ملابس الأفلام السينمائية.. عندما تصرخ اللغة الصامتة

تساعد الممثل على تحديد معالم الشخصية ليقوم بعد ذلك برسم معالمها على طريقته

TT

ما بدأ كاحتفال بالفن السابع وبالأعمال السينمائية المتميزة، أصبح أيضا احتفالا بالموضة في العقود الأخيرة، إلى حد تداخلت فيه الأمور، وأصبح الخيط رفيعا بين الاثنين. فالتغطيات الإعلامية التي نتابعها على شاشات التلفزيون أو صفحات الصحف والمجلات تركز على الأزياء بشكل يخلق انطباعا بأن حفل توزيع جوائز الأوسكار هو عن الأزياء أولا والأعمال السينمائية ثانيا وليس العكس. وبالفعل هو كذلك بالنسبة للمصممين والمجلات البراقة، الذين يعتبرونه أكبر عرض أزياء عالمي. لهذا ليس غريبا أن يتسابق المصممون على المشاركة فيه بمغازلة النجمات، خصوصا المرشحات للفوز بأي جائزة، على أمل أن تتنازل واحدة منهن وتقبل الظهور بتصميم من إبداعهم. طبعا النجمات يستمتعن بهذا الاهتمام ويتشرطن، فهذه فرصتهن للحصول على عقود أو أجور عالية مقابل الظهور بفستان رائع، لتخرج في النهاية بنتيجة أن الكل رابح باستثناء الأفلام السينمائية التي تتوارى إلى المرتبة الثانية بالنسبة للعامة من غير المتخصصين في السينما الذين تجرفهم التغطيات الإعلامية إلى الاتجاه المعاكس.

بيد أن حفل توزيع جوائز الأوسكار لا يعني فقط المصممين العالميين وبيوت الأزياء المشهورة من أمثال «ديور» إيلي صعب، «ماركيزا»، «فيرساتشي»، «فالنتينو» وغيرهم بل يعني أيضا مصممين أشبه بالجنود المجهولين قد لا نعرف أسماءهم في أغلب الأحيان، لكنهم يؤثرون علينا من دون أن نعرف. مصممون من دونهم لا تكتمل الحبكة السينمائية من دونهم من جهة، ويستقي منهم المصممون العالميون الشيء الكثير من جهة ثانية، في الغالب من دون ذكر أسمائهم بل فقط اسم الفيلم أو النجمة التي ظهرت في الفيلم بتصاميمهم. ما من شك أنه من دونهم قد يفشل المخرج في إيصال فكرته والممثل في فهم الشخصية أحيانا. فقط عندما تكون الأزياء مصممة بشكل حرفي يمكنها أن تقنع المشاهد بما يجري من أحداث أو يعتمل في صدر الممثل، وحسبما قال المخرج مارتن سكورسيزي فإن «الأزياء هي الشخصية».

وهذا ما يجعل دخول هذا المجال صعبا والخروج منه أصعب، لأنه يتحول إلى شبه إدمان، وليس أدل على هذا من إيديث هيد، التي تعتبر أشهر مصممة أزياء في تاريخ السينما على الإطلاق. فقد امتد مشوارها الفني في استوديوهات هوليوود من عام 1929 من خلال فيلم «أجنحة» Wings إلى عام 1976 تعاملت فيها مع ألفريد هتشكوك في 11 فيلما ما بين أعوام 1946 و1976، ولم تفكر في أي مرحلة من المراحل أن تتجه إلى تصميم الأزياء ودخول مجال الموضة الواسع بكل ما يمنحه من شهرة.

