المأساة الفلسطينية في «باب الشمس»: قسوة ونقد وتلميح يفوق التصريح

المخرج المصري يسري نصر الله يحاكم أطراف القضية العربية في فيلم بحجم مسلسل

TT

إنهم يأكلون البرتقال بشراهة وكأنهم منه لا يشبعون، يقشرّونه بالأصابع، يبتلعونه بنهم وعصيره يقطر من أفواههم. إنه برتقال فلسطين الذي أتت بشتلة منه أم حسن إلى لبنان بعد أن فقدت بيّارتها وأرضها وبيتها، ولم تبق لها من تلك الأيام إلا نكهة البرتقال. هذا المشهد الرمزي الذي يفتتح به المخرج المصري يسري نصر الله الجزء الأول «الرحيل» كما الثاني «العودة» من فيلمه الطويل «باب الشمس»، المأخوذ عن رواية الياس خوري التي تحمل الاسم نفسه، لا يقل رمزية عن اختيار مقبرة مجزرة صبرا وشاتيلا مؤخراً، لعرض هذا الفيلم/ المحاكمة، في عرائها الليلي أمام اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، ليكونوا من أوائل الشاهدين على ولادته. فالرواية، في البدء، جمعت من ألسن هؤلاء النازحين، والمشاهد في جزء منها صورت بين بيوتهم.

يسري نصر الله لم يجاهد كي يقدّم يهود إسرائيل بوجه إجرامي فظ، بل على العكس جعل وجه المغتصب للأرض يتوارى قدر الممكن، بل قل ان المغتصب عند يسري يساوي شبحاً ضبابي القسمات، سلّط كاميرته على الفلسطينية الصغيرة نهيلة، وهي تتزوج من المقاوم الشاب يونس وتلتحق بعائلته وتحمل بولدها الأول، ثم رأينا العائلة مع أهل القرية تقطف الزيتون بفرح الأطفال، وفي بقعة محاذية مستوطنة غريبة تنبت، ثم تلتهم النيران القرية الفلسطينية، ويجبر أهلها تحت وطأة العنف على الهروب. ولكن أي هروب؟ فالفيلم يجعل من الخروج نفسه حكاية داخل حكاية، وألماً يشحن ألما. لا شيء يغني عن رؤية هذه الرائعة المشهدية التي صوّرها المخرج لشعب يضرب بالنار ويدفع به إلى الحدود دفعا، فيفرّ ثم يكرّ وكأنما لا يصدّق الأهالي البسطاء، أن العودة باتت مستحيلة، بينما عناصر جيش الإنقاذ يمسحون قواعد مدافعهم بانتظار الأوامر التي لا تأتي. ليس فيلم «باب الشمس» من الصنف الذي تسهل مشاهدته، لا سيما الجزء الأول منه حيث لا مكان إلا لذرف الدموع أمام شاشة تعيد إلى الذاكرة حكاية المسنين الذين سقطوا تعباً أو ضرباً بالنار والأطفال الذين تاهوا والنساء اللواتي اغتصبن. كل البشاعات حصلت ولا شيء يبدو مستحيلاً أو غير ممكن الحدوث حين يتعلق الأمر بالفلسطينيين. تسجّل ليسري نصر الله جرأته النقدية، وتحرره من عقدة الذنب أمام المأساة الفلسطينية، وقد يقول البعض ان سكب الملامة على العرب ومواراة الإجرام الإسرائيلي ليس فعل جرأة وإنما مداهنة للمنتجين الغربيين. كل الأطراف العربية استحقت أن تعرّى عوراتها دون استثناء، الرجال الفلسطينيون الذين قبلوا الهزيمة وصدّقوا أن النزوح هو طريقهم الوحيد، خالفتهن النسوة الرأي حين قررن العودة من منتصف الطريق ليجبرن بذلك رجالهن على اللحاق بهن (في إشارة إلى خوار الفحولة مقابل صمود النساء)، جيش الإنقاذ صوّر عاطلاً عن العمل لحظة كان الموت يفتك بالأبرياء العزّل، موقف لم يحتمله أحد الجنود، فانتحر وسط الفلسطينيين ليتخلّص من عاره. لم يعف المخرج نفسه من مهمة انتقاد المجتمع الفلسطيني نفسه قبل هزيمة 48، فالحياة أقرب إلى البداوة، والعلم للنسوان عار، والزيجات كئيبة وتستدعي الرثاء. وبينما يخطط اليهود للانقضاض على الأهالي البسطاء، بالكاد يجيد الفلسطيني فكّ الحرف وقراءة القرآن أو فهم حقيقة ما يدور حوله.

