دبي تستقبل شانيل بالأحضان في أول عرض لها في بلد عربي

تشكيلة «الكروز» لعام 2015.. اللغة شرقية والروح باريسية

TT

التغريدات والرسائل الإلكترونية لم تتوقف أول من أمس من دبي لتعلن للعالم أجمع أن ما ترقبناه طويلا حصل، وأن عرض دار شانيل نجح في تحريك عاصفة من المشاعر والحنين والألوان وردود الفعل. مكان العرض كان جزيرة خالية تبعد عن شاطئ الجميرة بنحو 650 مترا، تغيرت ملامحها في الشهرين الماضيين لتحتضن ما يمكن أن تصفه أوساط الموضة، في العالم العربي على الأقل، بحدث العام. نصبت وسطها قاعة ضخمة غطيت جدرانها بالكامل بـ«لوغو» الدار الذي تداخلت فيه الحروف الأولى من اسم كوكو، بشكل يشبه من بعيد المشربيات القديمة، فيما تناثرت على جوانبها أشجار نخيل عالية تكاد تلامس السقف وكأنها تريد أن تقول إنها غير حقيقية. بدأ العرض، وأثبت كارل لاغرفيلد أنه يتقن فن الرحلات. فقد تنقل بين الكثير من البلدان العربية، منتقيا من كل منها، وبدقة، عناصر جسدها في هذه التشكيلة التي ستدخل كتب الموضة، كأول تشكيلة «كروز» لدار فرنسية بحجم شانيل في منطقة الشرق الأوسط. قبل العرض، راهنت الأغلبية على قفاطين وعباءات وصور نمطية أخرى، وخسرت الرهان لأن لاغرفيلد لا يؤمن بالنمطية ولا يستكين للمألوف أو المتوقع.

صحيح كانت هناك بعض القطع المستوحاة من القفاطين والجلابيات والعباءات، إلا أنها كانت بنفس باريسي، بأطوال معقولة نسقها مع بنطلونات مستقيمة حينا وأخرى مستوحاة من السروال الفضفاض حينا آخر. باستثناء هذه البنطلونات والإكسسوارات، وتحديدا الأحذية التي استوحيت خطوطها من الـ«شربيل» المغربي، أو حذاء علي بابا حسب نظرة كل واحد، كان التركيز عموما على موتيفات عربية صغيرة حولتها أوراش الدار مثل «لوساج للتطريز»، و«باري» المتخصصة في الصوف والكشمير وغيرهما إلى نقشات غير متوقعة، أجملها تلك التي أخذت فيها الورود أحجاما كبيرة وتلك المأخوذة من الشماغ العربي المتلون بالأحمر والأبيض حينا أو الأسود والأبيض حينا آخر، وظهرت في مجموعة من الأزياء والإكسسوارات، بأسلوب بعيد كل البعد عن الكليشيهات التقليدية والترجمات الحرفية المتكاسلة. ما يثير الانتباه أيضا أن التشكيلة، وعلى الرغم من أنها، موجهة بالأساس إلى الصيف والبحر وما يعنيه من رحلات على اليخوت وسهرات على الشاطئ، كانت في غاية الحشمة بأكمام طويلة، وياقات عالية وأطوال تغطي الكاحل، ما عدا بعض فساتين السهرة التي استعمل فيها الموسلين دون تبطين في بعض الأجزاء. ما يحسب له أنه احترم بيئة المرأة العربية وتجنب استعراض مفاتن الجسم والإثارة السهلة، من دون أن يعطي ولو للحظة الانطباع بأنها مقيدة أو يمكن أن تكون حكرا على سيدات الشرق الأوسط. كل ما فيها كان عالميا بعد أن تفتقت عبقرية كارل لاغرفيلد على فكرة الطبقات المتعددة حتى لا يحددها ويبخل بها على باقي نساء العالم، إذ من السهل أن تختار منها المرأة ما تريد وتحذف منها ما لا تريد. فمثلا اقترح قفطانا قصيرا نسقه مع بنطلون مستقيم يمكن استعماله أيضا لوحده كفستان، كما كانت هناك فساتين شفافة ومنسدلة تستحضر الجلابيات، دون أكمام فوق بنطلونات ضيقة أو سراويل واسعة مع جاكيتات قصيرة يمكن التخفيف منها حسب المكان والزمان والذوق. هذه المرونة تجعلها تتعدى الخريطة العربية إلى أسواق أبعد، لا سيما وأنها لا تفتقد إلى الأناقة الباريسية وحرفية أوراش الدار المتخصصة في التطريز والترصيع وما شابه.

