من اسكوتلندا مع الحب

«شانيل» تقدم درسا في التاريخ من خلال التارتان والتويد والصوف

TT

تحولت أدنبره في الأسبوع الماضي إلى مسرح باريسي كبير استعرضت فيه دار «شانيل» خبراتها وقدراتها وأناقتها على أجمل وجه. وجه أخذ شكلا ملكيا استوحاه مصممها، كارل لاغرفيلد، من ماري ملكة اسكوتلندا لكن بلمسة عصرية لا يمكن أن يتقنها سواه. غني عن القول إن حضور دار فرنسية عالمية إلى أدنبره ودخولها قصورا قديمة تحولت إلى أطلال لا تثير سوى اهتمام السياح ودارسي التاريخ، أحدث ضجة لم ترَ لها العاصمة مثيلا. فأينما توجهت للتسوق أو التجول بين مآثرها، تتفاجأ بدفء أهلها وطيبتهم، وهم يسألون ويتساءلون عن الحدث وتفاصيله بلهفة وانبهار، ما إن يتناهى إلى أسماعهم أنك ستحضر العرض. والحقيقة أن مدينتهم على الرغم من مهرجاناتها الموسيقية والسينمائية لم ترَ عرضا للأزياء بهذا الحجم من قبل.

القصة الباريسية الاسكتلندية «Paris Edimbourg» بدأت في عام 2003 حين تبنت «شانيل» تقليدا سنويا تحتفل فيه بورشها المتخصصة في مجالات متعددة، بهدف تسليط الضوء على قدرات العاملين فيها ومهاراتهم المتعددة، لا سيما أن كثيرا من هذه الورش كانت ستنقرض وتختفي لولا تدخلها لإنقاذها، ومن تم إنقاذ تقنياتها وحرفيتها. مع الوقت أصبح هذا التقليد الذي يعرف في عالم الموضة بـ«ميتييه دار» «Métiers d›Art»، ومعناها «الحرف الفنية» من المناسبات التي تُنتظر بفارغ الصبر، ليس للبذخ الذي تضخه الدار فيها فحسب، بل أيضا لأن كل غرزة وكل تطريز وكل تفصيل فيها يحاكي الـ«هوت كوتير»، وكأن الدار تريد من خلال مصممها، كارل لاغرفيلد، أن تذكرنا أنه من دون هذه الورش وأناملها الناعمة لا تكتمل الموضة عموما أو أسبوع الـ«هوت كوتير» خصوصا. فهذه الورش هي التي تسهر على أن تخرج كل قطعة فريدة وبجودة عالية سواء كانت مطرزة بالريش أو الخرز أو الأصداف وهلم جرا من التفاصيل. هذا العام وصل عدد الورش التي تنضوي تحت أجنحة «شانيل» إلى 10، بعد أن انضمام شركة «باري للصوف والكشمير» الواقعة في «هاويك» الاسكوتلندية إليها. كان ذلك في شهر أغسطس (آب) الماضي، عندما أعلنت مجموعة «دوسون» القابضة التي كانت تمتلك معامل «باري» إفلاس هذه الأخيرة، بعد أن انخفضت أسهمها بشكل كبير. بمجرد سماع الخبر، سارعت «شانيل» التي تتعاون مع الشركة منذ 25 سنة تقريبا لشرائها وإنقاذ 176 عاملا فيها من البطالة، وهذا وحده يجعلها تكبر في عيون الاسكتلنديين واسمها يتردد على ألسنتهم بامتنان. وعلى الرغم من أن باقي الورش ترتبط في الغالب بأزياء موسم الـ«هوت كوتير»، فإن «باري» ترتبط أكثر بموسم الأزياء الجاهزة، وإن كان الصوف الذي رأيناه يوم الثلاثاء الماضي في غاية الرقي والترف.

