معانقة الحداثة والحنين إلى الستينات والسبعينات تولد اتجاهات مثيرة

لوي فويتون وهيرميس وميوميو وفالنتينو

ميوميو
TT

كان العرض الذي يترقبه الجميع بفارغ الصبر، ولم يخيب الآمال. فنيكولا غيسكيير يتمتع بسمعة عالية منذ أن دخل دار «بالنسياغا» ونفض عنها غبار الزمن مستقطبا لها زبونات عصريات جديدات بفضل أسلوبه الجريء. خروجه منها منذ أكثر من عام ونصف العام جعل الكل يفتقده ويتمنى عودته. أما الدار التي ينتمي إليه حاليا «لوي فويتون»، فهي واحدة من أهم بيوت الأزياء العالمية، وربما تكون الوحيدة التي يفهم لغتها أغلب الناس، وتوفر لكل من يدخلها إمكانات عالية، أقلها خامات في غاية الترف والتنوع. في اليوم الأخير من أسبوع باريس، بل ومن دورة الموضة العالمية لخريف 2014 وشتاء 2015. حتى طقس باريس تحسن مزاجه وابتسم. فبعد أيام من طقس متقلب وممطر، أشرقت الشمس كأنها تريد أن تستقبل المصمم بحرارة. لم يتغير مكان العرض في «كور دي كاريه» بالقرب من متحف اللوفر، فهو نفس المكان الذي كان يقدم فيه مارك جايكوبس عروضه للدار من قبل، لكن كل شيء آخر تغير. فقد تأخر انطلاق العرض بنحو 15 دقيقة، وهو الأمر الذي لم يكن مطروحا في عهد مارك جايكوبس، الذي بدأ منذ سنوات تقليدا مثيرا للجدل في باريس، يحرص فيه على أن ينطلق العرض في الوقت المذكور في بطاقة الدعوة بالدقيقة والثانية. كما غاب الإخراج المسرحي بكل ما فيه من دراما، وعوض محطة قطار، أو فندق ضخم، أو سلالم متحركة منصوبة وسط المنصة، كانت هناك منصة عادية تمشي فيها العارضات بين صفوف الحضور، في رسالة واضحة بأن التركيز هنا على ما هو أهم من الإخراج المسرحي: الأزياء. ونجح في ذلك، بدليل أن التشكيلة كانت قوية في كل جزئياتها وفي لغتها التي تخاطب كل الأسواق. تلعب على كل المتناقضات بتناغم عجيب يجعلك تريدين كل قطعة فيها. فهي كلاسيكية وعصرية في الوقت ذاته، مع لمسة حنين خفيفة إلى الماضي، سواء تعلق الأمر بخاماتها أو بخطوطها الرشيقة والأنثوية. كل شيء فيها تجاري يمكن تسويقه بسهولة لأي امرأة، بغض النظر عن الجغرافيا أو الأسلوب، بدءا من البنطلونات ذات الخصور العالية، أو التنورات المستقيمة التي تصل إلى الركبة أو الكنزات ذات التصاميم المتنوعة إلى الفساتين التي جاء بعضها من الجلد وبعضها الآخر بتفاصيل من التويد أو طبعات ورود صغيرة. ولا يمكن أن ننسى المعاطف التي تبدو للوهلة الأولى بسيطة ومكررة، خصوصا أن درجات الألوان فيها أيضا جاءت كلاسيكية تتباين بين الأخضر والبرتقالي والأحمر والأزرق والأبيض المائل إلى الكريم، لكنها تخلف تأثيرا قويا يصعب نسيانه. فقد قدم فيها المصمم درسا في التصميم الهندسي، بخطوطها المستقيمة والواضحة، سواء في الأكتاف أو الياقات، بل وحتى في بعض حقائب اليد، خصوصا تلك التي تتميز بخطوط متقاطعة، أو حقيبة الدار الأيقونية «سبيدي» التي ظهرت هنا بعدة ألوان وطبعات جديدة وأحجام.

