معرض «لوغران باليه» يروي قصة «ميس ديور»

15 فنانة من كل أنحاء العالم يفصلن جينات العطر ويترجمنها في أعمال فنية

«ميس ديور» العطر الأصلي الذي طرحه كريستيان ديور في عام 1947
TT

ظاهرة دخول العطور الأيقونية للمعارض، بدأت منذ بضع سنوات، وأكدت منذ البداية أنها لا تتغنى بالضرورة بخلاصات العطر ومكوناته بقدر ما تكون عن شخصيته، وما يرافقها من إيحاءات سيكولوجية أو اجتماعية أو فنية. وهذا تحديدا ما تستشعره بمجرد أن تطأ أقدامك «لوغران باليه» هذه الأيام. فأول من أمس، يوم الثلاثاء الماضي، افتتح في «لوغران باليه» بباريس، معرض يحمل عنوان «روح ديور، ميس ديور» (Esprit Dior، Miss Dior). المعرض، كما يدل العنوان، مخصص لعطر الدار الأيقوني «ميس ديور»، وهو أول عطر تطلقه في الأربعينات من القرن الماضي، ولا يزال يتجدد في كل موسم محققا نفس النجاح والتأثير، لكنه معزز بأعمال فنية معاصرة وقطع أرشيفية مهمة، كما تستشعر فيه تأثير المؤسس كريستيان ديور، من خلال عشقه الورود والفن والهندسة كما من خلال تصاميمه التي قلبت موازين الموضة وحققت ثورة في منتصف القرن الماضي. وسرعان ما تتأكد أن العطر لا يستمد أسطورته من خلاصاته التي كانت جديدة وثورية في ذلك الحين فحسب، بل من كونه واكب أول تشكيلة أطلقها السيد ديور على الإطلاق ولا يزال يحقق المبيعات إلى اليوم.

تروي القصة أن المصمم كريستيان ديور، وقبل أن يكشف عن أول تشكيلة أزياء له في 12 من شهر فبراير (شباط) عام 1947، عطر قاعة العرض في 30 أفينو مونتين، بعطر جديد أطلق عليه اسم «ميس ديور». كان لا بد للمصمم أن تكتمل متعة الحاضرات بأن يدغدغ كل حواسهن، معتبرا أنه من دون رائحة عطرة لا يكتمل العرض. في ذلك اليوم، حقق المصمم الراحل ثورته، التي أطلقت عليها كارميل سنو، محررة مجلة «هاربرز بازار»، «ذي نيو لوك» وهي التسمية التي لا تزال تعرف بها لحد الآن. «لوك» أعاد للمرأة أنوثة افتقدتها طوال فترة الحرب العالمية الثانية، إذ بعد سنوات من التقشف والأقمشة الخشنة، استعمل ديور أقمشة مترفة وبأمتار سخية في تنورات مستديرة فخمة بألوان تفتح النفس مستقاة من الورود والطبيعة، وجاكيتات حدد فيها الخصر بشكل كبير ليبرز نحوله ومن ثم جماليات الجسم ككل. في ذلك اليوم، أحبت المرأة كريستيان ديور ليحفر اسمه بين الكبار. في ذلك اليوم أيضا، ولدت أسطورة «ميس ديور».

معرضه، الذي سيمتد إلى يوم 25 من الشهر الحالي في «لوغران باليه»، تهدف منه الدار تأكيد أنه عطر لكل عصر، وأنه لا يزال يتغنى بالأنوثة التي احترمها السيد ديور وتغنى بها طوال حياته إلى جانب عشقه الفن. عشق ولدت منه صداقات كثيرة مع فنانين من عصره وتعاونات وتأثيرات تجلت في بعض الإبداعات المعروضة، مثل فستان «كونشيرتو» الأحمر الذي صممه في العام الذي وافته فيه المنية فجأة، أي في عام 1957، والتايور المكون من جاكيت «البار» الذي ظهر في أول تشكيلة له في عام 1947، ولا يغيب من أي تشكيلة إلى حد الآن، إضافة إلى فساتين لمصمم الدار الحالي، راف سيمونز، الذي كانت مهمته الأساسية حقن الدار بجرعة شبابية عصرية مع الحفاظ على إرث المؤسس وروحه.

