الأغاني المغربية الضاربة نقمة أم نعمة

«ملهمتي» و «راحلة» و «سولت عليك العود والناي» كلها أعمال عاشت لتشكل عقدة لأصحابها

TT

كثيرا ما يسعى الفنان إلى تحقيق النجاح ونيل الشهرة باذلا قصارى جهده مستسهلا الصعاب مضحيا بخصوصيته وأسرار حياته في سبيل الوصول إلى قمة المجد عبر عمل من الأعمال. هذه القمة التي قد يطول السير إليها أو يقصر تبعا لموهبة الفنان وقدراته الإبداعية ودرجة اجتهاده وتفانيه في العمل، كما يلعب الحظ والتوفيق وفراسة الفنان دورا في استمرارية لمعان وشموخ تلك القمة المنشودة.

ورغم ما للنجاح المبكر من أهمية في حياة الفنان فإن المحافظة عليه تمثل تحديا يصعب تخطيه، بل ان مثل هذا النوع من النجاح يمثل لدى العديد من الفنانين حجر عثرة في مسيرتهم، فلا يستطيعون تجاوز الذروة والقمة التي تحققت بنجاح أحد أعمالهم، فمنهم من ينطوي على نفسه ويختفي عن الأضواء ويصل به الأمر إلى الاعتزال احتراما لما بلغه، ومنهم من يعيش على أمجاد ما تحقق ويفني حياته في البكاء على أطلال الماضي أو تفريخ الأعمال الفنية الفاشلة واحدة تلو الأخرى مستفيدا من الجماهيرية والسمعة التي اكتسبها، وقد يصبح نجاح الأغنية «الضاربة» دافعا للفنان للاستمرار وقاعدة يستند إليها للتحليق بعيدا والتربع فوق قمم أخرى أكثر علوا وأشد بريقا. بكلمات جميلة، ولحن شجي وبقية العدة والعتاد تظهر أسماء وتكبر، وتصير علامات ثم تتوارى طوعا أو غصبا تاركة الكثير من الأعمال التي تعيش على ذكرى عمل واحد ناجح. والأمر يزداد تعقيدا في المغرب نظرا لما عانت منه الأغنية ولا تزال وهو ما يجعل من الانطلاق الأولي للمطرب صعبا للغاية ومن الانبعاث بعد النجاح والتألق أصعب من السابق. فالمطرب أحمد الغرباوي لم يستطع تقديم أغان ناجحة كأغنية «ملهمتي» التي اقترن اسمه بها رغم أن في رصيده 450 أغنية على مدى عمر فني تجاوز 42 عاما. المغنية الشعبية نجاة إعتابو هي كذلك لم تستطع تجاوز حاجز نجاح أغنية اشتهرت بها في بداية مشوارها الفني، واعتبرت انطلاقة جيدة لمطربة تملك من مقومات الصوت الجبلي والأداء الشعبي ما يمكنها من الاستمرار بتألق ونجاح أكبر. لكن ما حصل هو العكس فرغم أنها قدمت العديد من الأعمال على مدى 20 سنة بعد «شوفي غيرو»، لكنها لم ترق إلى مستوى نجاح وتألق أغنية البداية. كذلك المرحوم محمد الحياني وقع ضحية بداية كبرى عبر أغنية «بارد وسخون» ورائعة الشاعر عبد الرفيع الجواهري «راحلة» التي بلغ بها الحياني قمة الجماهيرية والنجومية، وبقدر ما كان ترديدها من أفواه الصغار قبل الكبار بقدر ما أجمع النقاد على ولادة مطرب من الوزن الثقيل سيغير مجرى الأغنية المغربية، وبعد فترة اختفاء وانطواء عاد الحياني إلى الساحة الفنية بأغان عدة ليظل اسمه مقرونا ومحصورا براحلة قبل رحيله المفاجئ عنا. على مدى اكثر من 40 سنة من العطاء الفني لم يصدح صوت إسماعيل أحمد بأعذب ولا أروع من أغنية «سولت عليك العود والناي» رغم الأغاني المميزة التي سبقتها أو أعقبتها كـ«آش أداني» و«نادني ملكي» وكانت قمة في الإبداع لكنها لم تستطع أن تتخطى بصاحبها حاجز أشهر الأغاني المغربية وهي «سولت عليك العود والناي». إسماعيل أحمد لم يستأمن النجاح الاستثنائي لأغنيته وكانت لديه القدرة والمرونة لاستيعاب هذا النجاح، وأداء الأغنية كلما اعتلى الخشبة وحتى رحيله.