قبل بدء العرض، ترك المصمم على كرسي كل ضيف، مذكرة مطبوعة وقعها باسمه الأول، جاء فيها: «اليوم.. يوم جديد.. يوم مهم.. تخونني الكلمات للتعبير عما أشعر به في هذه اللحظة من سعادة عارمة». سعادة لا بد أنها نابعة من ارتياحه بدخول دار بأهمية «لوي فويتون» بعد تجربته في «بالنسياغا»، التي اشتهر فيها باحتفاله بالجمال الوحشي الصارخ والجرأة، الأمر الذي اختفى هنا، كأنه لا يزال يجس نبض الدار وزبوناتها قبل أن يمسك بزمام الأمور ويقودها نحو اتجاه جديد. أي يفضل أن يمشي نحو التغيير بخطوات واثقة وبطيئة عوض أن يجري أو يقفز من دون أن يعرف ما ينتظره. ورغم أنه عبر عن احترامه للإرث الذي خلفه مارك جايكوبس، بحكم أنه أول من بدأ خط الأزياء الجاهزة في الدار، إلا أن احترامه الأول هو لإرث الدار الفرنسية العريقة بجلودها وحقائب يدها الأيقونية. وهذا ما ظهر في قطع ديناميكية وحقائب يد ستساعد على زيادة في المبيعات، وستثلج صدور المسؤولين، وعلى رأسهم السيد برنار أرنو، الرئيس التنفيذي والمالك للدار الذي جلس في الصف الأمامي مع الأمير شارلين أوف موناكو. وبدا من ابتسامة الرضا المرسومة على محياه طوال العرض أنه حصل على مصمم فهم المطلوب بدليل أنه قدم تشكيلة لم تحتج إلى إخراج مسرحي والكثير من البهارات الدرامية لكي تروق للعين وتبيع عندما ستصل إلى المحلات في شهر سبتمبر (أيلول) المقبل.

بيد أن ما لا يختلف عليه اثنان أن الإكسسوارات، إلى حد الآن، هي الدجاجة التي تبيض ذهبا لـ«لوي فويتون»، فبينما تشكل الأزياء خمسة في المائة فقط من مبيعات الدار، فإن المنتجات الجلدية تشكل 90 في المائة من المبيعات والأرباح. والتحدي الآن أمام نيكولا غيسكيير هو زيادة الرغبة في الأزياء من دون أي تأثير على جانب الإكسسوارات. أمر لم يستطع مارك جايكوبس تغييره، رغم كل محاولاته، ومن المؤكد أن غيسكيير سينجح فيه، خصوصا أن قوته تكمن في الأزياء أولا وأخيرا، كما قدم حقائب يد ناجحة، نذكر منها حقيبة «لاريات» على سبيل المثال. وهذا ما تتمنى «لوي فويتون» أن يحققه لها: تلك المعادلة الصعبة بين الإكسسوارات والأزياء.

* هيرميس : للترف لغة عالمية واحدة

* رغم أنه بدايتهما واحدة، من حيث إنها تعتمد على الجلود والإكسسوارات، فإن الاختلاف بينهما مثل السماء والأرض. فبينما «لوي فويتون» تتكلم بكل اللغات وتخاطب كل الأساليب، لا تتقن «هيرميس» سوى لغة واحدة، ألا وهي لغة الترف والرقي، خصوصا إذا أخذنا بعين الاعتبار أن سعر تنورة من الجلد تحمل اسمها قد توازي سعر سيارة أو شقة في بعض البلدان. ورغم أن فن الرحلات يتجذر في تاريخها ويجري في دمها، الأمر الذي يعطي الانطباع بأنها لا بد أن تتنازل لكي تتكلم لغة سهلة تفهمها هذه الثقافات البعيدة، فإنها برهنت عبر السنوات، أنها ترفض تغيير جلدها، وتعد الرقي لغة عالمية واحدة. وهذا ما أكده مصممها كريستوف لومير، يوم الأربعاء الماضي، حين قدم تشكيلة كانت مسك ختام أسبوع حافل بالتغييرات والتنقلات والتشكيلات التي تتودد للأسواق العالمية على أمل أن تبيع وتحقق الربح. أقيم العرض في مقر خاص بتداول البورصة قديما، ما إن تدخله حتى تفاجئك إضاءة خافتة وستائر من المخمل بلون الزيتون الغامق، تنسدل من السقف إلى الأرض كأنها تحضرنا لما سيأتي من ألوان وغموض.

