منوعات الفضائيات تسطيح للذائقة الجماهيرية وإلهاء المشاهدين بالهامشيات

TT

لم نكن نتصور أو يخطر في بالنا، أنه سيأتي يوم تلهي فيه فضائية عربية ملايين المشاهدين، ولمدة أكثر من ساعتين، بالحوار مع مطربة تتحدث عن حذائها والطريقة التي تخفي بها عيباً في قدمها، أو عن الفوضى القائمة في دولاب ملابسها، أو عن التهامها كيلوين من الموز وهي جالسة تتفرج على التلفزيون، حتى أصيبت بالإغماء، وقصص وحكايات هامشية كثيرة، يتخللها بعض الأسئلة القصيرة والمبتسرة عن مشوارها الفني، وتسريب بعض أغانيها بين فقرات هذا الحوار «المدهش» كما أطلق عليه.

* تسطيح الذائقة الفنية

* ولو اقتصر الأمر على هذه الفضائية أو هذا البرنامج لهانت المسألة، لكن الأمر أصبح ظاهرة متفشية يتسابق إليها جميع معدّي ومقدمي برامج المنوعات من مذيعين ومذيعات ومن إعلاميين وإعلاميات، اختاروا هذا النوع من البرامج السهلة، وغير المسؤولة، التي تؤدي في النهاية إلى تسطيح الذائقة الفنية لدى الجماهير، وإلهاء المشاهدين بالهامشيات من الأمور، لدرجة أننا صرنا نتخيل لو أن الموسيقار الكبير الراحل محمد عبد الوهاب، كان على قيد الحياة، واستضافه أحد هذه البرامج، لتجاوزت مقدمة البرنامج الحسناء سيرته الفنية الحافلة على مدى القرن العشرين وقالت له ما يلي:

ـ المعروف يا استاذ أنك مشهور بأناقتك، وأظن أن الاخوة المشاهدين عندهم فضول كبير ليعرفوا سر أناقة الفنان الكبير محمد عبد الوهاب، فبماذا تحدثنا عن هذا السر؟

ويفاجأ محمد عبد الوهاب بالسؤال غير المتوقع، ويسأل:

ـ افندم؟ سرّ إيه؟.

فترد المذيعة: سر أناقتك.. يعني مثلا، هل تشتري بذلاتك جاهزة من سوق مصر.. أم يخيطها لك خياط خاص؟ أم تستوردها من باريس؟.. وعفواً، حذاؤك، هل هو إيطالي أم من صنع مصر؟..

ويشعر الموسيقار الكبير بنوع من الحرج، فهو لم يظهر على الشاشة ليتحدث عن بذلته وحذائه، بل عن عطائه الفني، ومع هذا يختصر الجواب قبل أن ينهض: أنا بخيّط هدومي عند الأسطى إبراهيم الترزي في باب الشعرية!.

* نوع العطر وموديل السيارة

* وحتى لا نظلم الفضائيات، نقول إن هذا النوع من الأسئلة والحوارات، سبقت إليه بعض المجلات الفنية التجارية التي كثيراً ما شوّهت سيرة الفنانين، ونشرت عنهم الأخبار الملفقة والشائعات، وعودت قراءها على الاهتمام بخصوصياتهم، خاصة الفنانات، حتى وصل الأمر في كثير من الأحيان الى المحاكم.

كانت هناك موجة من الأسئلة التي تتناول أدق خصوصيات الفنانات، وتبدأ بالسؤال عن نوع العطر وماركة السيارة، ولون ستائر غرفة النوم، وصفات الرجل الذي تحبه، وشائعة زواجها من فلان، وعما إذا كانت هي بطلة شباك التذاكر أم الفنانة الفلانية، وهل تعيش الآن قصة حب جديدة، وهل هي ست بيت أم لا تجيد سوى سلق المعكرونة.

بل يصل التطرف في السؤال احيانا الى: هل صحيح انك تبدلين عشاقك كما تبدلين ثيابك؟..

