برادا و«هارودز».. لقاء الفكر والفن مع الموضة

معرض مصغر يستعرض تاريخا يمتد 100 سنة

لوغو الفعالية يلخص عالم برادا و واجهات «هارودز» تتزين بفنون برادا
TT

إذا كان أي أحد يشكك في أهمية الموضة ويعتقد أنها سطحية تتعلق فقط بالألوان والأقمشة وطريقة حياكتها، فما عليه إلا أن يقابل ميوتشا برادا ليجد نفسه في مأزق فكري. وحتى إذا لم يسعفه الحظ بمقابلتها، وهو الأمر الصعب لأنها لا تحب المقابلات الصحافية، فما عليه إلا أن يتوجه هذه الأيام إلى محلات «هارودز» ليفهم أن الموضة أعمق بكثير من مجرد ألوان وأقمشة، وبأنها جدل فكري مثير يغوص في أعماق الثقافة الاجتماعية والحالة النفسية ليبرزها بشكل أنيق لكن يحتاج إلى دراية ووعي لكي يقدر جمالياتها وذلك الأسلوب الذي رسخته برادا لنفسها ما أكسبها احترام العالم.

«براداسفير» (Pradasphere) هو اسم الفعالية أو المعرض الذي تشهده محلات «هارودز» طوال شهر مايو (أيار)، فقد حولت الطابق الرابع بالكامل إلى عالم خاص بها، يضج بالأزياء والإكسسوارات التي تتنفس روح ميوتشا برادا وتصرخ بفلسفتها ونظرتها للموضة كجزء لا يتجزأ من ثقافة العصر. سيفاجأ الزوار، وكل من يمر بجانب «هارودز»، بأكثر من 40 من واجهاتها مزينة بأشكال فنية مبتكرة تستعرض في كل جزئية منها عنصرا من عناصر الدار الإيطالية من بدايتها إلى الآن، وهي بداية تمتد إلى أكثر من 100 عام تقريبا. ولأن المعرض يخاطب كل الحواس، فإن حاسة الشم لا بد أن تجرك إلى مقهى «ماركيزي» الأول من نوعه بالنسبة لبرادا، الذي فتح أبوابه في «هارودز» خصيصا لهذه المناسبة، وهو كما يعرف أي زائر إلى ميلانو من أشهر المقاهي المتخصصة في الحلويات، إذ يعود تاريخه إلى 1824. لخلق نفس أجوائه الميلانية، جرى استنساخ نفس ديكوره تقريبا من تغطية جدرانه بنفس ورق الحائط في ميلانو، إلى مراياه التي تستحضر فخامته في بداية العشرينات من القرن الماضي، ولأنها برادا فإن أوساط الموضة وعشاق الماركة لم يتوقفوا طوال الشهر الماضي على الجدل حول الفكرة من المعرض وما سيتضمنه عبر مواقع الإنترنت والتواصل الاجتماعي كلها. وهذا ليس غريبا إذا أخذنا بعين الاعتبار أن عروضها من أهم العروض في ميلانو، كذلك خطها الأصغر ميوميو الذي تعرضه في باريس، لما تعكسه من أسلوب شبابي يستلهم منه الكثير من المصممين الشباب. هذا عدا عن الدور الذي تلعبه كجسر يربط الموضة بثقافة العصر، وجذورها المترسخة في التقاليد الإيطالية العريقة.

خلاصة الأمر أن معظم عشاق الموضة، إن لم نقُل كلهم، يبجلون برادا ويعترفون أنها واحدة من أهم بيوت الأزياء في عصرنا، بفضل نظرة ميوتشا، المستقبلية ورفضها العوم مع التيار. أمر تعبر عنه إما باستعمال تقنيات غير مسبوقة، وإما بخامات حديثة وأشكال معمارية أو نقشات فنية تشغل المتابعين وتفتح جدلا فكريا بينهم.

مايكل روك، أمين هذا المعرض أو المشرف على كل تفاصيله، يقول إن «براداسفير» لا يتعامل مع برادا على أنها مجرد علامة تجارية بالمعنى التقليدي، بل على أنها أسلوب يتكلم لغة عصرية وفكرية تتعامل فيها المصممة مع الموضة بأوجه متعددة، ويتوجب على كل من يتعامل معها أن يفهمها جيدا حتى تلمس وجدانه. من هذا المنطلق يحاول «براداسفير» أن يأخذنا في رحلة اكتشاف للطريقة التي تعمل بها ميوتشا وتفكر بها، إلى حد ما. ويضيف مايكل روك: «عندما ينظر أي أحد إلى ما تقدمه عموما، وما سيجري عرضه في (هارودز)، كعمل إبداعي، فإنه سيكتشف أنه في العمق يتضمن الكثير من المواضيع المهمة، مثل القوة، الجمال، النعومة، الذوق، مفهوم الذكورة والأنوثة، وغيرها، لأن ما تفعله برادا، في كل مرة تطرح فيها تشكيلة أزياء أو مجموعة إكسسوارات، أنها تدخلنا في نقاش أو جدال حول بعض القضايا والأفكار المهمة، مثل الازدواجية بين الموضة والهندسة المعمارية، أو بينها وبين السينما أو الأدب وما شابه من فنون».

ويتابع: «رغم أني عملت مع ميوتشا برادا لسنوات فإني شعرت هذه المرة بأن هذا المشروع بالذات مختلف عن كل ما سبق، فقد أتاح لي فرصة أن أتراجع خطوة إلى الوراء وأنظر إلى العمل من كل الجهات والجوانب، والنتيجة التي توصلت إليها أنه يلخص أوجه التشابه بين جميع الأعمال المختلفة السابقة للدار. لكن هذا لا يعني أن المعرض نظرة إلى الماضي بقدر ما هو مراجعة لبعض التعاونات السابقة المهمة».

