قراءة في مهرجان القاهرة ونتائجه: بداية جديدة آملة وأخطاء مستمرة

TT

في طريقها الى مطار القاهرة عائدة الى لندن، أسرّت الممثلة فانيسا ردغريف بملاحظاتها للمسؤول الإعلامي الذي انتدب لمرافقتها وتوديعها. يقول: «كانت هادئة وهي تتولى تحديد بعض الملاحظات التي تراها تنتقص من قيمة المهرجان، وخلاصة هذه الملاحظات هي أن على المهرجان التشديد في كل ما يتعلق بالتنظيم».

لم تكن هذه ملاحظة فانيسا ردغريف التي تم الاحتفاء بها الى جانب عدد كبير من السينمائيين المصريين والأجانب، بل انتشرت هذه الملاحظة كما تفعل كل عام بين الضيوف جميعا. شاشي كابور، نجم السينما الهندية منذ الأربعينات وما بعد، لاحظ في نهاية أيام المهرجان أن «كل ما يحتاجه هذا المهرجان لكي يترك بصمة ايجابية هو التنظيم».

ما تعرّضت له فانيسا ردغريف يكفي.

وحسب مصدر داخلي كان عليها أن تتسلم جائزة تكريمها في حفل في الساعة الثانية عشرة ظهر أحد الأيام أمام حشد المصوّرين والصحافيين وبوجود طاقم المهرجان نفسه. قبل ذلك الوقت بقليل تحرّكت الجائزة بمعية موظف ليقطع مسافة لن تستغرق أكثر من ربع ساعة بين مقر المهرجان ومقر الاحتفال. لكن الموظف الذي لم تؤمّن له سيارة خاصة، ارتأى التوقف في منتصف الطريق لأنه جاع! وبعد وجبة الغذاء أكمل دربه ووصل متأخرا ساعة وربما ساعة وربع الساعة، حافظت خلالها فانيسا على هدوئها وابتسامتها مدركة أنها في العالم الثالث فعلا.

ويدرك رئيس المهرجان شريف الشوباشي أهمية التنظيم:

«أريد أن أقضي على هذه التجاوزات قضاء تاما. أريد أن أخلص المهرجان من هذه السمعة التي لحقت به نتيجة مثل هذه الأخطاء. لكني بحاجة أساسا الى ميزانية أكبر لكي تساعدني على حل هذه المعضلات وتساعد المهرجان نفسه على النمو والتطوّر. أعمل بميزانية لو عمل بها مهرجان «كان» لسنة واحدة لسقط تماما».

هذا صحيح. لكن في حدود ما هو متاح فإن قدرا من التنظيم كان عليه أن يتبدى، خصوصا أنها المرة السادسة والعشرين من حياة المهرجان. بكلمات أخرى، بعض الأخطاء التنظيمية تتكرر لأن العمل على حلها لا يبدأ الا حين وقوعها. تلك الحفلات التي تُلغى من دون علم الإدارة. السينمائيون الأجانب الذين يصلون الى الصالات التي تعرض أفلامهم فيرونها إما خالية تماما او مشغولة بعرض فيلم آخر. زوجة الضيف الكبير التي عادت الى المطار لتجد أن المهرجان وضعها على «لائحة الإنتظار» Waiting List. السينمائي الفرنسي، الذي بلغت به الثورة لحد أنه قرر رفع شكوى الى جمعية السينمائيين الفرنسيين، وذلك الإيطالي الذي يود نشر رسالة مفتوحة الى الصحافة الإيطالية حول المهرجان.

* هذا ما نعلمه

* ليس لأن رئيس المهرجان ونائبة الرئيس سهير عبد القادر، التي عايشت المهرجان معظم سنواته وكابدت مشاقه، لا يكترثان او لا يحاولان، لكن اذا كانت الميزانية فعلا لا تتحمّل جمع فريق عمل منتظماً وكاملاً، فإن الشعور بالمسؤولية الجماعية من قبل العديد من الموظفين الصغار والمحيط الفني العام غائب. المشكلة الأخرى الأساسية هي التالية:

مهرجان القاهرة السينمائي الدولي ينطلق بمن فيه على طريقته، علما بأن هناك طريقة أخرى أفضل. ومن الصعوبة شرح ذلك، ولكن هذه هي المحاولة:

