الأغنية العراقية بين سلب الداخل ونهب الخارج

حميدة العربي

TT

عمليات السلب والنهب التي طالت كل شيء في العراق، حدثت بعد الحرب، كما هو معلوم ومعروف، الا ان مأساة الاغنية العراقية ان الاعتداء عليها سبق ذلك التاريخ بزمن طويل.. فقد بدأ الاعتداء على الغناء العراقي يوم قرر المسؤولون في الاذاعة والتلفزيون، سابقا، مسح اغاني فرقة الانشاد العراقية واغاني بعض المطربين القدامى، الاقل شهرة، وتسجيل خطابات الرئيس عليها، وذلك لقلة الاشرطة في فترة الحصار ولان (خطابات الرئيس اهم من كل الغناء العراقي) حسب تبرير فاروق هلال لهذا العمل الغريب، حيث اعلن، مفتخرا، اكثر من مرة على الفضائيات انهم، بهذه الطريقة، تحايلوا على الحصار وانتصروا عليه.

في الوقت نفسه كان المغنون الشباب ينهبون تراث المطربين الرواد والمطربين الذين سبقوهم مثل حسين نعمة وفؤاد سالم وفاضل عواد وصلاح عبد الغفور وغيرهم، حيث تم نهب اغانيهم بشكل علني صارخ وتناثرت تلك الاغاني بشكل مشوه على ألسنة المغنين الشباب الذين يدعون جهلا او صلافة، ان تلك الاغنيات تراثية قديمة.

واشهر عمليات النهب قامت بها المغنية غزلان التي ورثت الفنان المبدع سعدي الحلي وهو على قيد الحياة، فقد غنت جميع اغنياته تقريبا بحجة اعجابها بتلك الاغاني، وكونت اسمها وشهرتها على حساب هذا الفنان المعتزل، ولم يكن لها من رصيد فني، في ذلك الوقت، سوى اغنيات سعدي الحلي، الذي حاول رفع دعوى ضدها الا ان الحرب حالت دون ذلك. وهكذا ضاعت حقوقه كما ضاعت حقوق الفنانين الآخرين، فمن ينصف هؤلاء الفنانين؟ واي قانون سيرد لهم حقوقهم؟ ومتى؟ واغلبهم متناثرون في اصقاع الارض يذوبون حزنا وحسرة على تراثهم الفني المسلوب.. حتى ان الموسيقار عباس جميل اضطر في السنوات الاخيرة الى ان يعيد الحانه بصوته، بمصاحبة العود، بعد ان توزعت تلك الالحان على ألسنة المغنين العراقيين والعرب من دون الاشارة الى ملحنها، بل ان احدا لم يصدقه حين يعلن ان هذه الاغنية او تلك من الحانه! هذا في الداخل، اما في الخارج فان نهب التراث الفني والادبي العراقي يتم علنا وتحت نظر وسمع الجميع.. والذين يعرفون يلزمون الصمت، تهربا او تواطؤا، وقد سارع الكثيرون لاقتناص الفرصة التاريخية للتطاول على ما تبقى من ذلك التراث بطريقة استفزازية تثير الاستغراب. فقد عمد بعض المغنين العرب الى تقديم الاغاني العراقية القديمة والفولكلورية من دون الاشارة الى مصدرها او صاحبها الاصلي معتقدين، بقصد او بدونه، انه بمرور الوقت سوف تنسب اليهم او لتراث بلدهم.. لعدم وجود من يوقف هذا الاعتداء.. اولا ولعدم وجود من يطالب برد الحقوق الى اصحابها.. ثانيا.

والتطاول على الغناء العراقي من الخارج هو الآخر بدأ منذ زمن بعيد فأغنية مثل (يا عين موليتين يا عين موليه.. جسر الحديد انقطع من دوس رجليه) هي اغنية عراقية من لون المولية كما ذكرها الاب انستاس الكرملي في كتابه (مجموعة الاغاني العراقية العامية) وقد تنافس عليها جمع من المغنين والمغنيات كل يدعي انها من تراث بلده، وكذلك اغنية (يا الراكب عل العبية.. حول وارتاح شويه) ونصها الاصلي يقول: اريد اشرج تشريج.. واقضي العمر بطويريج، وطويريج مدينة عراقية تقع بين الحلة وكربلاء. اما اغنية (عيني ومي عيني يعنيد يا يابه) فقد زعموا انها فولكلور ليبي ثم فولكلور اردني والحقيقة انها اغنية عراقية للمطرب الراحل حضيري ابو عزيز، كلاما ولحنا واداء، قدمها في الثلاثينات من القرن الماضي. وما حدث للمطربة انغام حين غنت اغنية (هذا الحلو قاتلني يا عمة) للمحلن العراقي محمد نوشي، غناء الراحلة لميعة توفيق، وغيرها الكثير من الاغاني لملحنين عراقيين رواد، كل ذلك يشير الى ان الغناء العراقي صار في متناول الجميع لا يتردد احد في اختيار ما يريد منه من دون حرج او وازع، وللاسف الشديد ان بعض العراقيين من اشباه الملحنين والموزعين صاروا يبيعون الاغاني التراثية الى المغنين العرب من الشباب، وكأن هذه الاغاني ملك ورثوه عن اجدادهم، كما عمد بعض المغنين العرب الى ادخال بعض الابوذيات والمواويل العراقية الى اغنياتهم، حيث تبدو وكأنها جزء من الاغنية فلا يكتشفها الا العراقي، لكن هيهات فالغناء العراقي هوية متميزة، صعبة على التقليد، عصية على التزوير.

لا بأس ان يجرب المطرب لونا غير لونه الاصلي، كأن يغني المصري اللون الخليجي او يقدم اللبناني اغنية مصرية او عراقية.. كما فعل الكثير من الفنانين.. مثل الراحلة ذكرى، انغام، هاني شاكر، نبيل شعيل والفنان راشد الماجد الذي ابدع في اغنية (هالعيون) وهي من اللون العراقي، كلاما ولحنا وايقاعات، وحتى الحركات الراقصة في الفيديو كليب مأخوذة من رقصتي الهجع والبزخ العراقيتين، لكن الالتفاف على الموضوع والاشارة الى اللحن على انه (لحن قديم) ما هو الا تحايل واخفاء للحقيقة.

بقي على وزارة الثقافة العراقية الحالية والمقبلة ان تنتبه لهذا النوع من السلب والنهب وتحاول ايجاد طريقة ناجعة لايقافه وتثبيت حقوق الفنانين والادباء والمحافظة على تراث العراقيين الادبي والفني، لان العراقيين يعتبرون ثروتهم الادبية والفنية اهم من ثروة النفط، التي لم تجلب لهم لحد الآن، الا المصائب!.