ولعل خير من لخصت هذه التشكيلة، النجمة الفرنسية أنا موغلاليس، التي قالت لـ«الشرق الأوسط» بأن «العرض كان رائعا بكل المقاييس، ما شدني هو قدرة كارل لاغرفيلد على مزج الكثير من الإيحاءات العربية بشكل هادئ وغير صادم من خلال تصاميم تعطي الإحساس بالحرية والانطلاق. كانت هناك نقشات ذكرتني بالفسيفساء المغربي القديم، فيما ذكرتني طبعات الورود بدروس التاريخ التي علمتنا أنها جلبت أول مرة إلى فرنسا من سوريا. شعرت في بعض اللحظات أن بعض الإطلالات تأخذني إلى عالم علاء الدين والأميرة ياسمين وقصص ألف ليلة وليلة، مع اختلاف بسيط وهي أنها بترجمة كارل تخاطب امرأة مستقلة وعصرية».

رغم جمال الأزياء وما تثيره من خيال، وتستحضره من قصص ألف ليلة وليلة وأمجاد الماضي العربي، فإن أهم ما في العرض أنه أقيم في دبي، ليعيد الاعتبار إلى زبون منطقة الشرق الأوسط ككل. فالدار هنا كمن تقول إنها لم تعد تتعامل معه كمستهلك فحسب، بل أيضا كمؤثر، خصوصا وأن العادة جرت بأن بيوت الأزياء عندما تشد الرحال إلى أي من عواصم العالم، فإنها غالبا ما تبحث عن خيط يربطها بها لتنسج منه قصة بحبكة مثيرة. قد يكون هذا الخيط أن المصمم حقق فيها أول نجاحاته، أو قد تكون الوجهة التي قضى فيها أوقاتا سعيدة في يوم من الأيام وهكذا، لكن بالنسبة لشانيل ودبي، فإن الخيط منعدم باستثناء عشق نساء الشرق للهوت كوتير منذ السبعينات من القرن الماضي. وربما انعدام هذا الخيط هو ما أجج فتيل الحماس والفخر في المنطقة. منذ اللحظة التي أعلن فيها الخبر، لم تتوقف وسائل التواصل الاجتماعي عن التهليل الذي يصب في صالح الدار الفرنسية، التي رغم أن مكانتها محفوظة دائما، وعلاقتها بالشرق الأوسط متينة منذ أكثر من 20 عاما عندما دخلت السوق الكويتية أول مرة، إلا أنها بهذه الخطوة، اكتسبت المزيد من الود، ولن نستغرب أن يميل ميزان القوة لصالحها مستقبلا، إذا أخذنا بعين الاعتبار أن العرب بطبعهم يبادلون من يبادلهم الاحترام بالمثل وأكثر، إضافة إلى أن التشكيلة نفسها ترجمت فنونهم وثقافتهم بلغة لا يتقنها سوى مصمم عبقري، ودار تحترم الماضي ولا تنسى أن تعيش الحاضر. فشانيل تتمتع برنة مميزة ولغة خاصة، تخاطب كل الأجيال والجنسيات والأهم من هذا كل الإمكانيات. فمن لا تقدر على فستان من «الهوت كوتير» يقدر بمئات الآلاف من الدولارات، أو حقيبة تقدر بـ3000 دولار، تستطيع حتما أن تقتني منها عطرا أو أحمر شفاه أو طلاء أظافر. وهذا يعني أن الدافع التجاري والتسويقي هنا بقوة الجانب الإبداعي، ومع ذلك فإن هذا لا يمنع بأن العملية بمثابة تكريم لمدينة أصبح من الخطأ تجاهل قوتها كعاصمة موضة، وتأثيرها على السوق العالمية. بعد العرض أشار كارل لاغرفيلد إلى أهميتها قائلا بأن الآنسة كوكو شانيل، كانت منفتحة على ثقافات الغير وتعشق اكتشاف آفاق جديدة، وبأنها لو كانت بيننا اليوم «لشدها سحر الشرق الأوسط، تماما كما شدها سحر الصين وإنجلترا من قبل. دبي مدينة ظهرت مثل أتلنتيس فجأة منذ 30 سنة فقط، والآن لديها أعلى برج في العالم، برج خليفة، بعد أن كانت هذه الصفة من نصيب برج إيفل ثم مبنى إمباير ستايت، وهذا يؤكد تغير العالم. لأنها مدينة عصرية، تجنبت الوقوع في مطب الفولكلور، ولم يكن مطروحا بالنسبة لي أن أقدم تشكيلة في دبي لا تكون عصرية».

