سوناتات شوبرت إلى الجمهور المتخيل

فوزي كريم

TT

عادة ما يتمتع المؤلف الموسيقي، في كل مراحل الموسيقى الكلاسيكية، بنوعين من الجمهور يتأرجح بينهما كالبندول: الأول هوالجمهور الحقيقي، الملموس الحضور في قاعات الحفل العامة. والثاني الجمهور المتخيل. الجمهور الأول يعرف ما يريد من المؤلف فهما يستجيبان لبعضهما استجابات مشروطة. والثاني لا يكلف المؤلف أي متاعب ويتركه على هواه، يولد من كيانه اللحن النموذجي.

كان شوبرت (1797 ـ 1828) واحداً من هؤلاء حتى عام 1823، عام اكتشاف مرضه المميت (السفلس)، الذي دفعه في عزلة مطلقة مع النفس، تشبه تلك العزلة التى أحاطت بيتهوفن بعد استفحال صممه.

أرجحة البندول بين الجمهور الحقيقي والجمهور المتخيل توقفت تماماً. وانصرفت العبقرية البريئة الشابة تؤلف على هواها لجمهور واحد لا وجود له. من بين هذه الروائع التي ألفها شوبرت في السنة الأخيرة من حياته ثلاث سوناتات على آلة البيانو ختم بها إنجازه في هذا الفن «واحدة وعشرون سوناتة». وهذه الفرائد الثلاث ظلت محجّة مغرية لعازفي البيانو المهرة، فهي السوناتات العظام كما تسمى عادة، لا بفعل امتداداتها الزمنية الإستثنائية فقط، بل بفعل غرائبيتها بالنسبة للعارف بتقاليد هذا الفن وبعبقرية شوبرت. فهذا المؤلف المولع ببيتهوفن لم يشأ أن يستوحي في أعماله الأخيرة هذه سوناتات بيتهوفن التأملية الأخيرة، بل عاد فاستوحى الأعمال المبكرة المشبعة بالغناء. كما أنه، وهو في لحظات مرضه اليائسة، لم يدع تنهّدات اللوعة السوداء تمس أوتار حنجرته الرقيقة في غنائها، ولا توترات المخاوف تشنج الدعة والاسترخاء فيها. الى جانب أن شوبرت بدا في نسيجه طموحاً، فتياً، في قيادة فن السوناتا الى أفق أبعد من معمارها الصارم المعهود. إنه معني الآن بالظلال والهارموني والتلوين. والزمن المحدود للسوناتا لم يعد محدوداً. فالأخيرة (مصنف 960) تمتد لأربعين دقيقة.

يكفي أن يذهب أحدنا مباشرة الى الحركة الأخيرة (روندو) من سوناتا مصنف(959) ليعانق شوبرت ويغني معه غناءً عذباً، عفوياً لا صعوبة تقنية ولا عضلية فيه. على أن نعرف أن الشجرة التي رسمها لنا شوبرت في المقدمة لا يمكن أن تخفي الغابة الكثيفة المتشابكة وراءها.

فالظاهر اليسير السهل في الأغنية يخفي طيات مشبعة بالدلالات وراءه. استمع الى الحركة الأولى من السوناتة الأخيرة وتأمل كيف تتداعى الثيمة اللحنية لتتوقف كل مرة كالجافلة أمام ارتجافة مفاجئة، توحي بموجات طبل أو رعد بعيدة، ثم تواصل تداعيها العذب.

هذه السوناتات الأخيرة للبيانو كانت وما زالت محجة، كما قلت، لكل عازف ماهر. وآخر عازفيها المهرة هو الأمريكي الأشهر باري بيرايا (مواليد 1947)، وقد صدرت مؤخراً عن دار Sony. بدأت شهرته الحقيقية مع مطلع السبعينات حين قدم كونشيرتات موتسارت للبيانو كاملة، قائداً لأوركستراه من على مقعده على آلة البيانو. ولقد تميز عزفه بالصفاء في أداء اللحن، وبالقدرة التعبيرية الحميمة، والسيطرة المحكمة على الشكل مهما كان صغيراً أو كبيراً.

وفي أواسط التسعينات أصيب بجرح في أصابع يده أوقفه عن نشاطه في العزف، فانصرف الى دراسة الأعمال الموسيقية لآلة البيانو بصورة تأملية ونظرية، الى أن عاد للعزف بصحبة أعمال باخ، بعد سنوات خمس.

إنه العازف المنفرد الذي يُشعرك بأن العمل الموسيقي إنما يُعزف لوحده!