير ونقله إلى أرض قريبة يمتلكها. وتبين أن الكاهن من المعجبين بالمنزل هو الآخر، حيث ظل يقضي عطلته في زيارة المنزل، للاستمتاع بحالة التأمل التي يشعر بها بداخله. أثناء عملية نقله، تعرض المنزل للضرر، مما استدعى إجراء بعض التعديلات عليه وإصلاحه بحيث لا يخالف قانون البناء المحلي. وهكذا، تم تركيب نوافذ تنفتح، وكساه بطبقة جديدة ذات أطراف دائرية ليست مربعة، مختلفة عن التصميم الأصلي. يعلق أتكينسون قائلا: «إن هذه التغيرات كسرت روحه كأن إعصار كاترينا قد عصف به ودمره».

في الوقت الذي يعاني فيه أتكينسون مثاليات مهنته، لم يجد مشكلة في السخرية من نفسه، حيث يقول: «لقد كنت أنظر إلى نفسي في ذلك الوقت كفنان لا شخص يعمل في مجال البناء».

تقابل كاسبي وتيري، مالكا المنزل حاليا، منذ 25 عاما في مؤتمر بسانت لويس بعنوان رومانسي هو «مسارات منحرفة من الطفولة إلى البلوغ».

وفي الوقت الذي كان أتكينسون ينتحب على المصير الذي آل إليه منزل «زاكاري هاوس»، كان تيري وكاسبي يحاولان شراء مزرعة جدتها التي تمتد على مساحة 194 فدانا والتي تقع على بعد أكثر من ساعة من جنوب غربي راليغ، حيث ترعرعت.

كانت جدتها تمتلك ست مزارع ولديها خمس بنات، وكانت كل مرة تقدم تيري فيها عرضا مختلفا، كانت واحدة من خالاتها تعترض عليه. وأخيرا، وافقت الخالات الخمس في اليوم نفسه. بدآ يجمعان أفكارا عن شكل المنزل الذي يمكن بناؤه على الأرض التي كانت مهمة بالنسبة إليها لفترة من الزمن. لم يريدا منزلا فخما باهظ الثمن، بل منزلا بسيطا على غرار المنازل التي شاهداها خلال أسفارهما الكثيرة. ووجدا ضالتهما في مكتبة بدونيدين في نيوزلندا في كتاب «منزل صغير» من تأليف المهندس المعماري الإسباني، أليخاندرو باهامون. كان تتصدر غلافه صورة جذابة ساحرة لمنزل «زاكاري». أثارت الصورة هذه حماستهم وكتبا إلى أتكينسون طالبين منه رسوما تخطيطية لهذا المنزل، ويبدو أن أتكينسون تأثر بطلبهما وأخذ الأمر على محمل الجد بدلا من أن يرفضه كما فعل مع كثيرين من قبل.

يقول كاسبي: «لقد أخبرنا بتاريخ المنزل وقال إنه يرحب بكوننا نريد تجديده بحلة جديدة. لقد حدد الترتيبات ونحن وافقنا وبدأنا العمل». من جهته، يقول: أتكينسون: «هناك أربعة أشياء بحاجة إلى التغيير في المنزل، إنها الأشياء نفسها. لم يخطر ببالهما أبدا أن المحتوى المعماري للمنزل سيصبح أقل. أولا ينبغي بناء مدخنة، ثانيا السماح للشمس بالدخول إلى ممر التهوية، ثالثا تركيب الأبواب الخارجية بحيث يكون ارتفاعها 8 أقدام، وهو حجم معتاد، لأنه يوفر المال ولا يحدث فارقا. أما الشيء الرابع، فهو استخدام القباب المقوسة التي تشتهر بها الكاتدرائيات بدلا من القباب المسطحة التي يبلغ ارتفاعها 8 أقدام، ويكرهها أغلبية الناس».

أهم شيء في الباب، الذي يبلغ ارتفاعه 8 أقدام، والأسقف ذات الارتفاع نفسه، فضلا عن التحفة المعمارية المسماة «برشلونة بافيليون» التي تمثل مرجعية - هو عدم وجود جزء علوي يقسم المساحة، مما يجعل السقف يهيمن على المنزل بأكمله. لهذا السبب، جعلت سقف ممر التهوية أبيض اللون لخلق مساحة مركزية هائلة.

فتن كل من كاسبي وتيري بأتكينسون، وكانا شغوفان بالمساحة مثله، لكن بطريقتهما الخاصة. فالجزء الأكبر من بحثهما المستمر يركز على شكل تأثير المكان على السلوك، حيث توجد دراسة تربط بين مقدار المساحة الخضراء المحيطة وحالات جنوح الأحداث به. وبالفعل، قابل الزوجان مقاول البناء برينت ليندلي، ومنذ عام ونصف اصطحباه إلى نورث كارولينا من أجل القيام بالعمل.

تم الانتهاء من العمل في المنزل منذ فترة قصيرة. وبلغت تكلفته 120 ألف دولار، إضافة إلى 300 دولار مقابل عمل أتكينسون فتحتي تهوية في جدران غرفتي النوم، حيث لا يوجد أي نوافذ تفتح في المنزل، ولا يوجد سوى أربعة أبواب مزدوجة في نهاية كل غرفة.

تم أيضا إدخال تعديلات واضحة على المنزل حتى لا يكون مخالفا للقانون، فضلا عن تحسينات للتصميم الأصلي مثل عزل السباكة بدفنها في الأرض. ومن اللمسات التي تضفي جمالية على المنزل وتوفر المال في الوقت ذاته، بناء المنزل فوق الأرض من دون أساس، أي لا يوجد فيه قبو، كما استخدم ليندلي سخان مياه بلا خزان حتى يزيد من المساحة.

لكن أكبر تعديل أدخله ليندلي على التصميم الأصلي وأثار المرارة في نفس أتكينسون، كان وضع عوارض داخل الأبواب الخارجية لمنع الرياح من الدخول. هذه الأبواب مصنوعة من المعدن المتجعد وتحمي بداخلها أبوابا زجاجية، مما يعني أنك قادر على إغلاق المنزل مثل صندوق صغير عندما لا يوجد به أحد.

*خدمة «نيويورك تايمز»