لهذا كله، لم نستغرب إعلان «شانيل» أن عرضها الخاص بالـ«ميتييه دار» لعام 2013 سيقام بين ربوع وقصور اسكوتلندا. فقد تعودت أن تختار كل سنة عاصمة من العواصم العالمية مكانا لعرضها أو على الأقل عنوانا له، حتى تستقي من حضارتها وألوانها بعض التفاصيل، التي يترجمها كارل لاغرفيلد بطريقته وبأسلوب باريسي يستهوي عاشقات جمع القطع الفريدة والمحدودة. وما علينا إلا أن نتذكر تشكيلة «باريس - موسكو» بزخرفاتها أو «باريس - لندن» بألوان العلم البريطاني، وفي العام الماضي «باريس - مومباي» التي على الرغم من أنها أقيمت في «لوغران باليه» بباريس، فإنها تلونت وتلوت بأسلوب هندي خفيف.

اختيار «لينليثغو» الواقع على بعد 20 ميلا من أدنبره، له دلالاته أيضا ولم يأتِ من فراغ. فهذا هو القصر الذي ولدت فيه ماري، ملكة اسكوتلندا، التي اعتلت العرش وعمرها لا يتعدى 6 أيام بعد وفاة والدها جيمس الخامس في عام 1542. لما بلغت الصبا والشباب توجهت إلى فرنسا لتتزوج ولي العهد الفرنسي فرانسيس الثاني الذي أصبح ملكا فيما بعد. بعد وفاته عادت إلى مسقط رأسها حيث لقيت مصرعها على يد إليزابيث الثانية. وهذا يعني أنها تجسد التحام الثقافة الاسكتلندية بالفرنسية، وبالتالي كانت أفضل من يلهم كارل لاغرفيلد، فضلا عن رومانسيتها وتراجيديتها. وبالفعل فقد أعادها المصمم للأذهان في كثير من الإطلالات التي اختالت بها العارضات في ساحة القصر، والتي ترجمها من خلال التارتان أو فساتين التويد الطويلة أو الياقات العالية التي تعانق الوجه وتكاد تخفي الذقن أو تسريحات الشعر العالية والمبتكرة، التي على الرغم من كونها مستوحاة من تسريحات القرون الغابرة، فإنها ككل شيء في هذه التشكيلة، تتكلم لغة باريسية واضحة وإن بلكنة اسكوتلندية. ربما لأنها تعيد للأذهان أيضا قصة حب عصرية ربطت بين مؤسسة الدار، غابرييل شانيل ودوق ويستمنستر، أغنى رجل في بريطانيا في ذلك الوقت.

كان ذلك في عام 1923، عندما التقت شانيل الدوق ووقعت في غرامه. وكانت أجمل الأوقات التي قضتها معه في مزرعته الواقعة في المرتفعات الجنوبية من اسكوتلندا حيث كانا يقضيان أوقاتهما في لعب الورق والصيد والمشي لساعات في المرتفعات. في عام 1926 وعندما اشترى الدوق قصر «روزهول» الذي يتكون من 20 غرفة طلب منها الإشراف على كل صغيرة وكبيرة تتعلق بديكوراته، وهذا ما كان. فقد وضعت على جدرانه وألوانه بصماتها الباريسية الخاصة، وفي المقابل حملت معها إلى باريس تأثيرات اسكتلندية مهمة، لعل أبرزها، قماش التويد الذي كان يلبسه الدوق في رحلات الصيد، وأصبح علامة من علامات الدار التي لا تخطئها العين وتشتهيها النفس، سواء جاء على شكل تايور أو جاكيت أو حقيبة يد. التارتان، أيضا دخل عروضها في الخمسينات والستينات من القرن الماضي إلى جانب صوف «الشيتلاند» المغزول في المرتفعات الاسكتلندية تحديدا.

