«سحر الموضة الإيطالية: 1945 ـ 2014».. الخمسينات حقبة الانتعاش الإبداعي

معرض يتتبع الصراع على الصدارة بين روما وميلانو وفلورنسا

ازدهار الحركة السينمائية أنعشت قطاعات إبداعية أخرى على رأسها الموضة
TT

صفوف من الفساتين الفخمة والأزياء المطرزة بدقة وبألوان متوهجة كل ما فيها يصرخ بالغنى والجمال، بينما يتردد على الخلفية صوت خفيف، وكأنه دقات عقارب ساعة، تبين فيما بعد أنه صوت ماكينة حياكة قديمة، الغرض منه التذكير بالحرفية والتقاليد العريقة التي تفخر بها إيطاليا.

هذا أول انطباع سيتكون لديك من اللحظة التي ستدخل فيها متحف «فيكتوريا أند ألبرت» بلندن هذه الأيام لحضور معرض «سحر الموضة الإيطالية: 1945-2014». معرض سيمتد حتى الـ27 من شهر يوليو (تموز) المقبل، ويسلط الضوء على صناعة الموضة في إيطاليا منذ كانت تصنع باليد إلى أن دخلت مجال التكنولوجيا. وحتى لا تضيع القصة ويتوه الزائر بين أروقة التاريخ، جرى التركيز عليها بعد الحرب العالمية الثانية إلى يومنا. تقول أمينة المعرض، سونيت ستانفيل إنه كان من السهل والممكن أن تملأ المتحف كله، بأزياء من بداية القرن إلى الآن، كما كان بإمكانها أن تركز فقط على الثمانينات أو اختيار فساتين ظهرت في مناسبات السجاد الأحمر، إلا أنها فضلت أن تركز على مسيرة الموضة الإيطالية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية إلى اليوم. وتضيف أن ما سهل مهمتها أيضا، أن الفكرة غير مسبوقة، مما فتح أمامها المجال لاختيار أي زاوية تشاء. اختيارها وقع على هذه الفترة التي تتبعتها بترتيب زمني وأمثلة محددة عوض تتبع مسيرة مصمم واحد. وتشير إلى أن أكثر ما أثارها في هذه المسيرة صمود التقنيات التقليدية القديمة رغم غزو المعامل الصينية للمنتجات المترفة.

الحكاية المعروفة عن الموضة الإيطالية أنها بدأت تكتسب قوة وزخما، بعد الحرب العالمية الثانية، وتحديدا بعد الخمسينات. قبل ذلك كانت إيطاليا الحلقة الأضعف في أوروبا، حيث كانت فقيرة وأغلب سكانها يعملون في الزراعة، لكنهم أيضا كانوا مرنين ويحبون كل ما يتعلق بالإبداع. بفضل هذه المرونة والرغبة في تحسين أوضاعهم، نجحوا تدريجيا في تغيير الصورة النمطية التي كونها العالم عنهم منذ الحرب العالمية الأولى. في الخمسينات، تحديدا، خضعت هذه الصورة لعملية تلميع شاملة، بعد أن شهدت إيطاليا ما يشبه النهضة الفنية، أو ما أصبح يعرف بـ«لادولتشي فيتا». فقد استقطب طقسها الدافئ وحرارة سكانها الأميركيين، الذين وجدوا فيها كل ما يتوقون إليه، من حياة رغيدة وأكل شهي ومآثر تاريخية. وهكذا بدأ يتوافد عليها أدباء وفنانون من أمثال ترومان كابوت وغور فيدال وغيرهما. لكن الفضل الأكبر يعود إلى روما التي نجحت في جذب نجوم هوليوود، خصوصا مع ظهور مخرجين مثل فيليني ونجمات مثل صوفيا لورين، جينا لولو بريجيدا وكلوديا كاردينالي. كل هذا زاد من جاذبية إيطاليا في الخارج وثقة سكانها في الداخل. هذه الثقة انعكست على ازدهار قطاعات إبداعية أخرى، وعلى رأسها الموضة. فإلى جانب النجمات الإيطاليات اللواتي تحولن إلى سفيرات عالميات، كانت نجمات هوليوود، مثل أودري هيبورن، إليزابيث تايلور وغيرهما يحتجن إلى خياطات يجرين تغييرات على أزيائهن خلال التصوير، حتى تبدو مفصلة على المقاس. ولم تمر سوى فترة قصيرة حتى بدأن يظهرن اهتماما بالمصممين المحليين أيضا، لتبدأ الأزياء الإيطالية تحظى بجاذبية عالمية. ومما زاد من انجذاب الأميركيين إليها أن معظم الممولات أو العاملات في هذه الصناعة كن ينتمين إلى الطبقات الإيطالية الأرستقراطية.

