ربيع أبو خليل: لن تتحول الموسيقى إلى لغة عالمية إذا عوملت بالسطحية التي نشهدها

المؤلف والموسيقي اللبناني يرى أن الموسيقيين الذين يعملون معه رائعون وأن معاييره تستند إلى شخصية العازف وأسلوبه

TT

ينفي المؤلف الموسيقي اللبناني ربيع ابو خليل اعتماده خطة داخل الانظمة الموسيقية المتباينة على الساحة العالمية، ورحيله من بيروت الى المانيا، حيث انطلق بهذا الفن، لم يكن للبحث في اصوله وقواعده ومذاهبه ومدارسه، فهو لا ينتهج خطة للتأليف والعزف ولا يسعى الى تجارة لحاجة او ضرورة، السبب الوحيد كما قال لـ «الشرق الاوسط» غداة مشاركته في مهرجانات بعلبك الدولية، هو التعبير عن نفسه بالنغم وحده من دون سواه، لانه لا يسكب الحانه على الكلام، ولا يبني موسيقاه كالمهندس. لكنه من جهة ثانية يهتم بالموسيقى كثقافة بمعزل عن نوعها، يعتنقها جزءاً لا يتجزأ من شخصيته وروحه.

وربيع، الذي نشأ في مناخ بيروت الستينات والسبعينات، تعلم العزف على العود في طفولته، ويقول ان آلته جاءت تلقائيا الى حياته من دون تفكير او اختيار، فهو وقبل التعرف الى الآلات كان يبحث عن الموسيقى بحد ذاتها، لكنه لا ينفي تعلقه بالعود، هو آخر من يتركه قبل نومه وأول من يشاركه صباحه. ويمعن في انسنته، فيصطحبه معه اينما ذهب، في الطائرة او القطار، من دونه يشعر انه من دون طرف متتم ليده، ويؤكد انه لم يحلم بغير الموسيقى والعزف. ومع اندلاع الحرب الاهلية عام 1978 عندما غادر ربيع لبنان الى المانيا. بدأ بدراسة العزف الكلاسيكي على الناي في اكاديمية ميونيخ للموسيقى مع الاستاذ فالتير تويرير، ولم يثنه الاهتمام بالموسيقى الاوروبية الكلاسيكية عن تقدير الموسيقى العربية التقليدية، ليطلع من تجربته باسلوب خاص بعيد عن الانماط المترسخة للشكل الموسيقي ومضمونه وهدفه، لذا يسعده ان يتباهى بأن موسيقاه له وليست لأي من المدارس الموجودة. اما عن صعوبة فرضه هذا الاسلوب في العالم فيقول ابو خليل: «كل شيء صعب، اذا اردنا ان نتكلم عن الصعوبة، وكل شيء سهل بعد نجاحه. لا سيما ان الفكرة بحد ذاتها لم تكن سهلة التحقيق قبل تنفيذها، فالموسيقى التي اريدها ليست تجارية ولا ترافق الغناء، واحياناً افكر كيف نجحت. مع ان البداية كانت في صعوبة لفظ اسمي من قبل الالمان، حيث انطلقت، وفي رفض الشركات الالمانية اعمال شاب اسمه ثقيل على الحفظ ويعزف على العود، لم يكونوا قد سمعوا بهذه الآلة. لذا قررت ان انتج اسطوانتي الاولى، ثم حملت انتاجي في كيس بعد ان اعطيته اسم «تأليف وارتجال» ودرت على محال الموسيقى. وكانت المفاجأة ان الاسطوانة راجت وحازت المرتبة الاولى لاسبوع ثم لشهر ثم لعام. تابعت انتاجي الخاص وانا ادرس علم الموسيقى والفلسفة والعلوم السياسية. وحصلت اعمالي على تنويه ومقالات نقدية مشجعة. كنت اعرف الى اين اسير، وكان لدي احساس بقدرتي على التواصل مع العالم بالموسيقى».

* هل يعني ذلك ان الموسيقى لغة عالمية؟

ـ الكل يستطيع ان يفهم الموسيقى اذا اراد. واذا اجاد الاستماع، فالفن يجب ان يوحي باكثر مما يحمل في ظاهره، والموسيقى يفترض ان توّلد الاحلام، من هنا لن تتحول الموسيقى الى لغة عالمية، اذا عوملت بالسطحية التي نشهدها في ايامنا هذه. ومن هنا نجد ان افضل المستمعين هم موسيقيون اكثر من مؤلفي الموسيقى. الامر يتعلق بالفرد وليس بنوعية الموسيقى وانتمائها الجغرافي. فما نسمعه اليوم على انه تقليدي كان بالامس ثورياً. ولا اعرف شعباً لا يملك موسيقاه الخاصة ومن ثم يطورها، اعرف شعوباً عدة لا تملك ادباً خاصاً او مسرحاً خاصاً. ولكن ليس هناك شعب من دون موسيقى. وللتعاطي مع الموسيقى كلغة عالمية يجب ان يملك المستمع الاستعداد والحس المرهف والقدرة على الحب والشغف.

