موتسارت وظلال الرباعيات الوارفة

فوزي كريم

TT

على مشارف المرحلة الكلاسيكية كان بابا «هايدن» (1732 ـ 1809) متربعا في الذرى، طويل العمر، غزير الانتاج، طيب السريرة ومبدعا لأكثر من فن جديد من فنون التأليف الموسيقي. ولهذه الاخيرة يُعزى لقب «بابا» الذي لحقه. كان الخلاف الحقيقي لفن السيمفونية ولفن الرباعية الوترية ولثلاثية البيانو.

من الرباعيات الوترية له حوالي 83 مؤلفا، يحار المرء في القطاف بين عرائشها. وفي هذا الفن بالذات نلمس عمق تأثيره في معاصريه الأكثر شبابا: موتسارت وبيتهوفن. على ان الاخير أخذ فن الرباعية معه الى مرحلة من التاريخ الموسيقي جديدة تأسست على يديه، هي المرحلة الرومانتيكية، ومنحها من العمق ما لم يعرفه تاريخ الموسيقى حتى اليوم.

موتسارت لم يذهب بعيدا عن هايدن، وامتنانا له على عمق تأثيره وحسن رعايته أهداه باقة من الرباعيات الوترية عددها ست رباعيات: «الى الأب والدليل والصديق مع كل حب واعجاب موتسارت». وبقيت هذه الرباعيات الى اليوم تحمل اسم «رباعيات هايدن». وهي شاهد علاقة فنية وروحية لا مصلحة فيها. ولعلها أجمل ما قدم موتسارت وأعمق في هذا الحقل من التأليف، خاصة الرباعية الاخيرة منها مصنف 465، الملقبة بـ «المتنافرة». ولقد جاءها اللقب من اعتماد التنافر الغريب في مفتتح الحركة الاولى البطيئة. وكأن الشاب المعجزة أراد ان يخرج من شرك مشاعره الملتبسة الى ضرب من الأسى يتواصل عميقا على امتداد الحركة. إلا انه يستعيد الضوء في الحركة الثانية التالية. وفي الثالثة «المتباطئة» تدخل الروح مصطرع النور والظلمة عبر لحن هو تقابل بين دندنة رتيبة وهمهمة رقيقة تشبه الهمس. يظل الاحتدام حتى الحركة الرابعة، حيث الغلبة للعتمة، إلا ان روح موتسارت سرعان ما تنتفض وتقبل على الضوء من جديد.

الفرقة النمساوية «هاجن» قدمت هذه الرباعيات في ثلاث اسطوانات عن دار DG الالمانية. الاستماع لها يمنحك اكثر من ظل لمتابعة مشاعر موتسارت، واكثر من زاوية لوعي التضاريس الغنية من معماره الفني. فالفرقة طليقة وجريئة في التأويل. بالمقابل هناك إصدار جديد لكل رباعيات موتسارت (23 رباعية) جاء عن دار Calliope، لفرقة Talich الرباعية. هنا تجد موتسارت اكثر نعومة ودفئا وكلاسيكية. وهذا شأن الفارق بين أداءات الفرق الموسيقية في العزف والتأويل. وما على المستمع إلا ان ينعم بخيرات الاجتهادات في أداء ما يريده موسيقي لا نهاية لاعماقه كموتسارت.. فالرباعية الوترية فن حميمي ولا يحتمل أبهاء واسعة.

وهذه الحميمية تأملية الطابع. والطريف ان التأمل يأخذ صبغة مرحلته، فتأمل موتسارت الكلاسيكي غير تأمل بيتهوفن الرومانتيكي. وتأمل هذا يختلف عن صبغة تأمل الحديث شوستاكوفتش. وإذا وقعت على تأملات الطليعيين والما بعد حداثيين فستجد ما يدهش أو ما يعكر التأمل، أحيانا. الأمر يعتمد على الذائقة ودربة الأذن.

Mozart: The Haydn Quartets (DG) Mozart: The Complet String Quartets (Calliope)