بدأ العمل على هذا المشروع ككل شيء في برادا، كجهد جماعي، كما يقول مايكل روك: «كل واحد كان يلقي بأفكاره من وجهة نظره الخاصة وحسب تخصصه، وبعد نقاشات طويلة أجمعنا في الأخير على مجموعة أفكار مهمة فاجأتنا أنها مطابقة إلى حد كبير للفكرة الأساسية التي انطلقنا منها، وهي أنه سيكون انعكاسا لأحوال السوق، من ناحية أنه تعبير عن ثقافة الموضة».

وينفي أن يكون «براداسفير» معرضا فنيا رغم الانطباع الذي قد يتكون لدى البعض في البداية، لأن «برادا حريصة على أن تفرق بين أنشطة الدار الفنية والأنشطة التجارية. قد تكون التجربة أقرب إلى عرض للتطور الطبيعي للدار، ما يجعلها تجربة تغوص بالزوار في أعماق شخصيتها، فيتعرف على ما يحركها، وفي الوقت ذاته يكتشف العناصر الأساسية التي تكون هذه الشخصية وتشكلها»، بل قد يكون الجانب التجاري هو الغالب هنا، حتى وإن لم يكن صادما للعين. «المحلات التجارية عموما، و(هارودز) خصوصا، مكان مثالي لمشروع مثل هذا»، حسبما أكد مايكل روك، «لأنها تلعب دور معرض لكنه معرض خاص بالتسوق. وهذا ربما ما يجعل (براداسفير) بمثابة معرض بداخل معرض أكبر».

الجانب التجاري يتمثل أيضا في مجموعة محدودة مصممة خصيصا لمحلات هارودز ستطرح للبيع في الطابق الأرضي. أما إذا حن أي متسوق إلى تصاميم من تشكيلات قديمة، فبالإمكان تقديم طلب للحصول على أي من قطع الأزياء الجاهزة أو الإكسسوارات والانتظار بعض الوقت قبل أن تصبح بين يديه. وفي هذا الصدد تشير هيلين ديفيد، مديرة قسم الموضة بـ«هارودز»، إلى أن «العمل مع واحدة من أهم وأرقى بيوت الأزياء الإيطالية تجربة ممتعة بكل المقاييس»، مضيفة أن «براداسفير» سيقدم للزبائن تجربة خاصة وجديدة وفرصة لتسوق قطع حصرية لا تتوفر في أي مكان آخر. وهي بالفعل خاصة إذا تذكرنا أن تاريخ الدار يمتد إلى أكثر من 100 عام، فقد تأسست على يد ماريو برادا، جد ميوتشا، وأخوه مارتينو في عام 1913 كشركة جلديات، ولا تزال بعض هذه التصاميم تقبع في أرشيف الدار تنتظر من ينعشها. وهذا تماما ما قامت به ميوتشا التي استلهمت الكثير منها وصاغته في هذه التشكيلة الحصرية لـ«هارودز».

لهذا يبقى الأهم هنا، إلى جانب الطريقة المبتكرة التي صممت بها الواجهات وعرضت بها المنتجات، أن الزائر سيتمكن من معاينة قطع تاريخية من الأرشيف، عبارة عن أحذية وحقائب يد من تشكيلات سابقة قد يكون الجيل الجديد من الشابات العاشقات للماركة، لا يعرفن بوجودها من الأساس. وفي ركن آخر لم يغفل مايكل أن يخصص جزءا للتعريف بالأنشطة التي تقوم بها الدار، سواء من خلال مؤسسة برادا أو كأس أميركا لسباق القوارب (لونا روسا) وغيرها. تمشي قليلا فتجد نفسك منجذبا، وغير قادر على مقاومة إغراء دخول غرفة مظلمة تُعرض فيها أفلام قصيرة خاصة بالدار قام بها مخرجون من أمثال ويس آندرسون، رومان بولانسكي، ريدلي سكوت، وغيرهم، إضافة إلى ركن آخر يستعرض مشاريع معمارية لكل من ريم كولهاس وهيرزوغ آند دي مورون وغيرهم، ممن تعاملت معهم ميوتشا برادا في وقت من الأوقات. السبب كما يعرف الكل أن الفلك الذي تدور فيه ميوتشا برادا غني بالتأثيرات السينمائية والفنية والمعمارية، التي عندما تصوغها بأسلوبها الريادي يعطي للموضة نكهة فكرية ترقى بها عن السطحي إلى مستوى الفني والثقافي، لأنها تتعامل مع الأزياء، كمرآة تعكس ثقافة عصرها وطموحات المرأة عموما. تستعملها أيضا للتعبير عن أفكارها الشخصية ونظرتها للعالم لكن دائما تسوقها لنا بشكل واقعي، إن لم نقل تجاري بالنظر إلى نجاحها في السوق. صحيح أن بعض هذه التصاميم تبدو أحيانا صادمة في جرأتها الفنية، لكن ما إن تتبدد صدمة اللحظات الأولى حتى نكتشف أنها معبأة ليس بالجمال والأناقة فحسب، بل أيضا بالمعاني والأفكار العميقة، التي تخلق دائما نقاشات فكرية ممتعة، وقيما تميل المرأة إلى أن تورثها للأجيال القادمة.