أتولييه فرساتشي وستيفان رولان.. اختلفت الطرق والنتيجة واحدة

أسبوع الأزياء الراقية بباريس لشتاء 2015.. نجوم وأفلام تبيع الأحلام

TT

الـ«هوت كوتير»، كما ينطقها الفرنسيون وتعني أزياء راقية مفصلة على المقاس تقدر القطعة الواحدة منها بمئات الآلاف من الدولارات، عادت أقوى من الأول. فقد أصبحت تحقق الأرباح بعد أن ظلت لعقود مجرد «بريستيج» يستعمل لبيع مستحضرات التجميل والعطور، لهذا لم يعد غريبا أن يتفنن المصممون في طرق عرضها، للمزيد من الإثارة من جهة، ولاستعراض قدراتهم الإبداعية من جهة ثانية.

مما يذكر أنه عندما نعاها الراحل إيف سان لوران في عام 2002 متقاعدا ومشيرا إلى أن الزبونات المتذوقات لهذا الجانب والمقدرات لقيمته اختفين من الساحة، صدقته الأغلبية. فتلك الفترة شهدت استحواذ المجموعات التجارية الكبيرة على مفاتيح عدة بيوت أزياء كان لها الفضل في استمرارية هذه الصناعة التي يعود تاريخها إلى 150 عاما تقريبا، بعد أن تقاعد مؤسسوها، أو غيبهم الموت أو فقط فلتت زمام الأمور من أيادي بعضهم بسبب قرارات خاطئة. وطبعا عندما أعلن شريكه بيير بيرجيه أن صناعة الـ«هوت كوتير» انتهت بخروج آخر فرسانها: إيف سان لوران، زادت الصورة سوداوية، وانتشر نعيها بين الكثير من المتابعين. لكن ما لم يكن يتوقعه إيف سان لوران ولا رفيق دربه بيير بيرجيه أن هذا الجانب لا يتوقف على زبونات من أوروبا أو من أميركا، وأن الخريطة الشرائية ستتغير بانفتاح أسواق أخرى وظهور شريحة جديدة من الزبونات. وهكذا بعد أن تقلص الأسبوع الخاص بهذا الجانب في العقد الأخير إلى ثلاثة أيام فقط، توسع في المواسم الأخيرة إلى خمسة أيام، حتى يتمكن من احتواء بيوت أزياء دخلت هذا المجال بكل قوتها، مثل رالف أند روسو ومجموعة من المصممين الشباب والعرب الذين، وإن لم يعرضوا ضمن البرنامج الرسمي، إلا أن وجودهم ملموس وقوي في باريس، بدءا من السوري الأصل رامي العلي إلى اللبنانيين زهير مراد، جورج حبيقة، جورج شقرا، طوني ورد. كل هذا يدل على أن صناعة أزياء مفصلة على المقاس، يستغرق تنفيذها عدة أسابيع إن لم نقل أشهرا، انتعشت بشكل واضح، مما فتح شهية بعض البيوت للعودة إليها. من هذه البيوت نذكر دار فرساتشي، التي عزفت عن هذا الجانب في السابق وأغلقته مركزة على الأزياء الجاهزة والإكسسوارات، لكنها عادت إليها أخيرا عودة مغترب مشتاق إلى موطنه من خلال خطها «أتولييه فرساتشي».. خط يؤكد موسما بعد آخر أنه يزيد قوة وثقة. مساء يوم الأحد الماضي، قدمت دوناتيلا فرساتشي تشكيلة، يمكن القول إنها أفضل ما قدمته منذ سنوات، حيث جمعت الإبداع بالتفصيل والخطوط المستوحاة من الخمسينات، إضافة إلى تلك التفاصيل المبتكرة التي تميز دارا عن أخرى، مثل الأكتاف المقوسة التي أضفت على الكثير من القطع المفصلة على الجسم، نعومة. كانت هناك بصمات فرساتشي المعهودة، التي تلعب على الإثارة الحسية، من خلال التصاميم الضيقة، والفتحات العالية، فضلا عن تفاصيل أخرى تتعمد كشف بعض مفاتن الجسد، لكنها ظلت، هذه المرة، ضمن إطار معقول. فقد جاءت محسوبة ومقننة بل وراقية، رغم ما في الأمر من تناقض، تحتفل بالمرأة وقوتها عوض أن تستعرض أنوثتها. لم يكن هناك أي شيء فيها يذكر بلايدي غاغا أو حتى مادونا، وكان كل شيء فيها يذكر بأنجيلنا جولي، التي ظهرت في الكثير من المناسبات هذا العام بتصاميم الدار وكأنها سفيرة صامتة لها. هذه الازدواجية بين الإثارة الحسية والقوة، تجلت خصوصا في مجموعة من القطع الهجينة بين بنطلون وبين فستان. بمعنى أن العارضة تبدو من بعيد وكأنها تختال في فستان طويل، إما مفصلا على الجسم أو بتنورة فخمة ومنسابة، لكنها ما إن تقترب حتى تكتشف أن ساقها الأيسر ملفوف في بنطلون، بينما ظلت الساق الأخرى عارية بالكامل لا يغطيها سوى جزء منسدل على شكل تنورة طويلة، مما خلق تناقضا عجيبا بين الأنوثة الراقية والقوة، التي كانت دوناتيلا تحاول أن تلعب عليها دائما لكنها راوغتها إلى حد الآن. توالت القطع، وكل مرة تشعر بمدى حيويتها وعصريتها، وبأنها تخاطب الجيل الجديد من زبونات الـ«هوت كوتير» من دون أن تقصي الوفيات من جيل الأمهات. كانت التشكيلة تضج بالأناقة والعصرية، ومع ذلك لم تغب رموز الدار القديمة تماما، حيث ظهرت الكورسيهات بأشكال جديدة كذلك الدبابيس التي جاءت واضحة تحديدا في بعض البنطلونات المفصلة، التي تعمدت المصممة دوناتيلا أن تستغني فيها عن السحابات، ليبقى الجزء المخصص لها عاريا يكشف عن جزء غير بسيط من الجسم، لا يمسكه سوى دبوس من أعلى. أما البريق والتطريزات، فكانت حاضرة، وبقوة، ومع ذلك لا تصيب بالتخمة، إلى حد القول إن دوناتيلا لم تكن تحتاج إلى استضافة النجمة جينفر لوبيز، لكي تزيد من عنصر الإثارة. فبريق الأزياء كان وحده كافيا لكي تحصل على مباركة الكل والشهادة لها بأنها قدمت تشكيلة ناجحة بكل المقاييس. لكن بما أن فرساتشي، من أوائل بيوت الأزياء التي بدأت تقليد استضافة النجمات إلى عروضها واستعمال هوليوود كوسيلة للترويج لها، فإنه من الصعب عليها الاستغناء عن تقليد برهن عبر العقود أنه ناجح ومفيد كوسيلة مباشرة للوصول إلى شرائح أكبر من الزبونات في كل أنحاء العالم.

