إيلي صعب يعترف: قسوتي على نفسي تعذبني

فتح لـ «الشرق الأوسط» باب معمله وقلبه عشية عرضه في باريس

ايلي صعب يضع لمساته الأخيرة على أحد تصميماته عشية العرض («الشرق الأوسط»)
TT

«إنها حالة مثيرة للأعصاب والقلق لكنها أيضا ممتعة». هذا ما قاله المصمم إيلي صعب لـ«الشرق الأوسط» قبل يوم من عرضه لخريف وشتاء 2013، خلال زيارة إلى معمله الواقع في واحدة من أرقى المناطق بباريس بالجادة الـ16 على بعد دقائق من الشانزيليزيه.

كان المبنى ضخما من الخارج، وفخما من الداخل بأسقفه العالية وقاعاته الشاسعة التي تتفرع كل واحدة عن قاعة أخرى، قسمها المصمم حسب ما يتطلبه استوديو أصبح اليوم ينتج ستة تشكيلات في السنة من «هوت كوتير»، أزياء جاهزة، «كروز» بالإضافة إلى خط عرائس لمحلات «برونوفياس». وهذا يعني أن العمل فيه لا يتوقف طوال السنة.

أن تحظى بمقابلة المصمم في مقر عمله، وقبل العرض بيوم واحد، فرصة لا تتكرر دائما، وتجعلك تتوقع أنك ستجد المكان مثل خلية نحل تعج بالحركة والأصوات العالية، وربما موسيقى تنبعث من مكان ما لتعطيك إحساسا بأنه لم يبق على العرض سوى 24 ساعة تقريبا، بل تتوقع أنه لن يكون لأحد الوقت والصبر لكي يمنحك أكثر من دقيقة من وقته الثمين، لكن كل هذه التوقعات كانت خاطئة. تفاجأ بهدوء وابتسامات ترتسم على وجه كل من يقابلك، ولسان حالهم يقول إنه يوم عمل عادي مثله مثل باقية الأيام. طبعا لا تصدق ما تراه عيناك أو لا تريد أن تصدق، وتقول مع نفسك إنه الهدوء الذي يسبق العاصفة، وإن الإيقاع سيتغير لا محالة بعد حضور إيلي صعب. يدخل إيلي صعب القاعة وابتسامة خفيفة تعلو محياه من دون أن يغير حضوره من ديناميكية المكان. يبدو هادئا، لكن أيضا متوثبا، فعيناه لا تتوقفان عن متابعة ما يجري حوله. يتجه نحو منسقة العرض ومحررة الأزياء المعروفة، صوفيا نيوفيتو، التي كانت تجري بعد التعديلات على إطلالة عارضة، ليتناقش معها، فدورها مهم في التحضيرات وشكل العرض ككل. لصوفيا التي تعمل معه منذ خمسة مواسم تقريبا، هي المسؤولة عن تنسيق الصورة التي تطل علينا من الرأس إلى أخمص القدمين، طبعا بالتعاون مع إيلي صعب، الذي لا ينفي أنه يتدخل في كل كبيرة وصغيرة. بعد ذلك يتجه نحو ألين، المسؤولة عن إجراء التغييرات والرتوشات الأخيرة على كل قطعة حتى تبدو مفصلة على الجسم، ليقترح عليها فكرة أو يطلب منها إنهاء مهمة، تتجه بعدها بسرعة نحو عارضة وتبدأ في تضييق فستان عند الخصر أو التقصير من طوله.

يقول إيلي مبتسما: «أنا أشتغل أفضل تحت الضغط، فكلما اقترب العرض، أجد نفسي أعطي وأبدع أكثر. فحتى آخر لحظة، يمكن أن تأتيني فكرة أن أضيف طية هنا أو وردة هناك، بل يمكنني القول إن خيالي في العشرة أيام الأخيرة (يفقس) أكثر. وهذا ليس خطأ، فالضغط يفجر الطاقات».