ثم بدأ العرض، وتأكد للحضور أن المرأة التي تصورتها الدار لموسمي الخريف والشتاء المقبلين، لا تريد أزياء عادية يمكن أن تجد مثلها في أي دار أزياء أخرى، بل تفضل التفرد مهما كان الثمن. فهي امرأة ساحرة تميل إلى الاختلاف والاستقلال وتريد استكشاف العالم ومعانقته بالأحضان لكن بشروطها. وربما هذا ما يفسر الألوان والنقشات الغنية التي طبعت بعض القطع، وتستحضر صور سجاجيد إيرانية أو أجواء منغوليا، لا سيما في بعض المعاطف الصوفية الواسعة. لكن هذا لا يعني أن التشكيلة كانت إثنية، بل العكس كانت تضج بمدنية عصرية تمزج الأناقة بالراحة من خلال الأحجام تحديدا والكثير من القطع المستوحاة من خزانة الرجل، وتجسدت في تايور أسود، كان ترجمة حرفية عن بدلة رجالية، إضافة إلى البنطلونات الواسعة والجاكيتات المنسدلة. وغني عن القول إن المصمم كان سخيا في استعمال الجلود في تصاميم مبتكرة.

الألوان كانت بدرجات داكنة وهادئة في الوقت ذاته تتباين بين البيج والرمادي والأخضر الزيتوني، تذكرنا في كل إطلالة بأننا في دار فرنسية تؤمن بأن الطبق يجب أن يطهى على نار هادئة للحصول على نكهة مميزة لا يعلى عليها. وهي وصفة أثبتت نجاحها، لا سيما أنها تؤمن بأن الاستثمار بعيد المدى يجب أن يشمل العاملين فيها. فعلى العكس من باقي بيوت الأزياء التي تملكها المجموعات الكبيرة، وتتطلب نجاحات آنية سريعة، الأمر الذي يضع مصمميها تحت ضغط غير إنساني، قد يؤدي ببعضهم لانهيارات عصبية، فإن «هيرميس» تؤمن بأن النجاح لا يأتي فجأة، بل يجب أن يتطور بالتدريج وبثقة. كريستوفر لومير، مثلا، ومنذ أن التحق بها، وهو يخطو فيها خطوات بطيئة لكن واثقة، زادت قوتها في هذه التشكيلة التي اكتملت فيها صورة امرأة «هيرميس» الراقية والمتميزة، التي لا تريد أن تكون عادية.

* ميوميو.. تزيد شقاوة وحداثة

* عرض «ميوميو» ينجح دائما في جذب نجوم مختلفين عمن نراهم في باقي العروض. إلى جانب المغنية ريهانا، التي أصبحت خبرا ووجها قديما بعد حضورها كل عروض باريس تقريبا، كانت هناك لوبيتا نيونغو، التي تسلمت جائزة الأوسكار لأحسن ممثلة مساندة عن دورها في فيلم «12 سنة في العبودية» بفستان سماوي طويل من مجموعة برادا. كما كان هناك فائز آخر بجائزة الأوسكار هو غاريد ليتو. لكن عندما يتعلق الأمر بميوتشا برادا، فإن عروضها ليست عن الضيوف مهما كانت أهميتهم، بقدر ما هي عن الأزياء والتوجهات التي تقترحها علينا. فالمؤكد أننا نخرج دائما من عروضها باتجاه جديد سيؤثر في الموضة وعلى أذواقنا، وهو ما لم يختلف هذه المرة. ما إن تلج «باليه دايينا»، حيث يقام العرض منذ عدة مواسم، حتى تزكمك رائحة البلاستيك. رائحة كانت تنبعث من كل مكان، لأنه كان يغطي كل الجدران، وزادت قوتها مع بدء العرض. فقد كان البلاستيك أيضا حاضرا في معظم القطع، من المعاطف الواقية من المطر والأحذية عالية الرقبة إلى فساتين زينت أجزاء كبيرة منها بهذه المادة.