لكن دوناتيلا فيرساتشي ليست وحدها من تعرف قوة تأثير النجوم والسينما على الأزياء، وبأن هناك علاقة حميمة بين الموضة والفن. فيوم الثلاثاء قدم ستيفان رولان عرضه على شكل فيلم قصير بعنوان «الهاربة»، من بطولة النجم الفرنسي جليل ليسبار والعارضة الإسبانية الأصل نيفيز ألفاريز. فيلم مدته عشر دقائق يلعب فيه جليل دور رجل متيم يبحث عن المرأة التي شغلت باله وقلبه لكنها تراوغه وتتهرب منه. كانت لغة الفيلم في منتهى الشاعرية، بينما كانت الأزياء في منتهى القوة، وإن لم تخل الخطوة من بعض المغامرة. فهي جديدة على جمهور ستيفان رولان، وكان من الممكن ألا يجري تقبلها برحابة صدر، إلا أن المصمم يبدو مقتنعا بها كلغة تعبر عنه وعن إمكانياته ورؤيته المستقبلية. لا ينكر أنها تحد جديد أراد منه الدفع بقدراته الإبداعية إلى أقصى حد، سواء تعلق الأمر بطريقة العرض أو بتصميم الأزياء. فقد درس مثلا الخط الياباني واستعمله بكل فنيته في بعض القطع، وعوض استعمال الخرز أو الأحجار مثل باقي المصممين لتزيين قطع أخرى، فضل عظام النعام، رغم صعوبة تقنية ترويضه، لأنه يرفض الاستكانة للسهل ويرى نفسه فنانا قبل أن يكون مصمما. «لم أعد نفسي يوما مجرد مصمم أزياء، فأنا أستمد إحساسي بالتوازن النفسي من القدرة على الإبداع بحرية مطلقة وفي مجالات مختلفة، لأن الإبداع يأخذ أشكالا متنوعة ولا يعتمد على لغة واحدة». هذا ما قاله المصمم ستيفان رولان في لقاء جرى في مقره الرئيس قبل عرض فيلمه بثلاثة أسابيع.