هناك الكثير من الشعور بضرورة وضع الأمور وتصريفها على الطريقة المصرية كون المهرجان مهرجان مصري أولا وأخيرا. وهذا يحمل في ثناياه طريقة التصرّف الفردي كما الجماعي وهي طريقة قد تبدو للقادم من بعيد غير عملية، او ـ في أفضل الأحوال ـ غريبة عن السبل التي تُدار بها المهرجانات الأخرى التي يحضرها. خذ مثلا الحفلات الليلية، بينما مشاهدة فيفي عبده ترقص على مركب عائم في النيل هو بالنسبة للأجانب، جزء من «سحر الشرق»، فإن المتعة مقضي عليها إما بعدم التنظيم العام او بأن كل ما يحدث فيها، الى جانب الرقصة المثيرة، هو تناول العشاء بالسرعة التي يقررها الداعون، هذا اذا استطاع المدعو شق طريقه بنجاح وبأقل قدر من المهانة الى الموائد العارمة التي يحتشد حولها المئات من دون كلل. حفلة الاختتام كانت مثالية في ذلك: بعد توزيع الجوائز خرج المدعوون في اتجاهات شتى يبحثون عن الحافلات التي أقلتهم. لم تكن هذه على مقربة فتفرق الشمل بهم، لكنهم في نهاية الأمر وصلوا الى حفلة العشاء التي أقيمت في أحد القلاع التاريخية: حديقة كبيرة بأقل عدد من الطاولات والمقاعد. اذا ما وجدت مكانا تجلس فيه تتذكر أيام رحلات الاستجمام الى الطبيعة التي خلت من الرسميات وحفلت بالتلقائية (حتى لا نقول فوضى) باختلاف أن هذا مهرجان رسمي وهذه دعوة رسمية والضيوف رسميون وهذه ليست رحلة الى الطبيعة. موائد «البوفيه» البعيدة مزدحمة بالكثيرين من الذين لم يشاهدوا فيلما واحدا خلال المهرجان وبقلة من الضيوف.

لكن الأمر أكثر بكثير من مجرد حفلة عشاء في هذا المكان او ذاك. أيحتاج الأمر الى تنظيم المهرجان على أساس عملي؟ اذا كان هذا هو القرار فإن المهرجان بذلك يمكن له أن يطرق باب الطريقة الأخرى: أن يتخلى عن طبيعته المصرية من دون أن يحذف او يلغي هويته ويستعيض عملية تصريف الأمور بالطريقة المحلية بعملية تصريف الأمور بالطريقة العالمية، واذا ما استدعى ذلك انتداب عدد من مسؤولي الأقسام الى مهرجانات عالمية أخرى لدورة تدريبية فليكن. على أن رئيس المهرجان لا يرى الأمور على هذا النحو. حين ذكرنا له أن المهرجان ليس بحاجة الى حفلة افتتاح، بل يكفي حفلة ختام، قال:

«كيف تحكم على حفلة افتتاح هذه الدورة وأنت لم تحضرها؟لا يمكن الغاء مثل هذه الحفلة لأننا نريد من المدعوين الأجانب الإحساس بأنهم في مصر. حفلة الافتتاح (التي لم يسمع الناقد شيئا معيبا بحقها) تجعله يدرك أنه في مصر وليس في فينيسيا او برلين او كان».

بعد قليل، على الهاتف، يتحدث الى أحد معاونيه ويسر اليه أن حفل الاختتام لم يسبق لها مثيل. ثم يستدير الى محدثه ويجيب عن سؤال حول أهمية انضمام المهرجان الى الاتحاد الدولي للمهرجانات:

«نعلم أن هناك قيودا شديدة يفرضها الاتحاد، وأنت أشرت الى ذلك في كتاباتك، لكننا وضعنا في الميزان هذه القيود مقابل الفوائد، والفوائد كانت أكثر. الانضمام الى الاتحاد يمنح المهرجان المصري وضعا دوليا رسميا كواحد من أهم 12 مهرجاناً سينمائياً. هذا وضع لا يمكن التراجع عنه».

* ختام ناجح

* حين جاء حفل التختتام، صعد وزير الثقافة فاروق حسني ورئيس المهرجان الشوباشي الذي تحدث من دون ورق بثلاث لغات، معربا عن سعادته بختام دورة ناجحة، مؤكدا، بالعربية وليس بالانجليزية او الفرنسية، ضرورة اتحاد العناصر العاملة لإنجاح مهام المهرجان. بعد ذلك وقف مع وزير الثقافة يتابعان الحفل من على المنصة.

هذا العام اختار المهرجان طريقة جديدة لانتخاب الأفلام الفائزة. لجنة التحكيم التي رأسها بفاعلية والمخرج والمنتج الهندي اسماعيل مرشنت، وضمّت الممثلة المصرية ليلى علوي، والمخرج الجزائري رشيد بن حاج، والمخرج المصري توفيق صالح، والمخرج اليوناني كوستاس فيريس، والمخرج المجري جيورجي كارباتي، والمخرجة الإيرانية رخشان بين اعتماد، والمخرج الايطالي جيانفرانكو مينغوتزي، والمخرج الصيني زانغ جيانيا، اختارت تقديم ترشيحات قوية في كل قسم تنتخب من بينها الفيلم الأفضل. شيء قريب من الطريقة المتبعة في الأوسكار. فمثلا لجائزة أفضل فيلم عربي، تم ترشيح «خريف آدم» لمحمد كامل القليوبي و«تذكرة الى القدس» لرشيد مشهراوي و«معالي الوزير» لسمير سيف، وجرى إعلان هذه الترشيحات على المنصة ثم فتح المغلف الذي يحتوي على اسم الفيلم الفائز بين الثلاثة «خريف آدم». وهذا تم تنفيذه في كل الأقسام والجوائز الأخرى.

