الشخص الثالث «العذول» في الأغنية العربية .. ما مصيره؟

TT

تميزت الاغنية العربية القديمة عموما، بالطابع الدرامي الذي طبعها بشكل واضح، فمعظم الاغاني القديمة تتميز بوجود عنصر الخير المتمثل بالأحبة وعنصر الشر المتمثل بالعواذل والحساد واللائمين. والعاذل والعذول شخصية اجتماعية واقعية، شرقية ـ بحتة ـ (لا وجود لها في المجتمع الغربي ولا في الغناء الغربي) ومن صفات هذه الشخصية، التدخل في شؤون الآخرين، التحسس والتلصص على افعال الغير، النقد الهدام، القيل والقال وكثرة السؤال، واذا وجدت ظروفا مواتية قد تتمادى وتقضي على العلاقة برمتها، وبسبب هذه الصفات غير السوية اكتسبت شخصية العذول بعدا دراميا واضحا، وبذلك مثلث عنصر الشر المعادل لعنصر الخير في العملية الفنية ـ الغنائية.

وظلت شخصية العذول حاضرة بقوة في الاغنية القديمة، فأغلب الاغاني تشير الى العذول سواء من قريب او من بعيد..وما نسمعه من المطرب او المطربة هو نتيجة لأفعال العواذل، وكل ما يصيب الاحبة من عذاب او فراق او زعل او هجر.. الخ من المعاناة.. سببه وشاية او ادعاء او فتنة او مؤامرة من هؤلاء العواذل، وهناك اغان خصصت للعواذل، «العواذل يا ما قالوا ليه تحبوا ليه»، «عذالك علموك عالهجر وعودوك»، «الحبايب يسمعونا والعواذل يحسدونا» او للكيد بهم، «والنبي لنكيد العذال»، «كايدة العذال انا من يومي» او للتشفي بهم، «ياعواذل فلفلوا.. ما قلّي وقلتلوا»، وهناك من يتحداهم، «اهواك رغم العذول اللي علينا جسيس».

وعند منتصف الخمسينات مع تنامي الصراعات الفكرية والثقافية والاجتماعية المختلفة ومع بزوغ نجم عبد الحليم حافظ وسيطرته شبه الكاملة على الساحة الغنائية الشبابية آنذاك، طغت المسحة الرومانسية على الاغنية وصارت الشكوى والاحزان غير واضحة الاسباب والمصدر.. ولعلها ناتجة عن اسباب ذاتية ونفسية او ان الاحبة تمردوا على احبتهم لاسباب خاصة بهم، وتركوا هؤلاء للمعاناة والشكوى! «في يوم في شهر في سنة.. تهدا الجراح وتنام»، «حمال الاسية طول عمرك يا قلبي»، «وحدي قاعدة في البيت.. فكرت بحالي وبكيت». ومع ذلك ظلت اساسيات الاغنية على حالها، خصوصا وجود الشخص الثالث العذول، الا ان عبد الحليم المجدد دائما، قلب الموازين كلها عندما تحدث عن شخص ثالث ليس عاذلا او حاسدا او لائما ولا حتى ناقدا.. بل مساهما ومشاركا فعليا في العلاقة عندما غنى.. «حبيبها لست وحدك حبيبها، حبيبها انا قبلك، وربما جئت بعدك، وربما كنت مثلك حبيبها». هكذا وبجرأة وقف امام الشخص الثالث وتحداه بأنه حبيبها مثله! لعل اغنية «لا تكذبي» سبقت «حبيبها» في الاشارة الى الشخص الثالث المشارك الا ان هذا المشارك غائب، يذكر في الكلام فقط، اما في «حبيبها» فالموقف مختلف.. رجل امام رجل، يقر بوجوده ويتحداه مباشرة! واغلب الظن ان عبد الحليم هو الوحيد الذي تعود على وجود هذا الشخص: «فاتت جنبنا انا وهو.. وضحكت لنا انا وهو».

وخلال بحثي الشامل في موضوع الاغنية لم اجد اغنية واحدة يكون فيها المطرب هو العذول الذي يسعى لتخريب علاقات الآخرين.. ربما كان المطرب غيورا او حاسدا في بعض الاغاني مثل: «ايوه باغير.. لسه باغير»، «الله وياك روح اتمهل بحبك». الا انه لم يتجرأ ويصبح عنصر شر.