في عام 1951، كانت النقلة النوعية، حين فتح الأرستقراطي جيوفاني باتيستا جيورجيني بيته لتجار ومشترين من محلات أميركية مثل بورغدوف غودمان، ليقدمهم لـ«دولتشي فيتا» روما من جهة، وأناقة المجتمع الإيطالي المخملي من جهة ثانية. كان هدفه أن يعرف بالموضة الإيطالية، من دافع قناعته بأن الحرفية الإيطالية لا يعلى عليها ويجب أن تأخذ حقها. استجاب الأميركيون للفكرة وتقبلوها بحرارة، لكن أوروبا، وتحديدا باريس، لم تأخذ المسألة بجدية. فقد كانت تعتبر نفسها معقل الموضة وحصنها الحصين ولا يمكن لأحد أن ينافسها، إلى حد أن المصمم بيير بالمان قال بسخرية: «ليلعب الأميركيون مع الأطفال في إيطاليا، فهم لا بد أن يلجأوا إلينا عندما يتعلق الأمر بشراء قطع لمناسباتهم المهمة». لكن ما لم يحسب له، وغيره من الفرنسيين، الحساب، حضور نجمات مثل إيفا غاردنر، أودري هيبورن، إليزابيث تايلور وغيرهن إلى روما للتصوير، مما زاد الحاجة إلى مصممين يلبون حاجتهن لأزياء أنيقة تناسب الحياة العصرية بسرعة وفي مواقع التصوير أو بالقرب منها. ولم تكن الحاجة ماسة إلى فساتين سهرة فخمة بأحجام ضخمة فحسب. ولم يقتصر الأمر هنا على الأزياء النسائية، فالرجل أيضا كان له نصيب كبير، بفضل مجموعة من المصممين التقليديين، الذين كان يطلق عليهم اسم «خياطون».

ويشير المعرض أيضا إلى فترة مهمة ألا وهي الفترة التي شهدت ولادة مصممي الموضة بالمعنى الحديث، مثل دار كريتزيا، تروساردي، روميو جيلي، موسكينو، فرساتشي وطبعا برادا. عهد كان يغلي، وصفته الراحلة أنا بياجي بأنه أشبه بـ«مجتمع سري، يقوده رياديون، ومجموعة من المبتكرين والشعراء والفنانين.. إنهم الظاهرة الجديدة والصفوة القادمة».

تجول وتدور بين أروقة المعرض، تستمتع بكل غرزة وكل نقشة مطرزة بحرفية عالية، أو بدلة مفصلة بالأسلوب الإيطالي أو كنزة مغزولة من أجود أنواع الكشمير، لتستوقفك خريطة تسلط الضوء على أهم أماكن الإنتاج: الحرير في كومو، الصوف في بييللا، الجلد في تاسكاني. ثم تكتشف أنه إذا كانت روما عاصمة السينما الإيطالية، فإن فلورنسا كانت عاصمة الأناقة والحرفية. فرغم الخراب الذي خلفته الحرب العالمية الثانية، أنتج المصممون في تلك الفترة، في ورشات خلفية وصغيرة وظروف قاسية، تصاميم تليق بدوقات وكونتيسات وأميرات. ميلانو في المقابل، بدأت في تلك الفترة تحتضن نوعا آخر من المصممين، أغلبهم من الطبقات المتوسطة، لكن تربطهم إما علاقة دم أو صداقة بالحرفيين. ومع أن أغلبهم لم يتخرجوا من معاهد موضة، باستثناء والتر ألبيني، الذي لا يتذكر أحد اسمه الآن، لكنه في الحقيقة كان أول مصمم إيطالي بالمعنى الحديث، فإنهم برهنوا على قدرة عالية على الإبهار. مؤسسة كريتزيا، ماريوشا مانديلي مثلا، كانت معلمة أطفال، وجيانفرانكو فيري كان مهندسا، بينما درس جيورجيو أرماني الطب. أما جياني فرساتشي فتعلم أصول التصميم والحياكة من والدته وليس في أي مدرسة. والملاحظ أن هذا التنوع هو الذي يطبع موضة إيطاليا لحد الآن ويعطيها نكهتها الخاصة.