* اين تكمن العلة في التعاطي الجماهيري مع الموسيقى الرائجة في ايامنا هذه؟

ـ العلة في انتشار السطحية، الناس تستمع كما تأكل الهمبرغر، وتصنع النجوم بالاسلوب ذاته. فالتفكير الحالي ينحصر بأن المال قادر على كل شيء، حتى على اختراع النجوم واعدادهم، في الماضي كان الفنان يتحدى العالم ليصبح نجماً، اما اليوم فيمكن اختيار اي كان وتحويله نجماً وفي اقل فترة زمنية ممكنة. المخيف في الامر انهم ينجحون على حساب الروح والعاطفة والانسانية. لم يعد هناك من يوجّه الجمهور الى الاحساس بالغرام في كل ما يفعله فالحواس الخمس لا تكتمل من دون فن في التذوق والشم واللمس والاستماع والنظر. والاحساس بالموسيقى يجب ان يكون تعبيراً لقدرة هذه الحواس على التفاعل مع حسية الفن من دون ابتذال. نحن اليوم نعيش بعيداً كأننا نكتب شعراً عن الحب من دون عشق، او كأن هناك تغييباً طوعياً لعمق يجمع الحس بالعاطفة والحب بالجنس والفن بالتقنية والفكر بالقلب. هذه الاشياء نقصت كثيراً.

* هل تعتقد ان الانفتاح على الغرب اساء الى اصالة الفن في مجتمعاتنا الشرقية؟

ـ نحن نأخذ من الغرب السلبيات، ولا نجيد اخذ الايجابيات. السؤال الذي يحيرني هو: هل يمكن لشأن انساني بحت كالموسيقى والفن والروح ان يصبح بهذه السطحية وتتحول من الغنى الى فقر لتذوق الحياة؟

* لعله البحث عن النجومية بأسرع الطرق واسهلها؟

ـ انا اخاف من النجومية، لا اعرف كيف يبحثون عنها، ليست النجومية بحد ذاتها وانما سطحيتها المقرونة بأسلوب التفكير والتأخير الذي تفرضه على النجم انا افضل ان احصل على تقدير الآخرين لاعمالي اكثر من رغبتي في تصنيفي نجماً.

* ولكنك تحرص على تصنيفك فناناً عالمياً؟

ـ لا احرص على ذلك ولا اعرف ان كنت سأستمر. في اوروبا يصنفون الموسيقى كلاسيكية اذا استمرت سنوات وحجزت مكانة لها لدى المستمعين. وانا لا اعرف اين ستصبح موسيقاي بعد 50 سنة او مائة سنة. لكن ما يفرحني ان بعض الفرق الناشئة تقلد اسلوبي وطريقة عملي.

* هل توافق على مقولة ان الموسيقى الجيدة للنخبة فقط وليس للعامة؟

ـ ربما، فالشائع ان ما يعجب الجميع هو ما كان مستواه في الوسط. واذا احب كل الناس موسيقاي يتدنى مستواها. اما اذا لم تعجب البعض، فالامر مقبول، والخطير هو ان يجد اي كان اعمالي غير جيدة.

* هل تختار العازفين في فرقتك بمعزل عن نجوميتهم، وما هي معاييرك في العزف الجماعي؟

ـ بالتأكيد اختار العازف الماهر، الامر مهم جداً، والموسيقيون الذين يعملون معي رائعون. ومعاييري تستند الى شخصية العازف واسلوبه، ربما قبل نوعية عزفه وآلته. فأنا لا احبذ التعامل مع عازف يغيّر شخصيته واسلوبه كل يوم، كما السياسي الذي لا يطاق، واذا لم اتعرف الى شخصية العازف لا استطيع ان اتفاعل او اتشاجر معه. فأنا لا اختار رفاقي من مستودع يحتوي تشكيلة من العازفين. يجب ان اجد من هو قريب الي مع تمتعه بتقنية عالية في العزف.