ثمة قسوة بيّنة، ونقد لاذع ومرير، تشتد وطأته في الجزء الثاني، حين يصل الفلسطينيون إلى لبنان. هذه المرة نرى رجل المخابرات اللبناني واضح القسمات يتحدث بكلام صارم، يحذّر المقاوم يونس من الاقتراب من الحدود الإسرائيلية بعد أن يهشّم وجهه وأسنانه ضرباً ولكماً. ليست الصدفة هي التي تجعل الشرطي اللبناني يقول لأحد اللاجئين «لو كان فيك خير ما كنت تركت ارضك»، وليس جزافاً أن تكون قسمات وجه المعتدي الإسرائيلي أقل وضوحاً من المخابراتي اللبناني. وليس بريئاً أيضاً إبراز انحراف مسالك المقاتلين الفلسطينيين اثناء الحرب اللبنانية وتسليط الضوء على فتكهم ببعضهم البعض. فالدكتور خليل او الراوي الأساسي في القصة يرينا منذ البدء كيف ان حبيبته «شمس» إمرأة مسترجلة وقاتلة، تغتال رجلاً فلسطينياً خدعها ثم سرعان ما تقتل هي الأخرى. الفدائيون الذين قتلوا بنيران الفدائيين في المخيمات ليسوا قلة. خليل يقول «ضعنا غيّرنا شعاراتنا وتحالفاتنا»، ويتساءل كيف ضلّ الفلسطينيون الطريق ونسوا فلسطين. ثمة أسئلة كثيرة تجول في نفس المشاهد، حول مرامي المخرج، أهي نزعة الأنسنة والاعتدال هي التي دفعته إلى كشف كل ستر مغطى غير آبه برأفة على الضحايا، لا تخرج من منطلق البحث عن الحقيقة، أم هو التمويل الفرنسي الذي ألزمه هذا الخط غير المعهود في السينما العربية المعنية بفلسطين؟ نصر الله ينكر كل تأثير لمحطة «آرتيه» التلفزيونية المنتجة للعمل على توجهات الفيلم، لكن السؤال يبقى مشروعاً حول مدى العبء الذي يشكله التمويل الأجنبي ولو معنوياً على السينمائيين العرب.

الجانب التوثيقي بديع، والنقد المرّ مشروع، لكن إبقاء الأشخاص الإسرائيليين أقرب إلى الإبهام والشبحية بحيث لا يرون إلا من أعمالهم يثير الريبة، في نفوس البعض ربما! كل هذا لا يقلل من القيمة التوثيقية للفيلم، من مهارة حركة الكاميرا ونقاء المشهد، من نبرة الشريط المتمردة على المألوف، من جمالية صيغة المشاهد المأساوية التي استطاعت رغم كل شيء أن تتمحور حول قصة حب أقرب إلى الأسطورية بين الزوجين المقاومين (نهيلة ويونس)، اللذين ينجبان قبيلة من الأولاد في مغارة مهجورة، حوّلاها إلى عش غرام سرّي لا تصل إليه عيون الاحتلال، الساعي للقبض على الزوج الشرّيد. في الجزء الثاني الذي يروي أخبار الجيل الثاني بعد النزوح إلى لبنان خليل وشمس يرثان العشق الهارب عن الأعين الفضولية ولكن في دراماتيكية تودي إلى خيبة. على عكس ثنائي الجيل الأول الذي خلّف الأولاد، لا نرى في علاقة الثنائي الشاب سوى اللعنة والطرق المسدودة، والبحث المفعم بالضياع عن نصف آخر يصعب معه تحقيق الاكتمال. لا ندري لماذا زجّ بتفاصيل استطرادية كان يمكن الاستغناء عنها بسهولة في الجزء الثاني حوّلت المشاهد إلى اسكتشات غير مترابطة بالحد الكافي، ليبلغ هذا الفيلم في النهاية، مدة زمنية قياسية هي أصلح لمسلسل تلفزيوني منها إلى عمل سينمائي، فرغم الجهد الهائل المبذول في كتابة السيناريو والتحرر من النص الروائي الأصلي بقيت لعنة الرواية بتفاصيلها التي يتوجب ان تلفظها السينما عالقة في «باب الشمس»، والموسيقى اضعف من ان تدعم قوة المشاهد التي اختير لها بقاع فاتنة من لبنان وسورية عوضاً عن فلسطين حيث يستحيل الوصول إلى أراضيها المنهوبة. لكن ما يجب ان يقال في هذا الفيلم الذي مهما تباينت الآراء حوله، هو انه يبقى علامة فارقة في سينما فلسطين، انه فيلم لا يخلو من خبث إبداعي، وتلميحات تفوق التصريح قوة، وهو على أي حال، رؤيا سينمائية جديدة لقضية أربكت العرب لعقود وستكون محور معضلاتهم لعقود طويلة مقبلة.