ولا شك أن انخفاض درجات الحرارة إلى ما تحت الصفر، كان مناسبة لتسليط الضوء على أهمية هذه الخامة، التي تحولت على يد كارل لاغرفيلد إلى واحدة من أهم الخامات وأترفها بعد أن كانت مجرد خامة تستعملها زوجات صيادي المنطقة لحياكة كنزات سميكة لأزواجهن لحمايتهم من قرص البرد. نظرة سريعة إلى ضيوف العرض في يوم الثلاثاء الماضي تؤكد أنه فعلا قوي في هذا الموسم. فقد تلفح الجميع به من الرأس إلى أخمص القدمين، في طبقات وطبقات متعددة إلى حد تشعر فيه، عند دخولك قصر «لينليثغو» بأن العرض بدأ قبل أن يعطي كارل لاغرفيلد إشارة الانطلاق. عند دخولك أيضا، تسري في أوصالك قشعريرة برد، لأن ساحة القصر الذي يعود تاريخه إلى القرن الخامس عشر، كانت عارية من دون سقف، بالإضافة إلى أن درجات الحرارة وصلت إلى 3 تحت الصفر في ذلك المساء. ومع ذلك لا بد من الاعتراف بأن هذه القشعريرة قد يكون مردها أيضا حالة الانبهار والرهبة من زخم الأحداث التي شهدها المكان وأثرت على التاريخ البريطاني ككل. «شانيل» كانت تعرف أن تحديها الأكبر هنا، سيكون مع الطبيعة، متجسدة في طقس متقلب وبارد، لهذا استعدت له استعدادا كاملا. فقد نبهت على كل ضيوفها، وقبل العرض بأيام، بأن يتدثروا بملابس دافئة وأن يتجنبوا الكعوب العالية، خصوصا أن احتمال تساقط الثلج كان واردا بقوة، والمشي من قاعة العرض إلى حفل العشاء قد يستغرق 5 دقائق تقريبا. تحسبت للأمر أيضا بتوزيع بطانيات أنيقة موقعة باسمها على الضيوف، في حال تجاهل بعضهم النصيحة مفضلا عدم التنازل عن الأناقة. هذا ووضعت في وسط الساحة مجموعة كبيرة من المدافئ تكفل فريق من الرجال، في بدلات سهرة أنيقة، بضخها بالخشب ليزيدوا من لهيبها حتى تبعث الدفء في أوصال الحضور. والحقيقة أن تأثير اللهب كان رومانسيا إلى حد امتد إلى أجواء العرض نفسه. العارضة العالمية الاسكوتلندية الأصل، ستيلا تينانت، افتتحته بمعطف طويل بلون غامق زينت جوانبه وأكمامه ياقة من التارتان الأحمر التقليدي، تلته مجموعة من الصوف والتارتان والتويد كانت فيها التنورات الاسكوتلندية التقليدية بارزة مع استدارة واضحة أضفت عليها حيوية وعصرية، كما زاد تنسيقها مع طبقات متعددة من الكنزات والجاكيتات والأوشحة والجوارب العالية والقبعات من الإحساس بالدفء. البليسيهات التي تتميز بها التنورة الكلاسيكية أيضا ظهرت في ظهر وجوانب معاطف طويلة وقطع أخرى.

بالنسبة للمساء والسهرة، أرسل مجموعة من التويد والصوف الأبيض بتصاميم مختلفة، كان القاسم المشترك بينها الفخامة وإيماءة واضحة إلى الملكة ماري، التي ولدت في القصر، خصوصا في تلك التي تتميز بقصة الإمباير والياقات العالية. وطبعا كانت تسريحات الشعر دلالة أخرى على تأثيرها على المصمم.

ورش «شانيل» العشر هي «ميزون لوساج» و«مونتيكس» المتخصصتان في التطريز، «كوس» المتخصص في صناعة القفازات، «غوسنز» المتخصصة في الإكسسوارات الذهبية والفضية، «ماسارو» في صنع الأحذية، «ميزون ميشيل» في القبعات، «لومارييه» في الريش، «ديسريس» في الأزرار، «غييه» في صنع الورود، وأخيرا وليس آخرا «باري» لصنع الصوف والكشمير. ولا شك أن البقية ستأتي، فـ«شانيل» أكدت طوال العقد الأخير أنها تقدر الصناعات اليدوية والحرفية، وطالما هي تحقق النجاح والأرباح، فهي لا تبخل أن تتقاسم هذه النجاحات مع آخرين. ما يحسب لها أيضا أنها تترك لهم الحرية المطلقة للتعاون مع باقي بيوت الأزياء، لأن فكرتها من حيازة هذه الورش ليست التحكم أو الامتلاك بقدر ما هو إنقاذها من الانقراض، بسبب شح إمكانياتها وعدم قدرتها على مجاراة تسارع إيقاع العصر من الناحية المادية.