عزيزة جلال وبهيجة ادريس والأمثلة عديدة لكثير من المطربين الذين خانهم الحظ في إثبات فنهم عبر أغان «ضاربة» كتلك التي سبقتها واكتسحت السوق وقت نزولها، بل ان بعضهم ساءه توقف مستمعيه عند أحد الأعمال واختصار مشوار كامل بأغنية مما يعني أنه لم يتجاوزها وظلت حاجزا وحاجبا لأي إبداع آخر. وإذا كانت الأعمال الناجحة حاجزا أمام بعض المطربين فإن نجوما آخرين استطاعوا تخطيها والتميز بأغان أخرى رغم أنهم ظلوا فترة زمنية مترددين ينتابهم الخوف والحيرة من الظهور بمستوى أقل مما سبق وقدموه. فالفنان عبد الهادي بلخياط استطاع التجدد والانتقال من أغنية ناجحة إلى أخرى كـ«القمر الأحمر» و«الشاطئ» و«بنت الناس»، ليتواصل إبداعه مدققا في أعماله أكثر فأكثر، فيشدو بـ«قطار الحياة» و«يا ذاك الانسان» و«ما ثَقْشِ بيَّ». أما عميد الموسيقى المغربية الفنان عبد الوهاب الدكالي بعد أن حقق نجاحا كبيرا في أغنية «حبيب الجماهير» أبدع وتألق في «مرسول الحب» و«كان يا ما كان» و«ما أنا إلا بشر» و«الله حي» وأخيرا «نشيد السلام» التي ترجمت إلى العديد من اللغات. مع بداية الثمانينات عرف المغرب ظاهرة هجرة الفنانين إلى الشرق ومن هؤلاء ممن استطاعوا إيجاد مكان لهم عبر سلسلة من الأعمال الناجحة، نجد سميرة سعيد التي بنت قاعدة جماهيرية واسعة بعد أن غنَّت «مش حتنازل عنك أبدا» و«جاني بعد يومين» وتواصلت أعمالها واستطاعت منافسة كبار مغني الشرق فتوجت هذه المسيرة بالحصول على جائزة «ميوزيك أوورلند» بأغنية «يوم ورا يوم». رجاء بلمليح هي كذلك قدمت العديد من الأعمال كان آخرها ألبوم «شوق العيون»، لكن هذه الأغاني لم تحقق أي منها بريقا وجماهيرية أغنية «يا جار واديِنا».

أما الفرق الغنائية التي شكلت نمطا دارجا في السبعينات خصوصا فكانت مجموعة «الإخوان ميكري» أشهرها وأكثرها قدرة على تجديد الألحان والكلمات، حيث قدمت أغاني لاقت استحسانا كـ«ياريت»، «ربما»، «ودعته» و«قالوا لي أنساها»، قبل أن تحقق نجاحا باهرا وتلاقي موسيقاها إعجاب الناس رغم غرابتها آنذاك على أذن المستمع، فقدم الإخوان ميكري أغاني ضاربة كـ«علموك» «كلمتني» و«سمرا» و«عيوني شجن» و«أنت السبب» و«ليلي طويل» و«حورية» والأخيرة قدمت كأول فيدو كليب مغربي.