يقول من دون أن يتوقف عن إجراء بروفات على فستان أسود طويل بطيات جانبية على شكل جيوب مثلثة، محاولا ترويض جنوحها المبالغ فيه إلى الخارج:

«كانت أحد الأسباب التي دفعتني لتصوير هذه التشكيلة كفيلم سينمائي، رغبتي في تكسير التكرار.. إنه عدوي الذي أكره أن أقع ضحية له». ثم ينظر إلى مقطبا بجدية وهو يزيح شعره عن جبينه: «السينما تتيح حرية أكبر للحركة، كما تسمح بالتركيز على التفاصيل المهمة التي قد لا تراها العين في عرض أزياء تقليدي».

ثم يضيف: «أعد هذا الفيلم عملا إبداعيا يحاول أن يلتقط عملا إبداعيا آخر هو الأزياء. كما أنه سمح لي بأن أتوسع في جيناتي الوراثية، وأن أعرف بامرأة ستيفان رولان، بلغة أوضح، يفهمها الكل وتكون بمثابة شهادة أو تسجيل يمكن الرجوع إليه في أي وقت من الأوقات».

ما لا شك فيه أن تصوير التشكيلة عبر سيناريو شاعري وأبطال يتفاعل معهم المشاهد، كان تحديا لكل فريق العمل. كان ضروريا، مثلا، أن تكتمل التشكيلة قبل أسبوعين من انطلاق أسبوع الموضة، حتى يجري تصويرها وتجهيزها للعرض في الوقت المقرر. وبالفعل تمت العملية في وقت قياسي، وكانت النتيجة مرضية أشبعت رغبة المصمم في خوض الجديد، من دون أن يتنازل عن تقديم تشكيلة تختزل مفهوم الـ«هوت كوتير». مفهوم يتلخص في الفنية العالية وخلق جدل أو حوار فني لم ينته بانتهاء الفيلم. فقد دعا الحضور للاستمتاع بالأزياء عن قرب بلمسها وتفحص كل غرزة أو طية فيها. كان واثقا بأن فنيتها العالية ستذوب أي شك أو عدم اقتناع أو تقبل لفكرة العرض كفيلم قصير عوض عرض تقليدي. وبالفعل تسابق الكثير من الحضور مثل النحل، ليس لالتقاط صور لهذه الإبداعات، بل إلى التقاط صور لهم بجانبها، ربما لتأريخ لحظات نادرة لن تتكرر، أو ربما لأن هذه التحف ستبقى حلما بعيد المنال، ومن نصيب عدد قليل من النساء المقتدرات. كل ما فيها يذكر بأننا في موسم الـ«هوت كوتير)، الذي يصل فيه سعر القطعة إلى مئات الآلاف من الدولارات. يخرج الحضور من سينما الإليزيه بياريتز، مكان العرض، وصورة هذه التصاميم لا تفارق خيالهم، وإن كانت التجربة كلها خلقت جدلا فكريا، لم يكن ليتحقق لو لم تتكافل عناصر كثيرة للعمل، بدءا من النجم جليل ليسبار، الذي جسد شخصية إيف سان لوران في فيلم «إيف سان لوران» الأخير، إلى المخرجة دايان سانييه، التي لا يتعدى عمرها 23 عاما، مرورا بالعارضة نيفيز الفاريز، التي كانت آخر ملهمات الراحل إيف سان لوران. كانت تربط ستيفان بها علاقة صديقة قديمة، وبالتالي لم يكن من الصعب إقناعها بأن تلعب دور البطولة في الفيلم. أما لقاؤه بدايان سانييه، فتم بفضل المخرجة رافاييل تانور. عن هذا اللقاء يقول إنه «من اللحظة الأولى، جرت كهرباء كيميائية بيننا، وفهمنا بعض فنيا. شعرت مباشرة بأني سأتعاون مع شخص يفهمني ويقدر المرأة مثلي، والأهم من هذا يتمتع بلغة سينمائية جميلة. إنها بالفعل ماسة قد لا تكون مصقولة بعد، نظرا لصغر سنها، لكنها فنانة بكل معنى الكلمة». أما العارضة نيفيز ألفاريز، فهي «أكثر من مجرد عارضة سوبر، أو ملهمة للسيد سان لوران، إنها تجسد الجمال الذي يجمع بين الإثارة والغموض.. فهي تحب الشقاوة والحياة وفي الوقت ذاته تتمتع بالقوة والانضباط ومهنية عالية تجعلها حلم أي مصمم».