هذا ما كنا نفاجأ به كل يوم في بعض المجلات الفنية التجارية، بل ان أحد الصحافيين فيها تعرض يوما لـ «علقة ساخنة»، من «بودي غارد» احدى الفنانات، لأنه نشر خبراً عنها يقول فيه أن اسنانها ليست أصلية، وانها تضع في فمها «طقم أسنان صناعية»..

* ماذا حدث على الفضائيات

* وعندما بدأت الفضائيات العربية البث، توقعنا أن تساهم في النهوض بالذائقة الفنية لدى المشاهدين، وهم بالملايين، خاصة في برامج المنوعات التي تجتذب المشاهدين أكثر من غيرها، ان كان في تقديم المسابقات، أو الحوارات، أو الأغنيات، وتوقعنا أن تكون المنافسة بين الفضائيات العربية التي تجاوز عددها الخمسين، في هذا الاتجاه.

لكننا فوجئنا بالأمور معكوسة مع الأسف، ويكفي أن نعود إلى المقالات والزوايا الانتقادية التي نشرت في «الشرق الأوسط»، حول مثل هذه البرامج والأغنيات والمنوعات والمسابقات، لنقف على حجم الخلل البادي الذي أصبح معه تقديم الأغنيات مع الرقصات الخليعة نوعاً من رقصات الستريبتيز العربي، وبرامج المنوعات أقرب إلى الفقرات الاستعراضية في الكاباريهات والملاهي وعلب الليل، والحوارات تحولت إلى أسئلة سطحية يطغى فيها حديث الخصوصيات على حديث الفن، مما يشجع المشاهدين، والمراهقين بشكل خاص، على الاتصال هاتفيا بالفنانين الضيوف وطرح مثل هذه الأسئلة عليهم بأسلوب المديح أو أسلوب الاستفزاز، مما جعل المشرفين على هذه البرامج يمارسون نوعاً من «الكونترول» حتى على المكالمات الهاتفية خشية سؤال من صاحب لسان (سليط) قد يفسد الحلقة كلها.

أما المسابقات، فحدّث ولا حرج، وقد كتبنا عنها، وكتب كثيرون بعد أن تحولت إلى ما يسمى بـ «كازينو» الفضائيات، ولا تزال تتابع ابتزاز عواطف المشاهدين من خلال جعلهم يحلمون بأنهم موعودون بالثروة التي ستقلب حياتهم رأساً على عقب، ليزيدوا من الاتصالات الهاتفية ويدفعوا مبالغ طائلة لفواتير التلفون حتى على حساب قوتهم اليومي في بعض الأحيان، حتى أن أحدهم اعترف في إحدى المسابقات بأنه اتصل أكثر من أربعين مرة حتى «ابتسم» له الحظ ووصل إلى قاعة المسابقة ليفاجأ بالنهاية أنه ربح ما يعادل ألف ريال.

* هناك استثناءات وحتى لا تكون أحكامنا عامة، لا بد من الإشارة إلى عدد من الفضائيات العربية التي ترفض تقديم مثل هذه البرامج رفضاً قاطعاً على الرغم من الجماهيرية التي اكتسبتها من خلال الإثارة والاستعراض والإبهار، وهذا ما يؤثر بصورة مباشرة في عقول المراهقين بصورة خاصة.

كما أن هناك برامج منوعات ذات مستوى جيد، وتقدم النافع والمفيد والمسلي من المواضيع دون ابتزاز أو إسفاف، كما أنها تبث الأغنيات المصورة في لوحات ومشاهد جميلة، ان كانت منقولة من القاعات، أو مصورة بطريقة الفيديو كليب.

وإذا كنا ندعو للتنافس بين الفضائيات العربية فمن أجل الأفضل والأجمل وليس بطريقة المبالغة في الإثارة والتعري والخلاعة إن كان من المطربة (أو المطرب) أو من فرقة الفتيات الراقصات حولها اللواتي لا تدري إن كنّ عاريات أم كاسيات!.