ما إن تستوعب ما رأيته وقرأته، حتى تجد نفسك في ركن يظهر كيف يجري استغلال الخامات من كل أنحاء إيطاليا وتحويلها إلى أزياء أنثوية ومثيرة مثل تلك التي أبدعها توم فورد، في الفترة التي عمل فيها في دار غوتشي، أو إكسسوارات مثل تلك التي تطرحها برادا وتثير الرغبة المحمومة فيها، إضافة إلى الفرو الذي تتخصص فيه دار فندي. قبل انتهاء الجولة، يذكرك المعرض ثانية أن الموضة الإيطالية الرفيعة بدأت في روما وليس في ميلانو، وأن هذه الأخيرة سحبت السجاد من الأولى بعد أن استقطبت المجلات وشركات الإعلانات ودور النشر، مما دفع المصورين وغيرهم من العاملين في صناعة الموضة، إلى أن يشدوا الرحال إليها ويستقروا فيها. وهو ما تجسده أعمال مصوري الموضة باولو روفيرسي، وجيان باولو باربيري، وغيرهما. لكن رغم التذكير بهذا الفصل المهم في تاريخ الموضة الإيطالية وتغير خريطتها، يطفو سؤال على السطح عما إذا كانت ميلانو بدأت تفقد وهجها مؤخرا. الإجابة على هذا السؤال تأتي على شكل نقاش مصور وتفاعلي بين انجيلا ميسوني، ومصممي دار فالنتينو، بيير باولو بيكيولي وماريا غراتزيا، وفرانكا سوزاني رئيسة تحرير مجلة «فوغ» النسخة الإيطالية، حول مكانة ميلانو حاليا وأهميتها.

من بين القصص المثيرة التي يتطرق لها المعرض أيضا، الأزياء الرجالية. من الرئيس الأميركي الراحل، جون كنيدي الذي اختار بدلة مفصلة بتوقيع المصمم الروماني، أنجيلو ليتريكو، إلى ريتشارد غير الذي ظهر عدة مرات في بدلات بتوقيع جيورجيو أرماني. فهذا الأخير أطلق في الثمانينات، موجة جديدة من التفصيل الرجالي الخفيف والمنطلق. وهو أسلوب لمس الجانب النرجسي بداخل العديد من الشباب، كما مثله ريتشارد غير في فيلم «ذي أميركان جيغولو»، الذي لم ير أن الانتباه إلى مظهره يتعارض مع رجولته في زمن أصبح فيه للأزياء لغة تغني عن الكلام. كان الأميركيون أول من أعجبوا بالأسلوب الإيطالي لأنه يناسب الأجواء الحارة وفي الوقت ذاته مصنوع من أجود أنواع الأقمشة والخامات.

خفة التصاميم لم تقتصر على جيورجيو أرماني فحسب، لأنها تاريخيا جزء من الأسلوب الإيطالي، حيث ظهرت في نابولي، مثلا، على شكل سترات دون كتافات تثقل الأكتاف أو تزيدها صرامة، ودون تبطين يزيد من عرض الجسم، لتكون النتيجة بدلات خفيفة على العين والجسم وتوحي بالانطلاق والتحرر. راقت هذه الخلطة للأميركيين تحديدا، وشجعتهم على دعم صناعة الموضة الإيطالية بعد الحرب العالمية الثانية، ومع الوقت كبرت قصة الحب وتجسدت في الكثير من الأفلام الناجحة والتعاون مع المصممين.

فإيطاليا كانت ولا تزال تمثل «لادولتشي فيتا» بالنسبة لهم، والأزياء جزء لا يتجزأ من ثقافة البلد.