أسبوع الأزياء الراقية ينطلق اليوم في باريس مستفيدا من الأزمة الاقتصادية

حتى يبقى الحلم حيا.. بيوت الأزياء تتوجه لأسواق جديدة

TT

لا الثلوج ولا البرد القارس يمكن أن يقف حائلا أمام أنيقات العالم لحضور باريس في هذا الوقت من كل سنة. فالمناسبة مهمة وتعني دخول أغلى ناد في عاصمة النور والأناقة. بعض الحاضرات يدخلن هذا النادي للتسوق واختيار ما يناسبهن من أزياء رفيعة أقرب إلى التحف الفنية لأفراحهن وأعراسهن.. وبعضهن يدخلنه من باب الحلم والفرجة فحسب رافعات شعار «العين بصيرة واليد قصيرة». فنادي «الأزياء الراقية» أو «الهوت كوتير» كما يطلق عليه هنا في باريس موسم غير ديمقراطي وغير موجه للكل من الناحيتين المادية والفنية على حد سواء. فبغض النظر عن أن سعر كل قطعة فيه تزيد من تسارع دقات القلب، فإنه أيضا ومن الناحية الفنية ينقسم إلى قسمين. الأول عبارة عن تصاميم مغرقة في الكلاسيكية تخاطب شريحة من الزبونات المخلصات أغلبهن من جيل الأمهات والجدات، والثاني عبارة عن تصاميم فانتازية إلى حد السريالية أحيانا، تحاول استقطاب شرائح جديدة من الأسواق النامية متعطشة لكل ما هو فريد ومتميز سواء كان هذا الفريد قطعا معدنية ترصع الفستان أو أكماما على شكل أجنحة أو تطريزات غنية بالريش والأحجار شبه الثمينة وما شابه.

ورغم اختلافات الآراء حول الأسعار والتصاميم ومدى عمليتها، إلا أنه لا يمكن الاختلاف حول قوة هذا الموسم وأهمية أزيائه، بدليل أنه ظل صامدا لأكثر من قرن رغم التغيرات الكثيرة التي شهدها العالم. فلا الحروب قضت عليه، ولا الأزمات أضعفته، ولا حتى انقراض الجيل القديم الذي كان يسنده ويقويه في الماضي أثر على مسيرته. صحيح أن الإحصائيات تشير إلى أن عدد الزبونات المنخرطات في هذا النادي الراقي لا يتعدى الـ200 زبونة، إلا أن الحقيقة التي لا ينفيها المصممون أن عددهن يفوق ذلك بكثير وهو في تزايد مطرد. المصمم الفرنسي ستيفان رولان، واحد من هؤلاء، ويؤكد بأن زبوناته من الشرق الأوسط وحدهن يتعدين الألف، مشيرا إلى أن الطلبات لا تتوقف على تصاميمه، والأنامل الناعمة العاملة معه لا تتوقف عن الحركة. فمناسبات الأعراس وحدها تتطلب مجموعة من الفساتين للأسرة الواحدة. فالسعر لا يهم إذا كانت القطعة فريدة لن تحظى بها امرأة أخرى، والعارفون يؤكدون أن سعر القطعة، الذي يتعدى الـ20 ألف دولار لتايور بسيط و100 ألف دولار لفستان مطرز، مثلا، له ما يبرره إذا أخذنا بعين الاعتبار أن تنفيذ أبسط قطعة، قد يستغرق أكثر من 600 ساعة، وتجند له أعداد لا يستهان بها من الحرفيين يطلق عليهم الأنامل الناعمة، تسهر في ورشات متخصصة على إخراج كل قطعة بشكل مبهر وأقرب إلى التحف الفنية. فلصناعة 11 ألف زر، مثلا، تحتاج العملية إلى 10 آلاف ساعة، هذا عدا عن 1770 ساعة لتنفيذ التطريزات في ورشات «لوساج» وهلم جرا. فكل تفصيل هنا، من تصنيع الأزرار والريش إلى تركيبهما، يعتبر قطعة قائمة بحد ذاتها، يشرف عليها متخصصون وحرفيون مهرة، متحمسون لمهنة أصبحت تعرف ازدهارا بعد أن كانت مهددة في يوم من الأيام بالاختفاء. ففي عام 2004 تعالت أصوات المتشائمين تنعي هذا الجانب وتقول: إنه آيل للانقراض مع انقراض واختفاء زبوناته من جهة، وتقاعد بعض المتمرسين فيه مثل الراحلين إيف سان لوران، وإيمانويل أونغارو وانسحاب دار «فرساتشي» من جهة ثانية، لكن الأيام أثبتت كم كانوا خاطئين. فبعد تذبذب قصير عرفه قطاع المنتجات المترفة عموما، جاءت الأزمة الاقتصادية العالمية في 2008 لتنقذه. فقد شهد فجأة ما يشبه الطفرة بعد عام من اندلاعها تقريبا، حيث ارتفعت أسعار المنتجات المترفة عموما، كما زاد الإقبال على الأزياء الرفيعة، بفضل انفتاح الأسواق النامية، وروسيا والصين والبرازيل، وطبعا زبونات منطقة الشرق الأوسط الوفيات وبناتهن. والمثير للانتباه أنه منذ بداية الأزمة الأخيرة، أصبح هذا القطاع يحقق أرباحا كبيرة لأول مرة ومنذ عقود. فدار «ديور» مثلا، التي لم تكن تحقق من ورائه سوى السبق الفني، سجلت ارتفاعا ملحوظا في المبيعات في الموسمين الأخيرين، كذلك دار «شانيل» وستيفان رولان، وغيرهم.