لا بأس مطلقا بهذه الطريقة التي لا تلفت النظر فقط الى الفيلم او السينمائي الفائز في كل قسم، بل الى الأفلام او السينمائيين الذين نافسوه على الجائزة. وقد أحسن المهرجان اختيار الفنانين المصريين الذين قدّموا هذه الجوائز على نحو عام، ولو أن بعضهم حاول استغلال الفرصة لجذب بعض الحضور الى وجوده.

الخطأ كمن في تقديم كل فنان. فعوض تحديده هويته بكلمة واحدة وبتعريف من سطر واحد، عمد المهرجان الى تقديم ملخص بالعربية والانجليزية مكتوب بلغة التطنيب المعتادة. وعلى كثرة الفنانين الذين صعدوا الى المسرح، فإن هذا التقديم احتل ـ اذا ما جمعت دقائقه المتفرقة- نحو عشر دقائق، وشتت من زخم الحفل عوض تجميعه في وحدة زمنية مشدودة. هذا لا يعني أن الجوائز الرئيسية كانت مفاجئة في بعض الحالات.

* الليثي ـ نصف المنسحب

* في العام قبل الماضي، قدّم احمد زكي دورا رائعا في فيلم «أرض الخوف» وجلس في صفوف الحضور شبه واثق من أن جائزة أفضل ممثل ستكون من نصيبه، لكن عندما فضلت لجنة التحكيم محمود عبد العزيز عن دوره في «الساحر» عليه، غاص، على وصف أحد الشهود، في كرسيه مكتفيا بابتسامة باهتة.

هذه المرة كان حاضرا وبقوّة لتلقف جائزة أفضل ممثل ورد التحية العارمة التي واجهه بها الحضور. لكن قلة، بالمقارنة، هي التي شاهدت الفيلم الذي فاز عنه وهو «معالي الوزير». كان الفيلم قد عرض في حفل الافتتاح ووضع في البرنامج في حفلتين لاحقتين لمن فاته العرض الأول. لكن منتج الفيلم ممدوح الليثي نجح في إثارة ارتباك شديد عندما قرر سحب الفيلم من عرضيه اللاحقين لأسباب لا تزال مجهولة، لكن نتيجتها كانت أقرب الى النيل من جهد المهرجان والمشرفين عليه من اي شيء آخر. هل كانت دعوة الشوباشي للاتحاد موجهة الى المنتج المصري؟ ربما. الفيلم نفسه لم يحظ بجائزة، لا في مجال مسابقة أفضل فيلم، ولا في مسابقة أفضل فيلم عربي، ولا في مجالي أفضل اخراج وأفضل سيناريو ، علما بأن البعض يؤكد أن إخراج سمير سيف هو الأفضل في تاريخه، وأن كتابة وحيد حامد هي من أفضل ما وضع. المهرجان نجح بضيوفه. فبعد محاولات استقطاب بعض النجوم الأميركيين، وهي محاولات لم يكتب لها النجاح تبعا لظروف المهرجان من ناحية ولظروف المنطقة من ناحية أخرى، استطاع جمع عدد من السينمائيين العالميين. محور هؤلاء كان بلا ريب المنتج والمخرج الهندي اسماعيل مرشنت الذي يعيش ويعمل في لندن، ولديه مكتب في نيويورك. شركته التي تحمل اسمه واسم المخرج جيمس ايفوري باتت اسطورية: الشركة المستقلة الأكبر سنا، حيث انشئت منذ 40 سنة ولا تزال تنبض بمشاريع يختارها مرشنت وشريكه بعناية، وقوامها أعمال كلاسيكية وأدبية مختلفة. من «حرارة وغبار» الى «غرفة ذات منظر» ومن «جيفرسون في باريس» الى «السيد الغامض» الذي أخرجه مرشنت بنفسه قبل عام. الى جانبه وبالإضافة الى فانيسا ردغريف التي لا تزال على مواقفها الايجابية تجاه القضية الفلسطينية كما أسرّت للبعض هنا (ولو أنها أقل ترويجا لهذه المواقف نظرا لما تكبدته من مشاكل بسببها)، تم الاحتفاء بالممثلة اليونانية إيرين باباس والممثلة الإسبانية فكتوريا أبريل والمخرج اليوناني مايكل كوكايانيس والمخرج الفرنسي آلان كورنو والمنتج الفرنسي مارين كارميتز والمخرج الإسباني كارلوس ساورا والممثلة المصرية ايمان والممثلة المصرية ليلى علوي والممثلة المصرية مديحة يسري والممثل المصري عزّت العلايلي.