موتسارت وحريم السلطان سليمان

فوزي كريم

TT

هذه الأوبرا الصغيرة «تسايدة» التي صدرت عن دار harmonia mundi، عارضة في حياة موتسارت الإبداعية الخصبة. حدث أن اندفع في تأليفها على حين غرة، ثم سرعان ما هجرها حين بطلت الحاجة. كان الامبراطور جوزيف الثاني في ?يينا قد عزم على تأسيس فرقة ألمانية للأوبرا، بعد الهيمنة الطويلة للأوبرا الايطالية. وكان يسعى لتعيين موسيقي شاب في مركز القيادة، فطمع موتسارت في ذلك المنصب. ولكنه انتصح أن يقتصر في طمعه على المشاركة، فلمنصب قيادة الفرقة أكثر من منافس داخل البلاط الموسيقي. ولذلك سعى موتسارت في تأليف هذا العمل الألماني. اختار نصاً شعرياً لألحانه من حكاية خيالية من تلك الحكايات التي كانت تستوحى من مجد الإمبراطورية العثمانية الغابر. أسيران غربيان يخدمان كعبدين في بلاط السلطان سليمان: «تسايدة» و «غوماتس». يقعان في حب بعض، على طريقة الأهواء الأوبرالية التي لا تخضع لمنطق، ويتفقان في السر على الهرب بمساعدة «ألاتسم» الأسير المستعبد والمفضل لدى السلطان، والذي يتفق للهرب معهما. وحين يكتشف السلطان ذلك يفيض به الغيظ، ويعد بالقبض عليهما والانتقام منهما، رغم محاولة رئيس حرسه «عثمان» في تهدئته وتعويض الخسارة بالجواري الكثار، ولكن وعيد السلطان يكشف عن حب كامن في قلبه للمستعبدة «تسايدة». في النهاية يتم القبض على الهاربين، وتختتم الأوبرا بأغنية رباعية تتداخل فيها توسلات وتنهدات الهاربين الثلاثة، مع إصرار السلطان الغاضب بعدم الغفران. إلا أن نبرة الرأفة في صوته الصداح تبين مترددة. ولم يعتمد موتسارت النص الدرامي الشعري كله، حيث يغفر فيه السلطان ويعفو أخيراً.

كان المطلوب من موتسارت، ولم يتجاوز حينها الثانية والعشرين من العمر، أن يؤلف موسيقى كوميدية، ولكنه فضل الدراما الجدية. وميله الى هذا النص الشعري، والى هذه الحكاية بالذات إنما يكشف عن رغبة للتعبير غير المباشر عن توقه للحرية هو الآخر. فقد كان يعيش تحت وطأة متطلبات الطبقة الأرستقراطية الثقيلة، والتي لا تتداخل خيوطها الجافة مع خيوط عبقريته الملتهبة أبداً. كان يتوق الى حرية التأليف على هوى مشاعره وأفكاره، لا على هوى النزوات البطرة. ولذلك وجد في النص الدرامي قصائد تنطوي على لوعة المستعبد التواق الى الحرية، فغمرها بسحر لوعته هو، رقيقة، أسيانة، دمعتها ترق على بشرة طفل لم تجعده الآلام، لأن موسيقى موتسارت لم تعهد الآلام الجارحة، ولا الانكسارات، بل تأخذ بالألم وترفع به الى أسى أسمى. الى عاطفة لا اسم لها، ولكن تألفها الموسيقى وحدها، حتى أنه تجرأ، من اجل أن يعبر عن احتجاجه، على أن يجعل السلطان المسلم أعمق رأفة، وأيسر انقياداً للحب، وأميل الى العفو من شبيهه الغربي.

الأوبرا من فصلين قصيرين نسبياً يمتدان الى ساعة وعشر دقائق. وكالعادة مع الأوبرا في مرحلتها الكلاسيكية تتوزع على عدد من الأغنيات، التي تسمى «آريات»، وبأصوات أبطال تتوزع بدورها على عدد من الطبقات الصوتية الرجالية والنسائية، وهي هنا: السوبرانو النسائي، التينور الصداح، الباريتون، الحافلة الخفيض للرجال. ولا يشترك الكورس إلا في مطلع الأوبرا. وفي مفتتح كل فصل استعمل موتسارت فاصلاً درامياً، ينفرد فيه أحد الشخوص بحوار مع النفس لا يخضع للحن، ولكن يندفع بالقاء متدفق عالي الدرامية، بصحبة موسيقى تعبيرية آسرة.

الأوبرا صدرت باسطوانة CD واحدة. وكم تليق براغب في ارتياد عالم موتسارت، كخطوة أولى على طريق الدربة الموسيقية.