لكن لحسن الحظ، لم تكن الخامة الوحيدة في هذه التشكيلة، فقد كانت هناك قطع كثيرة من الصوف طبعتها نقشات فينتاج تستحضر حقبة السبعينات بألوانها وخطوطها، بينما كان طول معظم التنورات والفساتين القصيرة يلتفت إلى الستينات ويذكرنا بأننا في عرض ابنة ميوتشا برادا، الشابة الشقية، التي تعانق تغيرات العصر وتتحدى القوالب المتكررة. لم تكن هناك أي تطريزات أو كشاكش أو تصاميم رومانسية، في المقابل، كانت هناك خطوط بسيطة وواضحة، وحداثة تستمد روحها من الأسلوب «السبور» حتى في القطع الصوفية التي طبعتها لمسة «الفينتاج». أما باقي القطع المزينة بالبلاستيك، بما فيها الإكسسوارات، فذكرتنا بأن ميوتشا برادا هي المصممة التي حولت العادي إلى مغر وجذاب عندما سوقت لنا منذ عقود حقيبة سوداء مصنوعة من النايلون، أشعلت الرغبة في نفوس كل نساء العالم. اقتراحاتها لخريف 2014 وشتاء 2014 ما هي إلا امتداد لهذه الفلسفة التي تلعب فيها على الشقاوة والمرح وتمزج فيها العادي جدا بغير المتوقع لتجعلنا نفكر ونحلل ونؤول. والأهم من هذا، تجعلنا نرغب في شيء لم نكن نتخيل يوما أن يروق لنا أو يدخل خزاناتنا، مثل البلاستيك. لكننا معذورون لأن كل قطعة منفصلة لم تكن عملية فحسب، بل أيضا أنيقة تعكس روح العصر وحيوية تعكسها الألوان الصارخة وأحيانا خامات أخرى، مثل البروكار أو الصوف، امتزجت مع البلاستيك لتكتسب صبغة ديناميكية حتى في أقصى بساطتها.

تعبق بالأناقة والرومانسية حتى في تكسيرها التابوهات

* التشكيلة التي أبكت فالنتينو

* عندما انتهى عرض فالنيتنو وخرج الثنائي ماريا غراتزيا تشيوري وبييرباولو بيكيولي لإلقاء تحية على الحضور، اقتربا من المؤسس فالنتينو غارافاني، الذي كان جالسا في الصف الأمامي ليقبلاه. لم يستطع هذا الأخير أن يكبح مشاعره فبكى من التأثر. فقد كانت التشكيلة في غاية الأناقة والرومانسية تجعل كل من يتابعها كمن يعيش حلما جميلا. لكن أن تتساقط دموع المؤسس تأثرا بهذا الجمال، فهذا وسام للثنائي بأنهما نجحا في التقاط روح الدار والأسس التي أرساها صاحبها قبل أن يتقاعد ويسلم مقاليدها لغيره. في موسم الهوت كوتير الماضي، عاد الثنائي إلى أصول الدار الرومانية باللعب على مفاهيم الأوبرا الإيطالية، أما في هذه التشكيلة فقد اختارا فن البوب الإيطالي في الستينات والسبعينات من القرن الماضي موضوعا لها، ربما لأنها أزياء جاهزة وتحتاج إلى مخاطبة شرائح أكبر. وقال الثنائي بعد العرض إنهما استوحياها من فنانات إيطاليات متمردات لا يعترفن بالمألوف، لكنهن كن مبدعات بكل ما تحمله الكلمة من معان، مثل جيوزيتا فيورونو، وكارول راما وكارلا أكاردي، مما شجعهما على تكسير بعض التابوهات أيضا وخض المتعارف عليه، مثل فستان طويل يتمتع بكل رومانسية «فالنتينو» المعهودة، لولا تفاصيل تعطي الانطباع بأن الصدر مكشوف بينما يغطي قلب مرسوم بالأحمر الجهة اليسارية منه. كانت الرومانسية المعهودة هنا، مشوبة بجرأة جديدة، ربما لأنهما ركزا على الستينات، الفترة التي شهدت ثورات اجتماعية مهمة، تحررت فيها المرأة من الكثير من القيود وبدأت تذوق طعم الاستقلال بدخولها مجالات العمل وغيرها. باستثناء هذا، كانت بصمات «فالنتينو» حاضرة في كل قطعة، بدءا من فساتين التول المطرزة أو الكابات المصنوعة من الدانتيل أو الجلد إلى المعاطف الطويلة المصنوعة من قطع من الجلد بألوان متنوعة بطريقة الباتشوورك، وهي تقنية ظهرت أيضا في بعض الإكسسوارات، مثل حذاء عال الرقبة، بل وحتى اللون الأحمر لم يغب، ليؤكد الثنائي الثنائي ماريا غراتزيا تشيوري وبييرباولو بيكيولي أنهما فعلا خير خلف لخير سلف.