في هذه اللحظة تخرج عارضة بفستان طويل من الموسلين باللون الأخضر الفستفي، مخرم من تحت بتطريزات واضحة وكبيرة، ومع ذلك هادئة وراقية لأنها من نفس لون الفستان ولا يتخللها أي بريق. تبدو العارضة في الفستان وكأنها أميرة من قصص ألف ليلة وليلة، فالإطلالة كاملة ولا ينقصها شيء إلا أن إيلي كان له رأي آخر. ينظر إليها ثم يشير إلى ألين، ويهمس لها وهو يشير إلى الخصر بأن تضيف عددا من الطيات إليه حتى ينساب بسهولة ويبدو الفستان أكثر توازنا. توافقه ألين الرأي وتبدأ في العمل مباشرة، متجهة إلى الغرفة المجاورة، حيث كانت مجموعة من العارضات يجرين بروفات ويتلقين التعليمات من صوفيا حول الفساتين التي ستظهر بها كل واحدة منهن في الغد. 50 فستانا هو عدد القطع التي قرر إيلي صعب أن يعرضها في آخر يوم من أسبوع باريس لخريف وشتاء 2013 - 2014، لكن في الجانب الآخر كانت هناك مجموعة أخرى، تفوق المائة، لا تقل أناقة، لكنها لن ترى النور، لأن المصمم قرر في الأيام الأخيرة أنها غير مناسبة، ليتم الاستغناء عنها تماما والاستعاضة عنها بأخرى. فطريقته في العمل أنه يصمم عدة موديلات، ولا يتوقف خياله عن تصور تصاميم وأشكال جديدة يتم تنفيذها، لكنه في الأيام الأخيرة، يبدأ في غربلتها وحذف ما لا يروق له منها.

يشرح المصمم: «لا مكان للخطأ بالنسبة لي، فأنا بدأت ونصب عيني أن أكبر وأتطور، وحلمي أن أبني دارا تبقى طويلا حتى من دوني.. فأنا أجهز وأعمل لبناء مؤسسة، لهذا لا أريد أن أشعر أن كل ما عملت عليه يمكن أن يتأثر بسبب شيء أنا غير مقتنع به». ويتابع: «لا يغرنك المظهر الخارجي، فإن دقات قلبي تتسارع كلما اقترب موعد العرض، ومشكلتي أنه كلما زاد الضغط أصبحت الأخطاء الصغيرة تأخذ أحجاما كبيرة بالنسبة لي، كما يزيد انفعالي ويقل صبري مع الناس. فأنا أعطي كل ما عندي، وأتوقع من كل من يعمل معي نفس الشيء، لهذا عندما أرى أي تهاون أنفعل وأفقد أعصابي. لم يعد هناك مجال لأي خطأ مهما كان صغيرا».

والحقيقة أنه من الصعب تصديق أنه يمكن أن يفقد أعصابه أو يخطئ في حق أي أحد، لكنه يؤكد أنه متطلب في العمل، وكلما زادت المسؤوليات وكبرت دار «إيلي صعب» زاد الضغط عليه وعلى تقديم الأفضل. يشرح: «في السابق كنت أتعامل مع قلة من الناس، وكنت أستطيع التحكم في نفسي، لكنني اليوم أرى عددا كبيرا من الناس ويمكن أن أعمل معهم في وقت ومكان واحد، وهو ما أجد صعوبة في التأقلم معه، لأن مشكلتي أنني لا أطيق الازدحام في مكان واحد، فحتى الأصوات في هذه الحالة تتحول إلى ضجيج، وربما هذا ما يفقدني أعصابي».