ظل الشخص الثالث ماثلا بدرجة اقل، في الاغنية حتى منتصف الثمانينات مع ظهور ما يسمى بالاغنية الحديثة او الشبابية وطغيان الموجة الهجينية في الكلام والالحان والموسيقى، حيث تميزت هذه الاغاني بخلوها من المعاناة التي تميز بها الغناء القديم وبالتالي بعدها عن الدراما، وصارت الصفة المميزة للاغاني الحديثة هي صفة اللامبالاة وعدم الاهتمام بأي شيء، لا بالحبيب ولا بالعواذل ولا بالمشارك ولا حتى بالمتلقي الذي يفترض انه المحرض والمحفز لكل ابداع انساني، الكل يعمل لشخصه ولمصلحته فقط، سواء حضر الحبيب ام غاب، تدخل العواذل ام لا، واللامبالاة ظهرت ملامحها في السبعينات ولكن بأغانيات معدودة لم تشكل ظاهرة «قاللي بتحبيني قلتلو لا والله بدك تزعل ازعل مش مهتمي والله»، «باينله بيحلم.. مش قادر يفهم.. فيه مليون غيره».

وظهرت اللامبالاة بشكل جلي في الاغاني العراقية منتصف الثمانينات.. سعدون جابر غنى: «حبيتك واللي يهوى بكيفه تريد تظل تريد تروح (لا فرق) ثم محمود انور: «لو تحب لو ما تحب هي وحدة من اثنين».. وحسين نعمة: «حبيبي انساني وانه انساك.. هذا آخر خطاب وياك».. وبعدهم كاظم الساهر: «تبكي ما تبكي ابد.. بعد متحرك احساسي» ثم جاءت الهجمة الهجينية واصبحت اللامبالاة طابع الاغنية الحديثة بامتياز.. حتى السيدة فيروز لم تنج من هذا: «تمرق علي امرق مبتمرق ما تمرق.. مش فارقة معاي.. تعشق علي اعشق مبتعشق ما تعشق مش قصة هاي».

اما الشخص الثالث الذي تحداه عبد الحليم وعانى ما عانى بسببه فقد ظهر في الاغنية الحديثة بشكل طبيعي، لم يعان منه احد.. ولم ينكر او يستنكر وجوده احد واصبح دوره هامشيا.. فالعشاق يلتقون امام ناظريه، من دون ان يبالوا به او بكلامه ولم تعد تهمهم وشاياته ولا حتى مؤامراته.. وهو الآخر ملّ من هذه المهمة.. ولم يعد يهتم بما يفعل العشاق، وبمرور الوقت وتراكم الاغاني الخالية من المواضيع المهمة اصبح الشخص الثالث ظاهرة طبيعية تتقبلها الاطراف الاخرى ببرود احيانا وعدم اكتراث في احيان اخرى رغم انه تحول نهائيا الى مشارك في العلاقة. راغب علامة، بكل بساطة، احب حبيبة صديقه.. اصالة صاحت بيأس: نعمل ايه احنه الثلاثة.. اما انغام فتتساءل بهدوء غريب: بتحبها واللا بتفكرك بيّ.

كاظم الساهر فقط طرح الشخص الثالث، أخيرا، بطريقة مبتكرة حقا في اغنية «كان صديقي».. حيث ظهر المطرب هو الشخص الثالث.. ولكنه ليس عاذلا او حاسدا ولا حتى مشاركا.. بل انه صديق مساند ومساعد.. يعرف كل تفاصيل الحكاية.. يعاني مع الحبيبين ويتألم لهما ويثق به الطرفان.. وهذا ما منحه حضورا قويا جعله بطل الحكاية. ولكن في اغلب الاغاني الحديثة تظل اللامبالاة قائمة والبرود سيد الموقف، وبين هذا وتلك لا ندري حقا هل هي قناعة بحتمية وجود هذا الشخص ـ دائما ـ بين المحبين واستسلام للامر الواقع لا مفر منه؟ ام ان الامر مجرد طرح وطرق لموضوع طرقه اهل الغناء القديم بطريقتهم الواقعية، لاهميته عندهم، فأراد اهل الغناء الحديث طرحه بطريقتهم اللامبالية فجاءت النتيجة باهتة، بعيدة كل البعد عن الواقع والمنطق، فليس هناك انسان واحد يقبل ان يشاركه احد فيمن يحب، ولو حصل فعلا فان رد فعله سيكون قويا وشديدا وربما قاسيا على نفسه وعلى الآخر، كما حصل لعبد الحليم فقد تركه الامر (وحيدا شريدا، محطم الخطوات بعضه يمزق بعضه!).

اما «جماعة الغناء الحديث» هذه الايام، فاما انهم لا مبالون بشكل مريب.. او انهم من كوكب آخر! عشنا وشفنا!