عند دخول قاعة «كورب» بـ«لوغران باليه»، أول ما يقابلك صورة السيد كريستيان ديور كأنه يرحب بك، بعدها تبدأ رحلتك لاستكشاف عالم «ديور» بالأبيض والرمادي، ألوانه المفضلة. بعد ذلك، تطالعك صورة ناتالي بورتمان بفستان من التول الخفيف مع عطر «ميس ديور» الذي جرى استنساخه في صورته الأصلية كما ظهرت في 30 أفينو مونتين، المقر الرئيس للدار. ركن آخر خصص للتأثيرات الفنية التي تأثر بها السيد ديور، علما بأنه كان يمتلك قاعتي عرض فنيتين في باريس قبل أن يصبح مصمما. هنا، يمكن رؤية لوحات لفنانين تعامل معهم في حياته وكانوا مقربين منه؛ أمثال: برنار بوفيه، جون ميرو، سلفادور دالي، مان راي وجياكوميتي. هنا أيضا، يمكن رؤية صور فوتوغرافية تسجل لعلاقة المصمم بالحركات الفنية المعاصرة في وقته، وكيف كانت نظرته سابقة لأوانها وجريئة من حيث تذوقه الفن. على طول الحائط الذي يمتد على 600 متر مربع، تستشعر روحه واضحة في كل صورة فوتوغرافية أو مخطوطة أو لوحة أو قنينة، بدءا من سخائه الإبداعي، إلى منزله بغرانفيل بواجهته الوردية وحديقته الغناء، من دون أن ننسى منطقة غراس جنوب فرنسا، التي ولد فيه عطره «ميس ديور». مؤثرات كثيرة تحولت إلى رموز تلعب عليها الدار في كل موسم لتتحفنا بالجديد، سواء تعلق الأمر بالأزياء أو الإكسسوارات والمجوهرات.

فقد اعترف ديور في إحدى المقابلات بأن حديقة بيت العائلة في غرانفيل كانت طوق أمان له في طفولته. فقد كان يعشق مساعدة والدته في زراعة الورود، ويتأمل شاعرية الطبيعة وهي تنمو وتتفتح حسب الفصول أمام عينيه، وهو ما ترجمه فيما بعد من خلال فساتين حالمة تتفتح كأنها ورود من قماش، بأكتافها الناعمة، وخصورها المحددة وتنوراتها المستديرة.

ومع ذلك، تبقى علاقته بالفن والفنانين جانبا مهما من حياته لا يمكن إغفاله، وهو ما يركز عليه المعرض. فمما يذكر أنه في صباه كان يحلم بأن يصبح مهندسا، لكن رغبته ووجهت بالرفض من قبل العائلة. والده كان يريده أن يدرس الاقتصاد ووالدته كانت تحلم بأن يصبح دبلوماسيا، ففي الثلاثينات من القرن الماضي، كان العمل في الهندسة بالنسبة لأسرة بورجوازية غير مقبول. لهذا، دفن حلمه هذا، لكنه عندما بلغ الـ23 من عمره افتتح قاعتين فنيتين ليشبع حسه الفني وحبه الفن المعاصر. وبالفعل، كان له الفضل في مساعدة بعض الفنانين الشباب بعرض أعمالهم بمن فيهم دالي وكلي وغيرهما. وعندما أسس دار «ديور» للأزياء، بقى تعلقه بكل أنواع الفنون حاضرا في أشكال الفساتين وتصاميمها الهندسية، كما في الألوان المستوحاة من لوحات بيكاسو أو ماتيس وغيرهما، مما رسخ اسمه كواحد من أهم مصممي القرن العشرين.