كأي مصمم رسخ مكانته في العالم، فإن التحدي الأكبر هو أن يحافظ على مكانته وأسلوبه من دون أن يتوقف عن التطور والنمو. والتحدي أمام إيلي صعب أنه تعود أن يقدم تصاميم حالمة ورومانسية تعشقها زبوناته الشرق أوسطيات بقدر ما تتسابق عليها النجمات وأميرات أوروبا، لهذا فإن خروجه عن هذا النص المضمون، غير مطلوب أو متوقع، إلا أنه يؤكد أن هذه التشكيلة مختلفة عن كل ما قدمه في السابق. فهي تحمل بين ثناياها وطياتها، لمسات رجولية لم يسبق له أن استكشفها من قبل، من خلال التفصيل حينا، والتلاعب بالأقمشة حينا آخر. وهذه اللمسة الرجولية الواضحة، كما يقول، هي التي تزيد من أنوثة المرأة وسحرها، لا سيما عند مزج الأقمشة الشفافة مثل الموسلين مع أخرى أكثر سمكا وتماسكا لتعطي الزي قوامه، إن صح القول. ثم إنه لا يدعي أن هذا التحول جديد بالمعنى الجذري، بقدر ما هو تحول في حالة مزاج، أو ربما هو «نفس» جديد، من باب رغبته فتح باب التغيير، ورؤية الأمور من زاوية جديدة ويستدل على هذه الزاوية الجديدة، بالتغيير الذي طرأ على التطريز الذي يميز أسلوب «إيلي صعب»، فهو الغائب الحاضر دائما، وفي هذه التشكيلة لم يعتمد على الترتر والأحجار والخرز، بل نفذ أحيانا بالكشمير والموهير، لهذا جاء أكثر هدوءا ويصعب أن تلتقطه العين من النظرة الأولى. ويسارع إيلي للقول إنه لا ينظر إلى الماضي، وكأنه يريد أن ينفي عن نفسه تهمة استسهال النجاح، أو الرغبة في البقاء سجين الماضي: «أنا دائما أنظر إلى المستقبل، لأنه هو الذي يهمني.. صحيح أني أعمل حاليا على هذه التشكيلة، لكنني بدأت أفكر في التشكيلة المقبلة منذ الآن. فمشكلتي أنني لا أستطيع أن أعيش اللحظة، دائما أعذب نفسي وأحاسبها لتقديم الأحسن. ما إن ينتهي عرض أو أنتهي من فستان، حتى أقول لماذا لم أفعله بشكل آخر، وإنه كان بإمكاني أن أفعل هذا أو ذلك. لا أجد نفسي راضيا عن نفسي، وكأني في تحد مستمر أو في سباق مع الزمن. لكن ربما هذه القسوة مع النفس هي تجعلني أحسن عملي وأتقدم. لكن قسوتي هاته على نفسي تعذبني».

ويشير إلى أن الأنوثة الحالمة كانت دائما عنصرا مهما بالنسبة له، فهي تدخل في صميم جينات الدار التي أسسها بحب، ولا يقبل أن يزعزع كيانها أي شيء. كذلك التطريز سيبقى دائما حاضرا فيها، بشكل أو بآخر، فامرأته تريد «إطلالة» مفعمة بالأناقة والفخامة وهذا ما سيلبيه لها، سواء كان ذلك من خلال بريق الأحجار أو ترف الخامات أو التصاميم الأنثوية. ولا شك أن هذه الأنوثة هي التي أكسبته سمعته ومكانته، وجعلت البعض يقارنه بأسلوب فالنتينو. مقارنة لا يرى أنها تنتقص منه، بل العكس، فهو يعترف بأن فالنتينو هو مصممه المفضل، فهو الذي فتح عليه عيونه وهو شاب يتلمس طريقه في عالم الموضة. يقول: «فالنتينو هو المصمم الذي فتحت عيني عليه، وشعرت إلى الآن أنه الوحيد الذي يرى المرأة دائما جميلة من دون ابتذال. ثم أين هو الخطأ في أن يرى مصممان المرأة بنفس الزاوية ونفس الجمال ما دام لا يخدش العين أو الذوق؟ كل ما أريده أن تكون المرأة أنيقة تعانق أنوثتها بشكل راق، لأن هذه هي المرأة التي رسمتها في خيالي منذ البداية». ولكي تأتي هذه الصورة بالشكل الذي يتمناه، فإنه لا يقبل أن يفرض عليه أحد رأيه، سواء تعلق الأمر بتسريحة شعرها أو ماكياجها. فرغم أن بعض فناني الماكياج العالميين الذين يتعاملون معه يحاولون إقناعه، بين الفينة والأخرى، بتغيير «تصميم» الماكياج وشكله، فإنه لا يقبل، مبررا ذلك بأنه لا يريد أن يشوه صورتها الجميلة في خياله أو في عيون كل من يتابع عروضه. فمثلا هو لا يحب أحمر الشفاه القوي، ويفضل التركيز على أن تكون البشرة نظيفة والعيون كحيلة. يعلق: «حاولوا إقناعي بأن أغير الماكياج، لكنني أرفض أن تتلون بشكل غير طبيعي. وهذا يعني أنني «لا أعطي الخبز لخبازه» وأتدخل في كل شيء. ومع ذلك فأنا أعتبر نفسي محظوظا لأنني أتعامل مع أشخاص متمكنين من أدواتهم ويتقنون ما يقومون به، ومع الوقت أصبحوا يدركون أن المرأة التي أتوجه لها لا تتغير، إنها نفس المرأة الأنيقة الراقية والمحترمة التي عرفتها منذ بدايتي إلى الآن».