والآن يقدر قطاع المنتجات المترفة بأكثر من 935 مليار جنيه إسترليني، ويتوقع أن تزيد هذه النسبة بـ7% في عام 2014 حسب تقرير صدر عن مجموعة «بوسطن» الاستشارية. وفي تقرير مماثل لـ«فرونتيير إيكونوميكس» أفادت التوقعات بأن هذا القطاع سيزيد في بريطانيا وحدها بنسبة 57% في عام 2015 ليصل إلى 9 مليارات جنيه إسترليني. ولا شك أن إقبال الصينيات وحدهن على كل ما هو متميز وغال، كان دافعا قويا لتشجيع بعض بيوت الأزياء، وعلى رأسها «سالفاتوري فيراغامو» ومجموعة «إل.إف.آم.آش» التي تنضوي تحتها كل من «ديور»، «سيلين»، «لوي فويتون»، «بولغاري» وغيرها إلى رفع أسعارها بنسبة 8% في أوروبا، لما تشهده من تدفق سياحي آسيوي. وطبعا سنرى بيوت أزياء أخرى تسير على نفس النهج للمحافظة على كينونتها ومكانتها ضمن هذه السوق. يذكر أن بداية رفع الأسعار بدأت في عام 2009 تقريبا بعد أن انتبهت بيوت الأزياء إلى ولادة شريحة جديدة من الزبونات لا يهمها السعر بقدر ما يهمها أن تحصل على تصميم فريد من نوعه. وهكذا بعد أن كان المصممون يتوددون إلى وريثات أو زوجات أثرياء، ربما يقدر عددهن بـ200 امرأة حول العالم في الماضي، غيروا الاتجاه نحو نساء دخلن مجال المال والأعمال وحققن ثرواتهن بأنفسهن. في البداية، لم يعرف المصممون كيف يخاطبونهن، فبدت العلاقة غير واثقة، تمثلت في تصاميم متحفظة وبالغة الهدوء، لكنهم سرعان ما بدأوا يستخدمون العيار الثقيل بالاعتماد على تطريزات غنية وأقمشة مترفة وتصاميم لافتة، تتباين بين الرومانسية والهندسية تحت راية التميز والاستثمار. أدركوا أيضا أن هذه المرأة تختلف عن زبونة أيام زمان، من حيث إنها لا تتمتع بترف الوقت، مما استدعى ابتكار طرق جديدة تناسب إيقاع حياتها السريع.

