المدرستان الكلاسيكية والحداثية تلتقيان أخيرا بعد طول شد وجذب

في دورته السادسة.. أسبوع الموضة اللندني يكتسب قوة رجالية جديدة أكثر عصرية

من عرض «بيربري برورسم»
TT

تسبق انطلاق أي أسبوع موضة عالمي، توقعات كثيرة ومحاولات أكثر لتلميع صورته بهدف جذب أكبر نسبة من المتابعين والمشترين له. لكن أسبوع لندن الرجالي لم يكن يحتاج إلى تلميع، فكل الدلائل تشير منذ فترة، إلى أنه منافس قوي لكل من أسبوعي ميلانو وباريس اللذين يسبقانه من الناحية الزمنية. لم تمر سوى 3 سنوات على ولادته حتى توسع من 3 أيام إلى 4، لكي يستطيع استيعاب عدد الراغبين في المشاركين فيه. ولما انطلق يوم الجمعة الماضي، أكد أن أي توقعات أو تهليلات سبقته، لم تكن مبالغا فيها، لأنه بالفعل يزيد قوة موسما بعد موسم. مكمن قوته كما أكدت هذه الدورة، أنه مخلص لشخصيته التي تجمع الكلاسيكية بالحداثة، والتسويق التجاري بالابتكار الذي يميل إلى الجنون في بعض العروض. ونقول هنا العروض وليس الأزياء، لأن تفكيك كثير من القطع التي تبدو سريالية للوهلة الأولى، وإخراجها من إطارها المسرحي، تكشف أنها معقولة يسهل تسويقها لشاب أيا كانت ميوله وأسلوبه. لكن مع ذلك، تبقى قوة لندن في احتضانها للمدرستين: مدرسة التفصيل الإنجليزي التي يقودها خياطي سافيل رو، مثل جيفس أند هوكس، أو من تدربوا على أياديهم، مثل ألكسندر ماكوين وهاكيت، ومدرسة الابتكار المجنون التي يقودها مصممون حديثو التخرج تدفعهم فورة الشباب والرغبة في الظهور لاستعراض خيالهم بطرق غير تقليدية، مثل كريستوفر شانون. هذا التنوع لا يوجد في أي عاصمة أخرى، وهو ما يعطي لندن نكهتها المتميزة. ليس هذا فحسب، بل يشجع أسماء عالمية أن تشارك فيه مثل توم فورد، وموسكينو، وتومي هيلفيغر سابقا، و«كوتش» هذا الموسم.

مع انتهاء الدورة السادسة يوم الاثنين الماضي، كانت المهتمون قد تابعوا 32 عرضا رسميا و37 معرضا شاركت فيها ماركات مثل أكواسكوتم، ومانولو بلانيك، وباربر، وتوم فورد، وبول سميث، وغيرهم.

بالنسبة للعروض، يمكن القول إن «توبمان» لخصت ثقافة لندن، أو بالأحرى جمعت المدرستين، باقتراح مصممها، غوردن ريتشاردسون، أزياء كلاسيكية عصرية وأخرى حداثية في غاية الابتكار، مثل البنطلونات التي اتسعت من أسفل. قد تبدو هذه التصاميم غير جذابة من النظرة الأولى، لكن لن نستغرب إن رأينا شباب لندن وطوكيو يقبلون عليها ويروجون لها في عواصم أخرى. كما العادة، قدم غوردن ريتشاردسون للرجل كل ما يحتاجه في خزانته من بدلات متكاملة أو قطع منفصلة، بتصاميم متنوعة تلبي كل الأذواق، وإن غلبت على العرض لمسة «ريترو» من السبعينات تحتفل بالسفر وثقافات بعيدة.

أما عرض الشابة لو دالتون، فكان تجسيدا لوجه لندن الإبداعي، إذ قدمت تشكيلة جربت فيها خامات جديدة وخاطبت بها شريحة شبابية في المقام الأول. تقول المصممة إنها استوحتها من صورة التقطت لوالدها في السبعينات، مما جعلها تتذكر ما جرى في تلك الحقبة من أحداث مثل حركة «بلاك بانثر» وفيرجيل غريسم، الذي توفي وهو على متن «أبولو 1»، ثم «ربطتها مع صورة والدي، لخلق توازن بين النعومة والقوة. فقد اكتشفت أن القوة في تلك الفترة نابعة من الرغبة في التحكم فيما يدور حولنا وفي النفس في الوقت ذاته». هذه الديناميكية تجسدت في قطع للنهار على شكل جاكيتات من النايلون بسحابات ومعاطف من صوف الخراف باللون الوردي الفاقع. ما يشفع لدالتون أنها زاوجت في هذه الجرأة بين التفصيل الرجالي القوي بتقاليده العريقة، والأسلوب الشبابي، بكل ما فيه تمرد يستمده من ثقافة الشارع، مثل تلك اللمسة الخفيفة من ثقافة البانكس التي ظهرت في تنورات اسكوتلندية استعملتها فوق بنطلونات فضفاضة.