من جهته صرح برونو بافلوفسكي، الرئيس التنفيذي للدار في لقاء خاص مع «الشرق الأوسط» بأن «هذا العرض جزء من استراتيجية تهدف إلى تقوية أواصر العلاقة مع منطقة الشرق الأوسط، وضمان استمرارية التواصل مع الزبون بتقريبه من الدار أكثر». وأضاف أن «عنصر المفاجأة مهم لخلق نوع من الصدى يتوافق مع الجانب الإبداعي الذي يخلقه مصممها كارل لاغرفيلد فهذا الصدى الذي تخلفه عروض الأزياء يثير خيال العالم، ويساعد على تشكيل صورة شاملة تتشعب تأثيراتها وتصب من الأزياء إلى المجالات الأخرى».طكرر برونو بافلوفسكي كلمة «مفاجأة» كثيرا خلال اللقاء، والحقيقة أنه هو أيضا كان من المفاجآت السارة. فهو الرئيس التنفيذي لدار شانيل وخريج جامعة هارفارد، ويدرس في عدة معاهد خاصة بالموضة والتجارة، ومع ذلك كان يتكلم بحماسة الأطفال والسعادة تكاد تقفز من عينيه وهو يتكلم عن دبي كعاصمة تسوق مهمة للدار التي يترأسها، وكيف كانت خيارا طبيعيا لتشكيلة الـ«كروز» الموجهة للصيف والشمس والمنتجعات المترفة. «في العام الماضي، عرضنا تشكيلة الكروز في سنغافورة، كان الطقس رائعا وكانت وجهة جديدة بالنسبة لنا والحقيقة أننا تفاجأنا بالتجربة ككل. نجاح العرض جعلنا نفكر في الخطوة التالية، لتتبادر أجواء دبي إلى الذهن، وكيف يمكن أن تلهم كارل لاغرفيلد من الناحية الإبداعية. فهي ريفييرا جديدة فرضت نفسها على الساحة العالمية كجسر يربط عدة ثقافات وجنسيات ما حولها إلى وجهة سياحية وتجارية مهمة. ولا يمكن طبعا إغفال الجانب الاستراتيجي، فشانيل تشهد انتعاشا كبيرا في المنطقة عموما ودبي خصوصا، بفضل انتعاش مجال المنتجات المترفة من جهة، والاستراتيجية التي نتبعها لمواكبة هذه التطورات من جهة ثانية، وهي استراتيجية تعتمد على الإبداع ومفاجأة الزبون بالجديد والمتميز وفي الوقت ذاته نتعلم منه لتلبية متطلباته».

ويوضح بافلوفسكي هذه النقطة قائلا: «نحن نستقبل في المنطقة زبائن من جنسيات متعددة، لكل منهم أذواق وأساليب مختلفة، الأمر الذي يتطلب طرح منتجات متنوعة والبحث عن أساليب جديدة لتلبية متطلباتهم. مثلا، من الأشياء التي تعلمناها أن الناس هنا تميل إلى التسوق بعد الخامسة مساء وحتى العاشرة مساء، ما كان جديدا علينا في البداية، لكننا تفهمنا الوضع سريعا وتعاملنا معه بمرونة».

