بين الحنين للماضي والنظر للمستقبل.. تلتقي الثقافات

موسم الـ«هوت كوتير» لخريف 2013 وشتاء 2014.. يؤكد أنه بخير

TT

إنه الموسم الذي لا يقبل سوى بكل ما هو مترف، سواء تعلق الأمر بالأقمشة النفيسة أو التطريزات الدقيقة التي تسهر عليها نحو 2200 خياطة متمرسة، بالإضافة إلى ورشات لها باع طويل في مجالات تخصصها. فورشة «لومارييه»، مثلا، تتخصص في الريش، و«وساج» في التطريز، و«ماسارو» في الأحذية، و«كوس» في القفازات، وهلم جرا من الورشات التي توالت عليها عدة أجيال، لكنها لا تزال تحترم تقاليد أرساها الأجداد، ولا تحيد عنها، لأن أي تنازل يمكن أن يضع نقطة النهاية على قطاع يعيشون منه، وأصبحت فرنسا تتعامل معه كمؤسسة ثقافية قائمة بذاتها.

عروض الأزياء التي شهدتها باريس هذا الأسبوع اختزلت كل هذه المعاني؛ فكل ما يمكن القيام به، بل حتى ما لا يمكن تصور القيام به، عرض هنا. صحيح أنها تقوم على مفهوم الحلم حينا، والفانتازيا حينا آخرا، إلا أنها أكدت هذا الأسبوع أنها لا تحتاج سوى إلى بعد نظر وقليل من الذكاء لتتحول إلى تحف عصرية تناسب الواقع.

* «فرساتشي».. حنين للأبيض والأسود

* يوم الأحد الماضي، أكدت دوناتيلا فرساتشي أن كل ما يحتاج إليه المصمم هذه الأيام لإثارة الأنظار والحصول على ردة فعل إيجابية، الاستعانة بعارضة سوبر، حتى وإن كانت من الزمن الغابر. نعم الغابر، إذا أخذنا بعين الاعتبار أن العام الماضي في قاموس الموضة قديم أكل عليه الدهر وشرب، فما البال إذا كانت العارضة المقصودة هنا هي السمراء ناعومي كامبل التي عرفت قمة شهرتها في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي؟.بيد أن التصفيقات والحرارة التي استقبلت بها العارضة، البالغة من العمر 43 عاما، عندما أطلت على الحضور في أول العرض، أكدت أن الموضة يمكن أن تغض الطرف وتكسر القواعد في الأمور التي تخدمها. أما السبب بالنسبة لدوناتيلا فرساتشي، فكان الحنين إلى عهد شهدت فيه الدار قمتها حين كانت العارضة السمراء واحدة من الوجوه المألوفة في عروضها. كذلك الحنين إلى الزمن الجميل، قبل أن تدخل الألوان عالم السينما والفن، كما شرحت بعد العرض، وكان الأبيض والأسود هما الغالبين. من هذا الحنين استوحت تشكيلتها، قائلة بأن نقطة انطلاقها كانت صورا فوتوغرافية للمصورين هيرست ومان راي: «صور كانت رائعة بكل المقاييس في وقت لم تتوفر فيه تقنيات الفوتوشوب وغيرها.. فهي تستمد روعتها من الإضاءة، بالإضافة إلى باقي التفاصيل، مثل الماكياج والشعر والأزياء».

وهذا ما ترجمته في خطوط واثقة وحالمة في الوقت ذاته، سواء في الفساتين المنسدلة أو التايورات والقطع المفصلة، مثل جاكيت التوكسيدو المرصع بالأحجار الذي افتتحت به ناعومي كامبل العرض، والكنزة المصنوعة من فرو المينك التي اختتمته بها. الأبيض والأسود تجسدا أيضا في استعمالها السخي للقلادات والأساور العريضة المصنوعة من الماس، التي تم تنسيقها مع معظم القطع المعروضة تقريبا. صحيح أنها غير موجهة للاتي عاصرن نجمات هوليوود في عصرهن الذهبي، بقدر ما هي موجهة لشابات يعشقن الموضة، أو بالأحرى جانبها الاستعراضي بفتحاتها الجانبية والعالية وياقاتها المفتوحة بشكل جريء، إلا أنه لا يمكن إنكار فخامتها بدءا من الحرفية العالية التي نفذت بها، إلى الأقمشة المترفة التي استعملت فيها، مثل حرير التول والموسلين وغيرهما. كما لا يمكن أن نتجاهل تلك الجرعة العصرية التي نجحت دوناتيلا في إضافتها إلى العرض. فرغم إطلالة ناعومي كامبل والحرارة التي استقبلت بها، فإنها لم تستطع أن تسرق الأضواء من التشكيلة التي تميزت بقوة غير معهودة من قبل في الدار، في إشارة واضحة إلى أن المصممة توصلت أخيرا إلى الوصفة الناجحة رغم أن وقت عودتها إلى مجال الـ«هوت كوتير» قصير لا يتعدى بضعة مواسم تعد على أصابع اليد الواحدة.