رغم أن المصمم الشاب كريستوفر شانون، ركز على ألوان كلاسيكية، مثل الأسود والأزرق الليلي في كثير من التصاميم، إلا أن إرساله العارضين بأكياس بلاستيكية تغطي وجوههم كان غريبا بعض الشيء، لم يشفع له سوى التصاميم وسمعته التي تؤكد بأنه نجم صاعد لا بد من الانتباه إليه. فقد حصل في العام الماضي بدعم كل من منظمة الموضة البريطانية ومجلة «جي كيو» اعترافا بموهبته، حيث فاز بجائزة قيمتها 150 ألف جنيه إسترليني، جعلت البعض يتوقع أنه سيقدم تشكيلة أكثر نضجا، تخاطب السوق والرجل المقتدر، لكنه في المقابل ظل وفيا لأسلوبه ولزبائنه الشباب. فالكنزات الصوفية مثلا، جاءت برسائل فيها بعض التمرد وصور «كولاج» تحاكي الفن من جهة وتتوخى الوظيفية من جهة ثانية. ولا شك أن هذا الوفاء لأسلوبه، وعدم انسلاخه عن جلده بهدف التودد للسوق، يدعو لاحترامه أكثر، سواء أعجبنا بأسلوبه أم لا.

كما العادة يزيد إيقاع الأسبوع سخونة مع توالي الأيام، مما يخلق الإحساس بأن عروض الأيام الأولى تكون بمثابة تمارين للتسخين والتحضير لما هو آت. من عرض «موسكينو» و«الكسندر ماكوين» إلى جي.دبليو أندرسون و«دانهيل» و«بيربيري» وآخرون، كان الطبق متنوعا، لكنه يعتمد على نفس المكونات. هذه المكونات هي اللعب على القوة والنعومة، وعلى الصرامة والفنية البوهيمية. في حالة دار «الكسندر ماكوين» لعبت القوة على الجانب العسكري نوعا، إذ عادت بنا المصممة سارة بيرتون إلى القرن الثامن عشر، حين كانت هناك إمبراطورية بريطانية لا تغيب عنها الشمس تجول وتصول بأسطولها في كل بحار العالم. بيد أن المصممة سارة بيرتون، لا تزال متأثرة بتشكيلتها الأخيرة التي استلهمت فيها الكثير من الفنان ماتيس، إذا كانت هناك إطلالات ذكرتنا بذلك، يشفع لنا أنها أقوى وأجمل من ذي قبل، خصوصا وأنها ركزت فيها على الإرث الذي خلفه الراحل ماكوين، بإضفائها لمسات من الجمال الوحشي، وفي الوقت ذاته، تقنيات التفصيل التقليدي التي تعلمها من خياطي سافيل رو. وهذا ما ظهر في الأزياء العسكرية بصرامة خطوطها، وطبعات «الكاموفلاج» التي ظهرت في كثير من الجاكيتات والمعاطف المفصلة على الجسم وحتى بعض البدلات، وإن كانت هناك أيضا قطع بنفس القوة طبعتها الورود. هذا التناقض بين الرجالي والرومانسي تميز بتناغم أضفى على التشكيلة الكثير من التنوع.

من جهته، لعب جيريمي سكوت، مصمم «موسكينو» على ازدواجية القوة والنعومة بأسلوب مختلف. فقد استعرض أجزاء كثيرة من الجسم، رغم أن الأجواء التي قدم فيها تشكيلته، توحي بأنها تتوجه إلى سكان القطب الشمالي أو سيبريا أو ما شابه بثلوجها المتساقطة. كانت هناك كثير من القطع المبطنة والسميكة، كما كانت هناك إكسسوارات كثيرة تتحدى المطبات الناتجة عن الطقس القارس، سواء بمنحها الدفء أو بتلافي مشكلات التزحلق على الجلد وغيرها، نجحت في شد الانتباه. الفضل يعود إلى تصاميمها الـ«سبور» التي أضفى عليها المصمم الكثير من الرقي الهادئ، مما يجعلها مناسبة لكل من يتوخى الدفء والأناقة سواء كان رجلا أو امرأة. نعم فجيرمي سكوت لم يكتف بالتلاعب بالأنوثة والرجولة، بل ذهب إلى أبعد من ذلك وقدم في عرضه أزياء وإكسسوارات نسائية.