أما بالنسبة لعروض الدار التي تزيد إثارة موسما بعد موسم، فهو لا ينكر أنها جزء مهم من استراتيجية الدار أيضا إنها بمثابة نقطة انطلاق، أو مقدمة لقصة محبكة. طبعا الأزياء هي الأهم، لأنها هي التي تجد طريقها في آخر المطاف إلى المحلات ومنها إلى الزبون، لكن أهمية العرض تكمن في خلق أدوات نستعملها فيما بعد للدعاية أو لتزيين الواجهات وغيرها، كنوع من الاستمرارية تربط العرض، بكل عناصر الإبهار والتشويق فيه، بوسائل التواصل الأخرى.

لكن الملاحظ أن الدار زادت العيار في المواسم الأخيرة من ناحية الإخراج والديكورات. عرضها الأخير، مثلا، شهد تحويل «لوغران باليه» إلى سوبر ماركت ضخم شغل العالم، إلى حد كاد يسرق الأضواء من الأزياء. عند مواجهة بافلوفسكي بهذا السؤال، يضحك ويرد بثقة أبدا لا نخاف من ذلك، لأن الإخراج لم يكن ليوجد أساسا، لولا الأزياء وقوة الإبداع الذي تتضمنه بين ثناياها. هذه القوة هي التي تمدنا بالجرأة لكي نقدم عروضا مبهرة. فالعملية لا تخلو من منطق، إذ من المستحيل أن يحضر أحد عرضا مبهرا، وينسى التشكيلة التي وضعت في إطار هذا العرض، وهذا جزء من إستراتيجيتنا. لا ننكر أن أهم شيء هنا هو المنتجات التي نقدمها، وهدفنا الأساسي أن نطورها ونجددها حتى تخرج بالمستوى المطلوب. فهي أولا وأخيرا بداية القصة ونهايتها لو لم تكن متوفرة وقوية لما تمكنا من إيصال رسالتنا إلى العالم، والفضل هنا يعود إلى كارل لاغرفيلد الذي لا يتوقف عن مفاجأتنا دائما.

قوة هذا الأخير الإبداعية تكمن في قدرته على الموازنة بين الماضي والحاضر، الأمر الذي لا تزال الكثير من بيوت الأزياء تتخبط بحثا عنه. ففي الوقت الذي يحترم بعضهم هذا الماضي إلى حد التقديس الذي يكبل الخيال والنمو، يستمتع هو بثقة عالية يستمدها من خبرته ونجاحه في تجديد الدار، منذ عام 1983 عندما التحق بها أول مرة. فقد فهم روحها الأنثوية ويراقصها منذ ذلك الحين على نغمات كلاسيكية وعصرية، مؤكدا أنه، مثل كوكو شانيل، مستمع جيد لنبض الشارع وتغيراته، يستبقه أحيانا لكن دائما يحترم إرث الماضي ولا يخفي بافلوفسكي إعجابه بكارل لاغرفيلد الذي عمل معه منذ سنوات، مضيفا أن «الفضل في ديناميكية الدار يعود إليه وإلى مدموزيل شانيل ونظرتها المستقبلية السابقة لأوانها، في عصرها لم تكن هناك إنترنت كما لم تكن الهواتف متوفرة كما هو الحال الآن، ومع ذلك ربطت علاقات قوية مع فنانين، وكانت مثل الإسفنجة تمتص كل ما يدور حولها من أحداث وتغيرات، وتقدمه في أزياء جد عصرية وجريئة، بدءا من الأزياء المستوحاة من خزانة الرجل إلى الجواهر التي تلعب بها بطريقتها وما شابه من أمور كانت جديدة في عصرها.

كارل لاغرفيلد، يشبهها إلى حد كبير من ناحية أنه يتمتع بنظرة خاصة، ويمتص ما يدور من حوله من تغيرات يترجمها بلغة سلسلة ومتجددة، وكأن هناك حوارا خفيا يدور بينه وبينها في الخفاء. فقدرته على اللعب بالرموز التي أرستها تثير الدهشة والإعجاب في كل مرة. فهو يكتب في كل تشكيلة قصة جديدة تربطها خيوط قوية بالماضي من دون الإغراق فيه».

أمس شد فريق شانيل الرحال إلى باريس لتحضير تشكيلتها القادمة للـ«هوت كوتير». فليس هناك بداية أو نهاية في عالم الموضة، لأن رحى الموضة لا ترحم، وبلغة السينما، كما في لغة الموضة، فإن العرض لا يتوقف أبدا.