فبعد أن كانت الطريقة القديمة تتطلب الحضور إلى باريس لإجراء عدة بروفات، أصبحت باريس تنتقل إلى مقر إقامة الزبونة لإجراء هذه البروفات والتغييرات، وتلبيتها في غضون أربعة أسابيع تقريبا مقارنة بثلاثة أشهر في الماضي. المصمم ستيفان رولان أكد جدوى هذه السياسة وضرورتها بقوله: «إن كثيرا من النساء يعملن حاليا، ولهن مسؤوليات كثيرة تجعل إيقاع حياتهن سريعا ومثيرا للضغوط، ودور المصمم أن يقدم أزياء تلبي احتياجاتهن وتخفف من ضغوطاتهن، بطرح أزياء عملية وراقية في الوقت ذاته..فالـ(هوت كوتير) يجب أن تتكلم لغة العصر، ولا تقتصر فقط على أزياء خاصة بمناسبات المساء والسهرة». لكن إذا كان ستيفان رولان يقدم أزياء فنية منحوتة للسهرة، وتايورات مفصلة بشكل رائع للنهار مثله مثل جيورجيو أرماني مثلا، فإن بعض المصممين الآخرين يميلون إلى التميز بمعانقة أشكال فنية محضة، قد لا تناسب كل نساء العالم، مثل جيامباتيستا فالي، الذي التحق بموسم الـ«هوت كوتير» منذ عامين فقط.

بالنسبة له ولأمثاله من الشباب، فإن هذا الجنوح وبعض الشطحات الفنية، هي المتنفس الذي يتيح لهم الفرصة لإطلاق العنان لخيالهم. فالنية من هذا الأسبوع بالذات هي استعراض قدراتهم في هذا التخصص، كما أنه بالنسبة لكبريات بيوت الأزياء، بمثابة «بريستيج» يستخدمونه لبيع منتجاتهم الأرخص مثل الأزياء الجاهزة والإكسسوارات ومستحضرات التجميل والعطور. ومع ذلك لا يمكن تناسي أهمية أخرى للأسبوع تكمن في أن معظم، إن لم نقل كل، التصاميم المقترحة كلاسيكية كانت أم سريالية وفنية، تبقى المؤشر لما سنراه في عروض الأزياء الجاهزة فيما بعد، والتي منها تتسلل إلى أسواق الموضة الشعبية وإلى خزانة المرأة العادية.

* الـ«هوت كوتير»..ناد خاص للمصممين أيضا

* ولدت الأزياء الرفيعة، وما أصبح يعرف بالـ«هوت كوتير» في عام 1858 في باريس على يد مصمم إنجليزي هو فريدريك وورث، الذي كان يقدم أزياء بتفاصيل وتصاميم رائعة وأقمشة فخمة للنخبة فقط. مع الوقت أصبح الـ«هوت كوتير» مرادفا لأي شيء مترف ونخبوي - موسم الـ«هوت كوتير» ناد خاص ليس للزبونات فحسب، بل أيضا للمصممين. ففيدرالية الموضة الباريسية لا تعترف بأي كان ولا تدرج أسماء كل المصممين في البرنامج الرسمي إلا إذا استوفى كل الشروط. من هذه الشروط: أن يكون للمصمم معمل أو «استوديو» في باريس يوظف ما لا يقل عن 15 عاملا بشكل يومي، وأن تكون له القدرة على تقديم تشكيلة مكونة من 35 قطعة للمساء والنهار في كل موسم.

- أغلبية القطع يجب أن تكون من تصميم وإشراف المصمم الفني نفسه، وكل قطعة يجب أن تكون بعدد محدود ومنفذة باليد مع إمكانية تفصيلها على مقاس الزبونة - يتطلب تنفيذ قطعة واحدة نحو 100 ساعة، وإذا كانت بتطريزات معقدة فقد تستغرق أكثر من 1000 ساعة - فستان سهرة مطرز قد يتطلب نحو 50 شخصا لتنفيذ كل تفاصيله من البداية إلى النهاية قبل ظهور الأزياء الجاهزة وانتعاشها، كانت الأزياء الراقية هي المتسلطنة والسبيل الوحيد لقطع أنيقة، وكانت كثير من البيوت الأزياء تتخصص في هذا المجال. لكن مع الوقت، وبعد أن أصبحت الأزياء الجاهزة هي الدجاجة التي تبيض ذهبا بالمقارنة، تركها كثير منهم مثل، «بالنسياجا»، «غي لاروش»، و«إميليو بوتشي»، و«لانفان»، و«نينا ريتشي»، و«إيف سان لوران»، و«بيير بالمان»، «إيمانويل أونغارو». والآن تحاول فيدرالية الموضة الفرنسية زيادة عدد المشاركين بإدراج أسماء شابة للأسبوع حتى تضخه بدماء جديدة. فقد ضمت أخيرا أسماء أليكسيس مابيل، و«ميزون مارتن مارجيلا»، والمغربية بشرى جرار واللبناني ربيع كيروز وقبلهم جيامباتيستا فالي.