في المقابل، قدم جون راي، مصمم دار «دانهيل» تشكيلة مختلفة تماما، لخص فيها نظرة الدار لما يجب أن تكون عليه الأزياء الرجالية العصرية: تطويرا لأزياء الأجداد في أواخر الخمسينات من القرن الماضي، وتحديدا من كان منهم معجبا بالموجة الفنية التي ترأسها كل من فرانسيس بايكون، لوشيان فرويد وديفيد هوكني. وهذا ما يفسر تلك اللمسة البوهيمية الخفيفة جدا التي ظهرت في بعض الإطلالات، وعززتها اللوحات الفنية التي زين بها مكان العرض. قد يكون جون راي، من المصممين القلائل في هذا الأسبوع الذي لم يحاول تأنيث المظهر الرجالي، وظل وفيا لعراقة الدار وكلاسيكيتها، ومع ذلك فإنها أزياء ستروق للمرأة، لأنها تظهر وجه الرجل الرقيق والحساس.

هذا الوجه أيضا ما أظهره كريستوفر بايلي في عرض «بيربري برورسم»، التي يمكن القول إنها أجمل وأقوى ما قدمه لحد الآن، فيما يخص الأزياء الرجالية تحديدا، إذ يمكن القول إن التشكيلة كانت بمثابة باقة مشكلة مما قدمه من قبل مع إضافة تحسينات كثيرة عليها. وهنا تكمن عبقرية المصمم الذي أخذ فكرة تناولها سابقا، ألا وهي الاحتفال بالفن، وجعلها تبدو جديدة بكل المقاييس. فقد أخذ الطابع البوهيمي الذي غلب عليها في الموسمين الماضيين، بعدا عصريا وواقعيا بعيدا عن الكليشيهات أو التكرار، سواء باستعماله نفس الألوان لكن بدرجات مطفية أو خطوط زاد من جرعة الكلاسيكية فيها. وهذا ما جعل الكل يجمع بأن عرض «بيربري برورسم» كانت مسك ختام أسبوع حافل. فقد تحول فيه كريستوفر بايلي نفسه إلى فنان نجح في رسم صورة في الذهن، يصعب نسيانها بسرعة، من نقشات البايزلي الإنجليزية الطابع، إلى الألوان المطفية مرورا بالجاكيتات المبطنة أو المعاطف الواقية للمطر، التي تزين بعضها بقطع مرايا صغيرة تجعلها تلمع مع كل حركة أو انعكاس للضوء. ورغم أن المرأة سترغب في الاستحواذ على كثير من هذه القطع، إلا أنه لا يمكن نعتها بالأنوثة لأنها حافظت على قوتها الرجالية، وكانت درسا رائعا في كيفية استعمال الطبقات المتعددة، وتنسيق الطبعات المتناقضة.

انتهى العرض بعد 10 دقائق تقريبا، رغم أن كل الجوارح كانت تتمنى أن لا ينتهي أبدا، ليس خوفا من مواجهة المطر المتساقط خارج الخيمة المنصوبة بالقرب من قاعة «ألبرت هول» وسط لندن، بل لأن كل ما في العرض كان متعة للحواس، إذا أخذنا بعين الاعتبار أن آخر المنصة كان مسرحا مفتوحا للمغنية كلير ماغواير، التي أدت 4 أغان أمام الحضور، واحدة من هذه الأغنيات ألفتها خصيصا لـ«بربيري». لكن ككل الأشياء الممتعة، انتهى العرض، وكان لا بد من مواجهة الأمطار. ما هون على النفس أن الوجهة التالية كانت حدثا تاريخيا في عالم الموضة: أول عرض لجون غاليانو لدار «ميزون مارتان مارجيلا» منذ التحاقه به، بعد غياب أكثر من 3 سنوات. حتى كريستوفر بايلي، خلع قبعة المصمم وسارع إلى مكان العرض لمتابعة حدث مهم في تاريخ الموضة المعاصرة.