وصفة لا تتغير وتتمثل في لف الأقمشة المترفة حول الجسم بشكل ضيق لا تخترقه سوى فتحات جانبية عالية تمكن المرأة من المشي فيها بسهولة من جهة، وإثارة الانتباه إلى أنوثتها ومفاتنها من جهة ثانية. ورغم أن هذا الأسلوب غير جديد وغير مبتكرا، فإنها تحقنه بجرعة عصرية في كل مرة حتى تبرر التزامها به، ويبدو أنها أقنعت المرأة الشابة بهذا الأسلوب وسوقته لها بذكاء، بدليل الأرباح التي تحققها حاليا وتؤذن بدخولها عهدا جديدا. فدار «فرساتشي» تمر بفترة مهمة من تاريخها، حيث أعلنت لأول مرة استعدادها لبيع بعض أسهمها من أجل النمو والمزيد من التوسع العالمي.. الأمر الذي لم يكن واردا من قبل. فدوناتيلا تملك 20 في المائة من أسهم الدار، وأخوها سانتو 30 في المائة، بينما تملك ابنتها أليغرا 50 في المائة، وهذا يعني أنها كانت دارا عائلية تتحكم فيها العاطفة أكثر من الحس التجاري، مما أثر على مسيرتها، وعرضها لبعض التذبذبات والمشاكل، لكنها بعد أن وظفت رئيسا تنفيذيا من خارج العائلة في عام 2009 بدأت الاستراتيجية تتغير، ومنذ عام 2011 بدأت تشهد النجاح الذي ظلت تحلم به لأكثر من عقد من الزمن. في عام 2012 مثلا سجلت زيادة في الأرباح تقدر بنسبة 7.6 في المائة، ويتوقع أن ترتفع في العام المقبل. وبالنظر إلى ما قدمته يوم الأحد، فإن هذه النسبة مضمونة.

* «ديور».. لقاء الحضارات

* منذ التحاق البلجيكي سيمونز بـ«ديور» والكل يتوقع أنه سيحقق نقلة نوعية وفنية على حد سواء في الدار الفرنسية. ورغم أنه ليس من السهل على أي أحد أن يقوم بثورة جذرية في وقت وجيز، وفي دار مثل «ديور» تتمتع بأرشيف غني وإرث لا ينضب، فإنه نجح في ذلك بطريقته الخاصة. ففي يوم الاثنين كتب سيناريو يختلف بعض الشيء عن ذلك الذي كتبه السيد كريستيان ديور منذ نحو سبعين عاما تقريبا. ما قام به أنه عاد بنا إلى مفهوم الـ«هوت كوتير» الأساسي، حين كان لزاما أن تكون القطعة فريدة من نوعها، مفصلة على المقاس وتعكس شخصية صاحبتها وأسلوب حياتها، كما تناسب مقاييس ومقاس جسمها أيا كانت المناسبة. بعبارة أخرى، كانت واقعية تلخص معنى الفخامة العملية. كان هذا قبل أن تصبح مجرد مختبر تولد فيه الأفكار، السريالية أحيانا، التي تتم ترجمتها لبيع الأزياء الجاهزة والعطور ومستحضرات التجميل وغيرها. فمنذ ظهور الأزياء الجاهزة في الخمسينات تقريبا، والـ«هوت كوتير» تفقد شعبيتها، أو بالأحرى واقعيتها، وتتحول إلى مجال يثير الحلم بدراميته وفانتازياته، فوق منصات العروض على الأقل. بزخرفاتها الكثيرة والمعقدة أصبحت مثل الفراشة التي تثير الإعجاب بألوانها وجمالها ولا تتوقف عن الطيران، لكنها لا تقوم بشيء فعال. فالـ«هوت كوتير» إلى عهد قريب جدا لم تكن تحقق الأرباح بقدر ما كانت تحقق الـ«بريستيج».

ما قام به راف سيمونز، بعمليته البلجيكية ودراسته في مجال التصميم الصناعي، أنه أعاد إلى الـ«هوت كوتير» فخامتها العملية على شكل فساتين وتايورات وبنطلونات ومعاطف يمكن أن تناسب أي واحدة لها الإمكانيات، في أي مناسبة. والأهم من هذا أنها تخاطب كل نساء العالم. فقد قام برحلة إلى القارات الأربع، وقطف من كل واحدة منها شيئا خاصا قدمه بأسلوب عصري خاص. فمن آسيا، وتحديدا اليابان، أخذ صفاءها وهدوءها، ومن أميركا روحها المنطلقة «السبور» وخطوطها المقلمة، ومن أفريقيا صراخ ألوانها وضجيج نقوشاتها، لكن من دون أن يغرق في الكليشيهات أو الفولكلور. فقد كانت الترجمة مجازية أكثر منها حرفية، كما كانت فكرة السفر وإدخال كل نساء العالم في العرض، رومانسية في فكرتها أكثر منها رومانسية في خطوطها، وهو أمر لم نلمسه من قبل في «ديور».