من هذا العشق للفن، وأيضا احترامه للمرأة، جرى تجنيد 15 فنانة من كل الجنسيات لهذا المعرض، وطلب من كل واحدة منهن أن تترجم عطر «ميس ديور» بأسلوبها الخاص. لم تكن هناك أي خطوط حمراء، المهم استعماله كمادة محورية، بكل ما يتمتع به من تفاصيل، سواء كانت مكوناته أو شكل قنينته أو عنق الزجاجة المربوطة بوردة، أو الممثلة ناتالي بورتمان، الوجه الممثل للعطر حاليا. وكانت النتيجة متنوعة وغنية تؤكد أن العطر ليس مجرد رائحة مكونة من خلاصات الأزهار والأخشاب والتوابل، بل لها جوانب أخرى كثيرة يراها كل واحد منا بمنظوره الخاص.

الفنانة الصينية، ليانغ يونواي، مثلا، أبدعت لوحة تمثل حديقة من الورود استقتها من فستان «ميس ديور» الذي أبدعه المصمم في عام 1949 وطرزه بآلاف البتلات الصغيرة. والفنانة الإيطالية كارلا ماتي، استلهمت من الوردة، كما رسمها الفنان ريينه غريو أول مرة، لتقدم حوضا من الأزهار باللون الأبيض مستعملة مواد حديثة وتقنيات ثلاثية الأبعاد.

أما الفنانة الأميركية، بولي أبفلبوم، فاستعملت الموتيفات ذات الخطوط المتقاطعة التي زينت قنينة العطر لخلق سجادة ضخمة، بينما ترجمت البرتغالية جوانا فاسكوسيليس، الفيونكة المعقودة حول عنق القنينة من خلال خلق فيونكة مماثلة ضخمة، استخدمت فيها نحو مائة قنينة من عطر «جا دور» تقول: «جادور ميس ديور»؛ أي: «اعشق ميس ديور». والطريف، أنه إلى جانب هذا العمل، يعرض فستان «كونشيرتو» الأحمر الشهير بصدره الملفوف أيضا بما يشبه الفيونكة من الأمام. بدورها، اختارت النحاتة البرازيلية ماريا نيبوموتشينو قنينة العطر لتكون نقطة الانطلاق لتبتكر نسخة مماثلة لكن من السيراميك بألوان زاهية وأطراف تترامى لتشمل مزيجا من الخرز والكروشيه والبلاستيك.

من جهتها، اختارت المصورة والمخرجة الإيرانية، شيرين نيشات، تصوير الممثلة ناتالي بورتمان بالأبيض والأسود على شاطئ مهجور، لتجسيد القوة البطولية بداخل الإنسان والتي تتغلب دائما على قوى الشر والظلام. أما المصورة الفوتوغرافية البريطانية، هانا ستاركي، فرغم أنها اختارت التركيز على الفيونكة أو الوردة التي صممها الفنان رينيه غريو، فإنها أيضا ركزت على كاثرين ديور، الأخت الأصغر للمصمم، التي كانت تتميز بشخصية قوية، والتحقت بالمقاومة الفرنسية خلال الحرب العالمية وتعرضت للتعذيب من خلال صورة معبرة. بالنسبة للمصورة والمخرجة اللبنانية المصرية، لارا بلدي، فاستلهمت عملها من مقولة لكريستيان ديور جاء فيها: «ميس ديور ولدت. ولدت في منطقة البروفانس محاطة باليراعات، في تلك الليلة غطت أغنية الياسمين الأخضر على لحن الليل والأرض». ترجمتها جاءت عبارة عن فيلم مثير يتابع فيه المشاهد يراعات ملونة تتراقص في ليلة مقمرة إلى جانب صور شخصيات شاعرية صغيرة جدا تظهر بين الفينة والأخرى لتشارك في الرقص.

أعمال أخرى لا تقل ابتكارا وإبداعا يصعب حصرها، كلها معروضة لفترة قصيرة، كل واحدة منها تفوح بنكهة خاصة، لكن القاسم المشترك بينها دائما هو ذلك الخيط الذي يربطها بروح المؤسس، وتلك القوة الفنية التي كان يتمتع بها وورثها لكل من خلفه في الدار من مصممين.

* يمتد المعرض إلى 25 من الشهر الحالي في «لوغران باليه».