قد يكون إقناعه لجليل ليسبير لكي ينضم إلى الفريق، أكبر إنجاز بالنسبة لستيفان رولان. كان الشخص المناسب لكيف يقوم بالمهمة «لأنه يتمتع بمظهر متميز وجذاب وليس رجلا وسيما فحسب». كانت الخطوة الأصعب هي الوصول إليه، أما إقناعه فيما بعد، فكان سهلا، إذ بعد عمله في فيلم «إيف سان لوران» بات يفهم الموضة وطريقة التعامل معها، ومنفتحا عليها.

عندما أشرت إلى أنها تجربة جديدة عليه، ولا بد أنها أثارت بعض الخوف في نفسه، يجيب بسرعة كمن يدافع عن نفسه، بأنها لم تكن نزوة أو وليدة الأمس القريب. فقد عاش محاطا بالفن والصور الفوتوغرافية منذ طفولته حين كان يقضي أوقاتا طويلة يلعب في أستوديو للتصوير وهو ينتظر انتهاء والدته من عملها فيه. كبر الطفل وكبرت معه قدرته على تسجيل الصور في ذاكرته، لينسجها فيما بعد إلى تحف مغزولة بالخيوط والأقمشة والمعادن، ويقدمها من خلال صور متحركة لا تبيع الأزياء فحسب بل أيضا تبيع الأحلام.

فرغم إغراء السينما وشغفه بها كلغة مثيرة، يدرك ستيفان رولان تماما أن الأزياء هي المحور والبطل الحقيقي للفيلم، وهذا يعني أن تتضمن الجديد، وتعكس أسلوبه وتطوره فضلا عن قدرته على تجديد نفسه. لكي يحقق هذه المعادلة، كان لا بد أن يتصور تفاصيل شخصية بطلته وحالتها النفسية، قبل أن يبدأ في التصميم. تخيلها غامضة، مفعمة بالأنوثة، واثقة من نفسها وفي الوقت ذاته تتمتع بحس باريسي فني منطلق. ترجم هذه الصور بواسطة أقمشة مشبكة تتلاعب على الأنوثة والغموض، وعلى لمسة «سبور» خفيفة جدا، مستعملا أقمشة متنوعة، نذكر منها التافتا لسهولة صياغتها في أشكال منحوتة تتطلبها الخطوط الهندسية التي أصبحت لصيقة به، إضافة إلى المعادن التي زينت الكثير من القطع عدا عن بصماته التي جعلت منه مصمما تعشقه المرأة بغض النظر عن جنسيتها، حسب ما أكدت نوعية الحضور يوم الثلاثاء.