لكن راف سيمونز على ما يبدو قرر، وبعد عام واحد من تسلمه مقاليدها من بيل غايتون، أن يجرب الخروج من جلباب المؤسس كريستيان ديور، بعدم الإسهاب في الرموز الغنية التي أرساها، ولم يتجرأ أحد أن يخرج عنها من قبل. لهذا عوض أن يغوص في الأرشيف، قام بهذه الرحلة ليكتشف ما تريده المرأة من الـ«هوت كوتير» من جهة، وما يمكنه أن يقدمه لها من جهة ثانية. يمكن القول بأنها قد تكون المرة الأولى منذ سنوات التي لم نر فيها جاكيت «البار»، مثلا، وهو التصميم المحدد عند الخصر الذي يتسع من تحته، متسلطنا، ولا التنورة المستديرة الفخمة الطويلة طاغية. فالجاكيت ظهر مرة واحدة باللون الرمادي، وحتى هنا كان بثنيات وطيات كثيرة وأحزمة عريضة، بدا فيها وكأنه مستوحى من الكيمونو الياباني. التنورة المستديرة بدورها أخذت شكلا جديدا، إذ انسابت بسخاء لكن دون استدارة، مثل تلك التي ظهرت في فساتين سهرة تبدو محددة على الجسم من الأمام، لكنها واسعة من الخلف. هذه وغيرها من التصاميم التي تشير إلى أن راف سيمونز، وبعد أن تعززت مكانته في الدار بعد نجاح تشكيلته في الموسم الماضي، اكتسب ثقة أكبر، وشعر بأن الوقت حان لكي يسمح لنفسه بالخروج، ولو قليلا، عن النص، واستعمال لغة عصرية لمخاطبة شرائح جديدة من الزبونات جديدات على الـ«هوت كوتير» لكنهن متعطشات لها.

تفسير راف سيمونز أن هذه التشكيلة تعبر عن التطور، كونها لا تدور حول «ديور» ولا تقتصر على باريس أو حتى فرنسا، بقدر ما هي محاولة لمعانقة العالم، لكل ثقافاته المتعددة والمتنوعة التي أثرت على الدار، وعليه شخصيا. وهذا ما تجسد في 53 تصميما مختلفا، استعرض فيها قدراته الإبداعية، وإن كان المأخذ فيها أنها تسببت في بعض التشتت أحيانا، وكانت هناك قطع جد قوية، وأخرى تبدو عادية لم يشفع لها سوى روحها الإثنية، وتلك الصورة الفنية التي تبهرك مع كل إطلالة، وكأنها بريشة فنان بفضل ألوانها.

قوة راف سيمونز في هذه التشكيلة تكمن أيضا في القصات والتلاعب على الطول بأشكال غير متوازية وترجمته لنعومة اليابان في قطع تستحضر الكيمونو وأحزمته العريضة وطيات الأوريغامي، ربما لأن هذه النعومة ترتبط بجينات الدار أساسا، كما في ترجمته للأسلوب «السبور» في موسم لا يعترف عادة سوى بالترف والكلاسيكية.

* جيامباتسيتا فالي

* إذا خرج أي أحد من عرض «ديور» وهو يحن إلى رومانسيتها القديمة، فإنه سرعان ما استعاد هذا الإحساس في عرض جيامباتسيتا فالي، الذي قدم يوم الاثنين أقوى تشكيلة شهدها الأسبوع في هذا اليوم، وأكثرها رقة أيضا.

مثل راف سيمونز سافر بنا المصمم الإيطالي إلى وجهات بعيدة، إلا أنه على العكس منه، ركز على آسيا وأوروبا أكثر. من بطاقة الدعوة تولد إحساس بأنها ستكون عن البورسلين، وبالفعل لم يخيب المصمم الظن؛ إذ استقى الكثير من الألوان والنعومة والتطريزات من هذا الفن، مثل الأبيض الأزرق ودرجات هادئة من الأصفر والأخضر مع بعض الذهبي التطريزات أيضا استوحيت إما من بورسلين ميسن أو من «ويدجوود» أو «سيفر» وغيرها؛ فقد استهل العرض بثمانية تصاميم مستوحاة من الصين غلب عليها الأبيض والأزرق اتبعها بأخرى بالأحمر مستوحاة من بورسلين «سيفر» الفرنسي، وأخيرا وليس آخرا كان لبورسلين ميسن بألوانه المتعددة نصيب لا يستهان به، خصوصا في التطريزات الرقيقة التي ظهرت في فساتين طويلة وشفافة من الدانتيل أو الموسلين أو حرير غازار أو التول.

فالي لم ينس هنا أن الورود والأحجام هي التي منحته شعبيته ورسخت مكانته في نفوس، وخزانات، الشابات، لهذا لم يخرج عنها في تشكيلته الخامسة هاته، وإن كانت الأحجام أكثر رشاقة هذه المرة معلنة اختفاء الأحجام المستديرة والضخمة. فالقصة هنا كانت رقيقة بكل تفاصيلها ورومانسية في حبكتها زادتها الأحزمة الذهبية التي تبدو كأنها أشرطة تميز، لا سيما إذا عرفنا أن مصممها هو النحات لويجي سكالانجا.