بحسب الخبراء فإن الفرق بين مصمم الأزياء ومصمم ملابس الأفلام أن الأول يحاول إرضاء العين البشرية ومن ثم الحواس والمشاعر، بينما يحاول الثاني إرضاء عدسات الكاميرا، التي تعتبر آلة باردة لا تعترف بالمشاعر، مما يجعلها أكثر انتقادا من العين البشرية خصوصا أن قدرتها على غربلة الألوان قوية. التغيرات التي شهدتها صناعة الأفلام مثل التحول من الأفلام الصامتة إلى الصوت، ومن الأبيض والأسود إلى الألوان كلها كانت لها تأثيرات على فن تصميم الملابس السينمائية. فالألوان مثلا دفعت إلى تطوير هذا المجال بشكل درامي، لأنها تطلبت تعاملا مختلفا مع الأقمشة ونوعيتها كما درجات ألوانها. ففي أفلام الأبيض والأسود مثلا، كان على المصمم أن يجذب العين والاهتمام من خلال الخطوط والرسمات والتناقض بين الهادئ الخفيف والداكن، وبين الضوء والظل من خلال انعكاسات الساتان والأحجار والخرز. وهذا ما يشرحه المصمم مارك بريدجز قائلا: «عندما طلب مني أن أصمم أزياء فيلم (ذي أرتيست) اكتشفت أن القصة تعتمد كليا على البصر وأنه علي أن أعتمد على التفاصيل وعلى نوعية الأقمشة». وأضاف: «سواء كان الزي مفصلا بطريقة سيئة أو بذلة باللون الرمادي المطفي أو فستان مطرز ومبهر، من المهم أن يفهم المشاهد ما يجري من تغيرات للممثلين من خلال هذه الأزياء».

المصمم الصومالي الأصل، روبي الروبي، الذي صمم أزياء فيلم «نينا سيمون» الذي قامت به الممثلة زوي سالدانا، مؤخرا، يعلق أن تصميم أزياء السينما والمسرح، بمثابة كتابة قصة، أو تأريخ لحقبة تاريخية أو ظاهرة اجتماعية. وبما أن الأفلام السينمائية تحكي قصصا إنسانية يكون الكثير منها مستلهما من أحداث أو أشخاص من الواقع، فإن تصميمها فن قائم بحد ذاته، يتكلم لغة قد تبدو صامتة، لكنها دائما أبلغ من الكلام. وهذا عنصر مهم في الفيلم، يؤكد أنها هي التي تعطي الأحداث حيويتها وتمنح الأشخاص الروح وتحول شخصياتهم من مجرد سطور مكتوبة على الورق إلى شخصيات نتعايش ونتفاعل معها كمتفرجين. وهذا ما سلط عليه الضوء المعرض الأخير الذي احتضنه متحف «فيكتوريا أند ألبرت» تحت عنوان «أزياء هوليوود» وكان من أنجح المعارض الخاصة بأزياء السينما لحد الآن. ليس لأنه ضم أكثر من 100 زي من أفلام تتباين بين الرومانسية والتراجيديا والكوميديا والأكشن، بل لأنه ركز على كل جوانب صناعة السينما من خلال الأزياء، منذ أفلام تشارلي تشابلن الصامتة وأفلام الأبيض والأسود إلى ظهور الألوان والصوت في فيلم «ذهب مع الريح»، ثم المؤثرات ذات الأبعاد الثلاثية في فيلم «أفاتار». وبين أن كل فترة تتطلب تناولا مختلفا وتعاملا جديدا مع الكاميرا. أفلام الأبيض والأسود، مثلا، كانت تتطلب أقمشة تلمع حتى تعكس الضوء، وبالتالي كان المطلوب من المصممين استعمال قماش اللاميه الفضي والذهبي على حد سواء. أما الأفلام الملونة فتطلبت من المصمم أن يتعلم تقنيات جديدة وأكثر تعقيدا، لكي تكون النتيجة مقنعة على الشاشة، لا سيما أن الألوان في البداية كانت تظهر بدرجات مختلفة عما هي عليه في الحقيقة، بالإضافة إلى أنها كانت تسبب تشويشا في النظر تضيع المشاهد وتشتت انتباهه. لم يتحسن الأمر إلا بعد صدور فيلم «ذهب مع الريح» في عام 1939، الذي حقق نجاحا باهرا على جميع المستويات، أصبحت معه الألوان عنصرا أساسيا في الحبكة الدرامية، ومعه أصبحت لغة الأزياء أكثر سلاسة.