* هل تسعى الى توجيه العازفين وتحرص على التزامهم بخطة محددة ام تترك مساحة للارتجال في حفلاتك؟

ـ الارتجال موجود، لكني احدد الاتجاه واحرص على ان اترك للموسيقيين حريتهم في اظهار اهميتهم. لا اتعامل معهم كالتلاميذ. وانما حسب شخصية كل منهم، واحياناً اختار موسيقياً لا تعجبني آلته، ولكن تقنعني مهارته وشخصيته. فالهدف ليس الآلة وانما النغم. الموسيقى يجب ان تتخطى الآلة.

* متى تستبدل موسيقياً بآخر في الفرقة؟

ـ دائماً اغير، لاسيما عندما اشعر ان العازف لم يعد يعطي الموسيقى شيئاً او العكس. وغالباً ما يقبل الآخرون الامر، ويرحلون وحدهم، مرة او مرتين ارغمت على الاستغناء وقرار الانسحاب. فأنا اعتمد مشاركة العازفين في تفسير موسيقاي، لذا عندما اغير عازفاً تتغير الموسيقى ذاتها. وغالباً ما تغيب الآلات عندما نباشر العزف، لتبقى الانغام وحدها في قضاء العمل.

* كيف تنظر الى افق الموسيقى العربية وهل تصنفها حسب بلدانها؟

ـ لا يمكن تصنيف الموسيقى العربية حسب بلدانها. هناك لهجة محلية في الموسيقى العربية، منها مثلاً لهجة لبنانية او لهجة سعودية او سودانية او مصرية. اما عن وضع الموسيقى العربية فالجواب صعب، ليس لخوفي من التورط، لكني اعتقد ان عصر الهمبرغر طاغ على موسيقانا. ربما هناك من يقوم بأعمال جيدة. لكن اذا اردنا ان نطور الموسيقى العربية يفترض بنا عدم التثبت بالتصنيف بين التراث والجديد، فبعض الجديد جيد وبعض التراث يأكله الغبار ولا يصلح حتى للمتحف. علينا الابتعاد عن الاصولية في الموسيقى والعمل في مجالات ثورية بمعزل عن الحق والباطل للدخول الى مواضيع جديدة، تماماً كما كانت الحال مع ام كلثوم او سيد درويش او غيرهما من المجددين في وظيفة الموسيقى وتحريرها على مبدأ الفن للفن.

* هل ترفض تصنيف اعمالك خوفاً من اعتقالها في اطار محدد بعيداً عن مبدأ الفن للفن؟

ـ لا اهتم بتصنيف موسيقاي، واجد بعض هذا التصنيف كلاماً لا طائل منه، فأنا اعيش في محور اوطان ثقافية، واتعاطى مع اعمالي من دون ان افكر مسبقاً، وتعدد الايقاعات والمقامات التي اكتبها مستوحاة من ثقافتي العربية، ولا اوافق من يقول اني اقدم الجاز او الموسيقى الصوفية او ما شابه.

* كيف تؤلف اعمالك؟

ـ بطريقة بسيطة، لا اصدق مسألة الالهام ولحظات الابداع التي يرددها البعض، تأتيني الافكار الموسيقية بتلقائية، كما غيرها من افكاري اليومية المتعلقة بحياتي. وبعد ذلك اطورها واعمل على تحسينها.

* هل تعتبر نفسك عبقرياً لتصل الى العالمية بهذه البساطة في العمل؟

ـ ليس الامر على هذا النحو، فالموسيقى تعطيني الكثير، لذا لا احمل هماً ولا ابحث عن مجال للانتشار عبر الحفلات والمهرجانات. ولا يؤثر الاقبال على التعاقد معي على احساسي برغبة دائمة في العمل. فانا سعيد واعتبر ان حياتي اجازة متواصلة.

* هل واجهت اي اضطهاد او عرقلة لاعمالك لأنك عربي في الغرب، لاسيما بعد احداث 11 سبتمبر (ايلول)؟

ـ لم اصادف اي اضطهاد لاني عربي، وبالعكس فانا اعبر عن قناعاتي وآرائي في حفلاتي، ولا اخفي اصلي اينما كنت. لم اغير اسمي وما ازال اتكلم لغتي العربية بطلاقة. فالترويج الحالي للخوف من العرب وتجنبهم والارهاب الاصولي لا مكانة له في صفوف الناس، كأن الامر يقتصر على السياسة والمصالح، اما على الارض، وعلى الاقل في صفوف المثقفين لا ألمسه، جمهوري ما زال على حاله من التفاعل مع اعمالي وآرائي، وحفلاتي على حالها كثيفة ورائجة.