ما أكده المعرض في متحف «فكتوريا أند ألبرت» أيضا أن العلاقة الإبداعية بين المخرج ومصمم أزياء الفيلم وجهان لعملة واحدة، فمن دون الواحد لا يكتمل الآخر. فإلى جانب رؤية المخرج وحبكة السيناريو، فإن الأزياء تكون النصف الأساسي الآخر لتكوين الشخصية وبلورتها. حقيقة أكدتها ميريل ستريب بقولها: «عندما أقرأ السيناريو، أهتم بكيفية تقديم الأشخاص بنفس القدر الذي أهتم فيه بالأزياء.. فنحن نقدم الكثير ونكشف الكثير من جوانب شخصياتنا بما نلبس. وبغض النظر عن الحقبة أو الدور، يجب أن تقنع الشخصية المشاهد بأدائها، صوتها ومظهرها. فمهما كانت الحقبة أو نوع الفيلم، فإن المتوقع أن يصدق المشاهد ما يراه ويشعر بأن الأشخاص في الفيلم حقيقيون ولهم حياة خاصة بهم».

وهذا ربما ما يجعل العبء كبيرا على مصمم ملابس الفيلم. فقبل أي شيء عليه أن يقرأ السيناريو ويسبر أغوار كل شخصية على حدة ويفهمها جيدا ثم يتصورها قبل أن يبدأ في ترجمة رؤية المخرج وخدمة السيناريو ليقدمها شبه جاهزة للممثل. في هذه المرحلة فقط يمكن للممثل أن يقدم الشخصية وللمخرج أن يحكي القصة. والطريف أنه في أحيان كثيرة يكتشف الممثل، أو بالأحرى يفهم، الشخصية التي سيتقمصها من خلال الأزياء. وهذا ما أشارت إليه الممثلة غلين كلوس عندما طلب منها تقمص شخصية «كرويللا»، وجوني ديب عندما قام بدور «كابتن جاك سبارو» في فيلم «قراصنة الكاريبي».

فالأزياء والإكسسوارات تساعد الممثل على تحديد معالم الشخصية والدور المناط به، ثم يقوم بعد ذلك برسم معالمها على طريقته، حسبما قالت آن روث، التي صممت أزياء ميريل ستريب في فيلم «المرأة الحديدية» بقولها: «في غرفة الملابس ننتظر قدوم الشخص الثالث». فالأزياء هنا تصبح أكثر من مجرد ملابس، إنها وسيلة للوصول إلى الآخر.. فمشية الممثل، ووقفته وحركاته وإيماءاته كلها تتحدد بما يرتديه. وعندما تكون مصممة بشكل جيد، فإنها تعكس أيضا الحالة النفسية والاجتماعية والعاطفية في لحظات مهمة من القصة.

بعبارة أخرى، إنها اللغة الصامتة التي تعبر عما يشعر به الممثل من الداخل أحيانا وتنقل الممثل من مرحلة السيناريو المكتوب على الورق إلى الحياة المتعددة الأبعاد. فالمصمم، إن صح القول، يمنح الملابس للممثل، فيما يقدم الممثل الشخصية للمخرج ليتمكن هذا الأخير من أن يحكي القصة للمشاهد. وعندما تنجح شخصية في أن تستحوذ على قلب المشاهد وعقله، فإن مصمم ملابس الفيلم يمكنه حينها أن يؤثر على الموضة في كل أنحاء العالم، لأن هذه الشخصية تتحول إلى أيقونة يستلهم منها المصممون أفكارهم لمواسم مقبلة، كما يتلقاها الإنسان العادي ويحولها إلى ثقافة شارع. فأي أيقونة سينما تولد بعد أن يقع المشاهد في سحرها وسحر شخصيات الفيلم.